دروس منهجية في علوم القرآن
1 يوليو,2018
القرآن الكريم, صوتي ومرئي متنوع
1,001 زيارة
الدرس السادس والعشرون
الرأي الخامس: ان ابتداء نزوله في شهر رمضان، ونسب لجماعة منهم الشعبي..
قال الشيخ المفيد (ره): “وقد يجوز في الخبر الوارد بنزول القرآن جملة في ليلة القدر أنّه نزلت جملة منه ليلة القدر، ثم تلاه ما نزل منه الى وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأمّا أن يكون نزل بأسره وجميعه في ليلة القدر فهو بعيد مما يقتضيه ظاهر القرآن والمتواتر من الأخبار واجماع الأمّة على اختلافهم في الآراء”(1).
واختار هذا الرأي ابن شهرآشوب في (المناقب) حيث قال: “شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن أي ابتدء نزوله”(2). وقال في متشابهات القرآن: “والصحيح ان (القرآن) في هذا الموضع لا يفيد العموم، وانما يفيد الجنس، فأيّ شيء نزل فيه فقد طابق الظاهر”(3).
ووجّهه الشيخ معرفة بقوله: “لأن كل حادث خطير اذا كانت له مدة وامتداد زمني، فانّ بدء شروعه هو الذي يسجَّل تاريخياً، كما اذا سئل عن تاريخ دولة أو مؤسسة أو تشكيل حزبي.. فإنّ الجواب هو تعيين مبدأ الشروع أو التأسيس لا غير، وأيضاً فانّ قوله تعالى (أُنزل فيه القرآن) والآيات الأخر حكاية عن أمر سابق لا يشمل نفس هذا الكلام الحاكي، وإلاّ لكان اللفظ بصيغة المضارع او الوصف. فنفس هذا الكلام دليل على أنّ من القرآن ما نزل متأخراً عن ليلة القدر، اللهم إلاّ بضرب من التأويل غير المستند”(4).
وهو رأي وجيه، لكنه قد يواجه إشكالاً ملخّصه انّ النصوص والأقوال حول توقيت ابتداء الوحي الإلهي على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) لا تنسجم مع كون ابتداء النزول في ليلة القدر – ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان لدى الجمهور، وليلة أحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين لدى شيعة أهل البيت(عليهم السلام) – فان الأقوال المعروفة في ابتداء الوحي وبعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) هي:
الأول: ان مبعثه (صلى الله عليه وآله وسلّم) في شهر ربيع الأول، ذكره اليعقوبي.
الثاني: انّه بعث لسبع عشرة خلت من شهر رمضان، قاله ابن سعد(5).
الثالث: ان الوحي انزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لأربع وعشرين خلت من شهر رمضان، حكاه الطبري عن أبي الجلد(6).
الرابع: انه اليوم السابع والعشرون من رجب، وهو المعروف بين شيعة آل البيت(عليهم السلام) ووردت فيه نصوص من الفريقين. منها: ما رواه الكليني بسنده عن الحسن بن راشد عن أبي عبدالله (عليه السلام).. “ولا تدع صيام يوم سبع وعشرين من رجب فانه هو اليوم الذي نزلت فيه النبوة على محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم)..”(7). ومنها: ما عن البيهقي في شعب الإيمان عن سلمان الفارسي قال: “في رجب يوم وليلة من صام ذلك اليوم وقام تلك الليلة كان كمن صام من الدهر مائة سنة وقام مائة سنة، وهو لثلاث بقين من رجب، وفيه بعث الله تعالى محمداً”(8).
ونلاحظ انّ هذه الأقوال في توقيت بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لا تنسجم بظاهرها مع التزام ابتداء نزول القرآن في ليلة القدر.
وقد يجاب عن ذلك بإمكانية افتراض فاصل زمني – قيل: إنه ممتد الى ثلاث سنين – بين بداية الوحي والبعثة وبين نزول القرآن الكريم، ويشهد لذلك النصوص الدالة على انه (صلى الله عليه وآله وسلّم) بُعث بعمر اربعين عاماً، بضميمة النصوص الواردة في ان القرآن نزل خلال عشرين عاماً(9). وما ورد عن سعيد بن المسيب قال: “انزل – يعني القرآن – على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وهو ابن ثلاث واربعين”(10).
فإذا علمنا ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) توفي عن ثلاثة وستين عاماً، فيكون عمره عند نزول القرآن ثلاثة واربعين عاماً. ويعني ذلك ان ابتداء نزول القرآن بعد ثلاث سنين من بعثته (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فلا مانع من اختلاف زمان البعثة عن ابتداء نزول القرآن عليه. والله العالم.
تدرج نزول القرآن
من الحقائق الثابتة تاريخياً وإسلامياً ان القرآن الكريم قد بُلّغ للأمة بشكل متدرّج. وهذا لا شك ولا خلاف فيه، بل اشار إليه القرآن الكريم نفسه ف-ي آيات عديدة مثل قوله تعالى: ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾(11).
حيث ان الترتيل هو التدرج، ولذلك عُنوِن هذا البحث في بعض المصادر بالترتيل في المعنى.
وقبل أن نتحدث عن حكمة النزول التدريجي للقرآن الكريم نشير الى التدرج في الرسالة الإسلامية نفسها، – وتبعاً لذلك – التدرج في مواقف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) في مجالات ثلاثة:
الأول: التدرّج في تعاليم الرسالة، سواء ما يرتبط منها بالجانب العقيدي أم الجانب التشريعي أم غيرهما… فأوّل ما بدأ به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) هو دعوة الناس الى التوحيد. (قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا) ثم تدرّج ببيان اصول العقيدة الإسلامية وأسسها، ثم الجوانب الأخرى من الرسالة الإسلامية التربوي والأخلاقي والتشريعي، كل واحد منها تدريجياً وعلى مراحل، والشواهد على ذلك كثيرة واضحة.
الثاني: التدرّج في مساحة نشر الرسالة حيث بدأ دعوته بالمختصين به مثل الإمام علي (عليه السلام) وزوجته خديجة بنت خويلد، وولده بالتبني زيد بن حارثة، ثم وسعها لتشمل أقاربه تنفيذاً لما أمره الله تعالى ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾(12)، بعد ذلك عمّمها لمساحات اخرى على الترتيب التالي: أهل مكّة ثم العرب في الجزيرة العربية ثم الشعوب والأمم الأخرى من خلال الكتب التي أرسلها للملوك والحكّام آنذاك.
الثالث: التدرّج في اساليب الدعوة للاسلام.
فبينما بدأ رسالته بحذر بالغ في السنوات الثلاث الاُولى حتّى نزل عليه قوله تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ فجاهر بها دعوة علنية سلمية حتى بالنسبة للمعتدين عليه وعلى اتباعه رغم ما عاناه هو والمسلمون آنذاك – بمن فيهم عشيرته – من البطش والتعذيب والحصار والنبذ والتهكم وغيرها مما كان يمارسه اعداؤه قبل الهجرة… ثم بعد أن هاجر الى المدينة انتهج سياسة الجهاد المسلّح لمواجهة المعتدين وردعهم.
على ضوء هذا التدرّج في تعاليم الرسالة الاسلامية ومواقف الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلّم) يتضح جانب هام من حكمة بل ضرورة التدرج في نزول القرآن الكريم.
إذ بعد أن عرفنا أهمية القرآن ودوره في الإسلام ومكانته لدى المسلمين يتضح مدى أهمية هذا التدرج في نزوله، لأن القرآن الكريم يمثّل مصدراً رئيسياً لبيان تعاليم الإسلام وتشريعاته المختلفة التي يفترض ابلاغها تدريجياً، باعتبار انّ الإسلام جاء لإحداث نقلة نوعية في مجتمعات الحجاز والجزيرة، لأن تعاليمه تختلف جذرياً عما كانوا عليه من جميع الأبعاد العقائدية، والسلوكية، والاجتماعية فكان لابد من التدرج لضمان الانصياع المتدرج لتعاليم الدين الجديد والتفاعل معها. لذلك أمكن أن نعتبر:
العامل الأول: في تدرج نزول القرآن هو ضرورة انسجامه مع تدرّج الرسالة الاسلامية باعتبار دوره الحيوي فيها.
وفي الحديث عن الإمام الباقر (عليه السلام): “ليس أحد أرفق من الله تعالى، ومن رفقه تبارك وتعالى أن ينقلهم من خصلة الى خصلة، ولو حمل عليهم جملة واحدةً لهلكوا”(13).
العامل الثاني: يرتبط بشخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) ودعمه في مهمته وتحمله لمسؤولية ابلاغ الرسالة الإسلامية.
كما اشارت الآية الكريمة جواباً على تساؤل الكفار عن هذه النقطة بالذات ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾(14).
فإنّ الارتباط المحسوس والمستمر بالسماء عامل هام في تثبيت فؤاد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وتقوية عزائمه هو وأصحابه ازاء ما يواجهه من مؤامرات الأعداء والمواقف المحرجة الأخرى، خلال رحلته الرسالية وتحمله لهذه المسؤولية الثقيلة.
1– تصحيح اعتقاد الإمامية: 103.
2– المناقب: 2 150.
3– متشابهات القرآن: 1 63.
4– تلخيص التمهيد: 168.
5– يراجع طبقات ابن سعد: 1 129.
6– تاريخ الأمم والملوك: 2 44.
7– الكافي: 4 149.
8– منتخب كنز العمال بهامش المسند: 3 362 وروى ذلك الحافظ الدمياطي عن أبي هريرة في السيرة الحلبية: 1 328.
9– راجع اصول الكافي: 2 629. تفسير العياشي: 1 80. الاعتقادات: 101. البحار: 18 250 – 253، وغيرها مثل مستدرك الحاكم: 2 610.
10– سورة الفرقان: 32.
11– سورة الشعراء: 214.
12– نفحات الرحمن: 1 8.
13– سورة الفرقان: 32.
14– لسان العرب: 9 43.
2018-07-01