صحيح أن الغارة الإسرائيلية في منطقة مصياف بمحافظة حماة، تشكل امتدادا للاعتداءات المتواصلة منذ سنوات. لكنها بلحاظ الظروف والاستهداف تشكل منعطفا حادا في مسار هذه الاعتداءات واهدافها ورسائلها. فلم تستهدف الصواريخ التي أطلقتها طائرات سلاح الجو الإسرائيلي، قافلة تحمل صواريخ كاسرة للتوازن إلى حزب الله في لبنان، كما كانت توحي في تبرير اعتداءاتها السابقة.. وانما منشأة تابعة للجيش السوري، وبحسب بعض التقارير الاعلامية الإسرائيلية، تم استهداف مركز الدراسات والبحوث العلمية.
يأتي هذا الاعتداء بعد سلسلة من الرسائل التهويلية التي وجهها نتنياهو بنفسه، حول عدم السماح بتعاظم قدرات محور المقاومة في سوريا ولبنان، ومن ضمنه اعادة بناء وتطوير قدرات الجيش السوري، والاهم أنه أتى بعد وفود استخباراتية وسياسية إلى كل من العاصمتين الاميركية والروسية.
لكن بدا واضحا من خلال ردود الفعل الإسرائيلية، والتقارير التي تناولت هذه الزيارات، أن “إسرائيل” لم تتمكن من انتزاع تبني اميركي للسقف الذي تحاول “إسرائيل” فرضه على الساحة السورية، ولا من اقناع الرئيس بوتين بتقديم ضمانات تبدد هواجسه الامنية والاستراتيجية، وتحديدا ما يتعلق بتطوير قدرات صاروخية وعسكرية تهدد الامن القومي الإسرائيلي.
الاعتداء الاسرائيلي في سوريا: محاولة الاصيل بعد فشل الوكيل
بعد كل هذه المحطات السياسية أتى اعتداء مصياف، ضد هدف يتصل مباشرة بالدولة السورية، كمحطة تشكل بداية لمرحلة جديدة من العدوان الإسرائيلي في الساحة السورية.. هدفت “إسرائيل” من وراء هذا الاعتداء، إلى توجيه رسالة عملانية، بعد الرسائل السياسية، التي تؤكد من خلالها جديتها وعزمها على منع بناء وتطوير قدرات الدولة السورية.
وتهدف “إسرائيل” ايضا، إلى الايحاء كما لو أنها عازمة من اجل تحقيق هذا الهدف، ولو بثمن المغامرة بثمن خوض مواجهة عسكرية.. من دون أن يعني ذلك بالضرورة أنها ستفعل ذلك، فعليا.
كشفت “إسرائيل” بهذا الاعتداء، ورسائله وأهدافه، عن حجم الدور الذي كانت وما زالت تؤديه الجماعات التكفيرية وعلى رأسها “داعش” و”النصرة”، في مواجهة محور المقاومة على الساحة السورية. والدليل على ذلك، أنه عندما تراجعت وضعفت هذه الجماعات، وجدت “إسرائيل” نفسها مضطرة إلى التدخل العسكري مباشرة، بل والارتقاء في مسار اعتداءاتها، بعدما فشلت كل رهاناتها السابقة، وخياراتها العملانية التي تبنتها.
وهكذا يتضح مرة أخرى، البعد الحقيقي للمعركة الدائرة في الساحة السورية، وكونها جزء مباشر من الصراع ضد “إسرائيل”، خاصة وأن الاعتداء الإسرائيلي شكل تدخلا عسكريا مباشرا، على خلفية أن تراجع الجماعات التكفيرية وضعفها، يشكل سقوطا لخطوطها الدفاعية الامامية.
في السياق نفسه، يمكن التقدير أن “إسرائيل” أرادت أن تفرض نفسها كطرف فاعل في سوريا، في مرحلة ما بعد “داعش”، وسبق أن حاولت ذلك قبل هذا الاعتداء من خلال اتصالاتها السياسة.. والآن من خلال القوة العسكرية.
أيضا، ما لا يمكن تجاهله أن “إسرائيل” ارادت توجيه رسالة إلى عواصم القرار الدولي، أنه في حال لم يتم تبني سقفها السياسي في الساحة السورية، فهي ستلعب لعبة حافة الهاوية التي قد تؤدي إلى انفجار واسع، على قاعدة “جُن رب البيت”.. وتراهن “إسرائيل” من خلال ذلك على التحرك السياسي الروسي والاميركي لمنع أي مواجهة عسكرية مباشرة ستتحول سريعا إلى حرب اقليمية، وهكذا تكون “إسرائيل” – وفق رهاناتها – قد استدرجت الاطراف الدولية والاقليمية إلى حوار مباشر وغير مباشر، للتوصل إلى صيغة تفاهم تبدد قدر من هواجسها.
لكن هذا التصور مثل كثير من المخططات السابقة قد تبدو ناجحة على الورق، ولكن عند التنفيذ هناك ما يكفي من عناصر القوة والارادة والاستعداد للتضحية من أجل تغير المسارات والمعادلات والنتائج.. وستكتشف “إسرائيل” لاحقاً، أن هناك هوة واسعة، بين ما ترغب به، وبين ما هي قادرة على تحقيقه.