الرئيسية / بحوث اسلامية / البدعة وآثارها الموبقة (لـ جعفر السبحاني)

البدعة وآثارها الموبقة (لـ جعفر السبحاني)

قال الله تبارك وتعالى:

{ وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتِكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ }. النحل/116

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

“إنّ أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدى محمد، وشرّ الأُمور مُحدثاتها وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النار”. جامع الأُصول 5: رقم 3974


الصفحة 5


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه وحده نستعين وعليه وحده نتوكل

والحمد لله ربّ العالمين، والصَّلاة والسلام على سيد رُسُله، وخاتم أنبيائه وآله ومن سار على خطاهم وتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يولي المسلمون أهميّة كبرى للعقيدة الصحيحة لأنّها تشكّل حجر الزاوية في سلوكهم ومناراً يضيءُ دروبهم وزاداً لمعادهم.

ولهذا كرّسَ رسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الفترة المكيّة من حياته الرسالية نفسه لإرساء أُسس التوحيد الخالص، ومكافحة الشرك والوثنية، ثم بنى عليها في الفترة المدنية صَرحَ النظامِ الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والسياسيّ.

ولهذا ـ ونظراً للحاجةِ المتزايدة ـ رأينا أن نقدّم للأُمةِ الإسلاميّة الكريمة دراسات عقائدية عابرة مستمدَّة من كتاب اللهِ العزيز، والسُنّةِ الشريفة الصحيحة، والعقل السليم، وما اتَّفق عليه علماءُ الأُمةِ الكرام، تُروي ظمأَ العطشانِ، وتلَبّي حاجةَ المشتاق، وتساعد على إيقاظ الأُمة، وتوحيد صفوفها، والله الموفِّق.

معاونيّة التعليم والبحوث الإسلاميّة


الصفحة 6


بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم

تعدّ البدعة في الدين من المعاصي الكبيرة والمحرّمات العظيمة، التي دلّ على حرمتها الكتاب والسنّة، كما واُوعِد صاحبُها النار على لسان النبيّ الأكرم، وذلك لأنّ المبتدع ينازع سلطان الله تبارك وتعالى في التشريع والتقنين، ويتدخّل في دينه ويُشرِّع ما لم يشرِّعه، فيزيد عليه شيئاً وينقص منه شيئاً في مجالي العقيدة والشريعة، كلّ ذلك افتراء على الله.

وقد بُعث النبيّ الأكرم بحبل الله المتين، وأمر المسلمين الاعتصام به، ونهى عن التفرّق، وقال:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ اِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ اِخْوَاناً}(آل عمران/103).

ولكن المبتدع يستهدف حبلَ الله المتين، ليوهنه ويخرجه من متانته بما يزيد عليه أو ينقص منه، وبالتالي يجعل من الأُمة الواحدة أمماً شتّى، يبغض بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً، فيتحوّلون إلى شيع


الصفحة 7


وطوائف متفرّقين، فرائس للشيطان وأذنابه، وعلى شفا حفرة من النار، على خلاف ما كانوا عليه في عصر الرسالة.

إنّ المسلمين بعد رحيل الرسول تفرّقوا إلى أُمم ومذاهبَ مختلفة، ولم يكن ذلك إلاّ إثْر تلاعب المبتدعين في الدين والشريعة، بإدخال ما ليس من الدين في الدين. وكان عملهم تحويراً لصميم العقيدة الإسلامية وشريعتها. فلولا البدعة والمبتدعون وانتحالُ المبطلين، لكانت الأُمة الإسلامية أُمة واحدة، لها سيادتها على جميع الأُمم والشعوب في أنحاء المعمورة. وما أثنى ظهورهم إلاّ دبيبُ المبتدع بينهم، فشتَّتهم وفرَّقهم بعدما كانوا صامدين كالجبل الأشم.

والحروب الدموية التي خاضها المسلمون في عصر الخلافة وبعدها، وخضّبت الأرض بالدماء الطاهرة، وسلّ المسلمون سيوفهم في وجه بعضهم، فسقط منهم آلاف القتلى والجرحى على الأرض هي من جراء البدع النابعة عن الأهواء والميول النفسانية حيث كانوا يتحاربون باسم الدين، ولم يكن الدين إلاّ في جانب واحد، لا في جوانب متكثرة.

إنّ صراط النجاة في الإسلام هو صراط واحد مستقيم دعا إليه المؤمنين عامّة وقال:{وَأَنَّ هذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهُ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(الأنعام/153).

وأمر المسلمين أن يدعوا الله سبحانه، أن يثبتهم على هذا الصراط كي لا ينحرفوا يميناً وشمالا كما يقول سبحانه تعليماً لعباده:{اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}ولكن المبتدع يسوق الناس إلى سبل منحرفة لاتنتهي


الصفحة 8


إلى السعادة التي أراد الله سبحانه لعباده.

فحقّ التشريع والتقنين لله تبارك وتعالى، وقد استأثر به وقال:{إِنِ الْحُكْمُ اِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا اِلاَّ اِيَّاهُ}(يوسف/40). والمراد من الحكم هو التشريع بقرينة قوله:{أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا اِلاَّ اِيَّاهُ}. فالبدعة هو تشريك الناس في ذلك الحقّ المستأثر، ودفع زمام الدين إلى أصحاب الأهواء، كي يتلاعبوا في الشريعة كيفما شاءُوا، وكيفما اقتضت مصلحتهم ومصلحة أسيادهم وأربابهم، فذلك الحق المستأثر يقتضي ألاّ يتدخّل أحد في سلطان الله وحظيرته، قال سبحانه:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة اِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلا مُبِيناً}(الأحزاب/36).

والمبتدع يتصرّف في التشريع الإسلامي فيجعل منه حلالا وحراماً بدون إذن منه سبحانه في ذلك. يقول تعالى:

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْق فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلا قُلْ ءَاللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ}(يونس/59) فالآية واردة في عمل المشركين، حيث جعلوا ما أنزل الله لهم من الرزق بعضه حراماً وبعضه حلالا، فحرّموا السائبة والبحيرة والوصيلة ونحوَها، لذا يردّ عليهم سبحانه:{ءَاللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ}أي أنّه لم يأذن لكم في شيء من ذلك، بل أنتم تكذبون على الله، ثمّ يهدّدهم بالعذاب فيقول:{وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اِنَّ اللهَ لَذُو فَضْل عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ}(يونس/60). ويؤكد عليه في آية أُخرى ويقول:{وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذَا حَلاَلٌ وَهذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى


الصفحة 9


اللهِ الْكَذِبَ اِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ}(النحل/116).

إنّ أصحاب الأهواء في كلّ زمان حتى في عصر الرسالة، كانوا يقترحون على النبيّ الأكرم أن يغيّر دينه، ويأتي بقرآن غير هذا، لكي يكون مطابقاً لما تستهويه أنفسهم، فأمر الله سبحانه أن يردّ اقتراحهم بقوله:{قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَآءِ نَفْسِي اِنْ أَتَّبِعُ اِلاَّ مَا يُوحَى اِلَيَّ اِنِّي أَخَافُ اِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْم عَظِيم}(يونس/15).

وكان في عصر الرسالة من يتقدّم على الله ورسوله، لا مشياً وإنّما يقدم رأيه على الوحي فنزل الوحي مندِّداً لهم وقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ اِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(الحجرات/1).

والكذب من المحرّمات الموبقة التي أوعدَ اللهُ عليها النار، والبدعة من أفحش الكذب، لأنّها افتراء على الله ورسوله، قال سبحانه:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ اِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}(الأنعام/21). فالمبتدع يَظهر بزيّ المحق عند المسلمين فيفتري على الله تعالى دون أن يكشفه الناس فيضلّهم عن الصراط المستقيم.

ومن المسلّم به أنّ لله في كلّ واقعة حكماً إلهيّاً لا يتبدّل ولا يتغيّر الى يوم القيامة، فاذا حكم الحاكم وِفق ذلك الحكم فهو حاكم عادل معتمد على منصَّة الحق، إلاّ أنّ المبتدع يحكم على خلاف ذلك الحق، لذلك يصفه سبحانه بكونه كافراً وظالماً وفاسقاً، قال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}وقال عزّ من قائل:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}وقال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(المائدة/44،45،46).


الصفحة 10


فما حال إنسان يحكم عليه القرآن بالكفر تارة، والظلم ثانياً والفسق ثالثاً؟ فهل ترجى له النجاة بعد أن أضلّ كثيراً من الناس، وشقّ صفوف المسلمين، وجعل السبيل الواحد سُبُلا كثيرة تضلّهم إلى مهاوي الهالكين.

ولعلّ هذا القدر من التقديم يكفي في بيان موضع البدعة وموقِف الله تعالى من المبتدع، ولأجل ذلك نرى أنّ النبيّ الأكرم قد شدّد على البدعة أو ندّد بالمبتدع بأفصح العبارات وأبلغها كما سيتّضح ذلك في الروايات الآتية.

وقد ألّف العلماء قديماً وحديثاً كتباً ورسائل حول البدعة نذكر بعضها:

1 ـ البدع والنهي عنها، لابن وضّاح القرطبي.

2 ـ الحوادث والبدع، للطرطوشي.

3 ـ الباعث، لأبي شامة.

4 ـ الاعتصام، لأبي إسحاق الشاطبي الغرناطي في جزئين وقد أسهبَ الكلام فيها.

5 ـ البدعة أنواعها وأحكامها، لصالح بن فوزان بن عبد الله فوزان طبع الرياض.

6 ـ البدعة تحديدها وموقف الإسلام منها، تأليف الدكتور عبد الملك السعدي طبع بغداد.

7 ـ البدعة في مفهومها الإسلامي الدقيق، تأليف الدكتور عبد الملك السعدي طبع بغداد.


الصفحة 11


8 ـ البدع، تأليف أبي الحسين محمّد بن بحر الرُّهني الشيباني، ذكرها النجاشي في رجاله برقم 1044.

9 ـ البدع المحدثة، للشريف أبو القاسم الكوفي المتوفى بفسا سنة 352 هـ وطبع باسم الاستغاثة، في النجف الأشرف.

10 ـ البدع، تأليف الدكتور الشيخ جعفر الباقري، وهي دراسة موضوعية لمفهوم البدعة وتطبيقاتها على ضوء منهج أهل البيت وهو على وشك الصدور.

ومع احترامنا وتكريمنا لجهودهم، إلاّ أنّ أغلب هؤلاء الكُتّاب نظروا إلى المسألة على أساس إمام مذهبهم. فالأوّل والثاني من هذه الكتب اعتمدا على رأي الإمام مالك (رضي الله عنه) كما أنّ الكتاب الخامس اتّخذ من مذهب ابن تيمية مقياساً في حكمه، فخرج بنفس النتيجة التي خرج بها إمام مذهبه.

وأمّا الإمام الشاطبي فقد أطنب وأسهب كثيراً في تأليفه ولم يركّز على نفس البدعة تحديداً ومصداقاً.

ودراسة البدعة تتوقّف على دراسة منهجيّة غير منحازة لمذهب خاص، وهذا يتوقّف على الاجتهاد الحرّ، من دون أن يتّخذ رأي إمام مِحوراً، ورأي إمام آخر مسنداً، بل ينظر إلى الكتاب والسنّة وسيرة المسلمين نظرة عامة شمولية فاحصة.

نعم لا تفوتنا الإشارة إلى المِيزة الموجودة فيما كتبه الدكتور السعدي، فقد أفاض الكلام في الجزئيات التي ربّما وصفت بالبدعة، وأثبت بدليل قاطع كونها غير بدعة، كما لا تفوتنا الإشارة بمنهجيّة


الصفحة 12


البحث في كتاب الدكتور عزّت علي عطية، والذي نال به درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى، ولكنّه في بعض المواضيع افتقد الشجاعة الأدبيّة ولم يتجرّأ على تجاوز السدود التي فرضتها عليه البيئة، فتراه يتوقّف في التوسّل بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) مع تضافر الروايات على جوازه.

وللجميع منّا الشكر الجزيل، ولكن الحقيقة بنت البحث فلا عتب علينا إذا ناقشنا بعض آرائهم نتيجة الاجتهاد الحرّ، رزقنا الله توحيد الكلمة كما رزقنا كلمة التوحيد.

10 رمضان المبارك / عام 1415 هـ
جعفر السبحاني       

   

https://t.me/wilayahinfo

[email protected]

الولاية الاخبارية 

شاهد أيضاً

قيادي في الحرس الثوري: إعادة النظر في الاعتبارات النووية في حال وجود تهديدات اسرائيلية

قال قائد قوات حماية المراكز النووية التابعة للحرس الثوري العميد احمد حق طلب: إذا كانت ...