متى تجب المعرفة على الاِنسان
في أي سن يجب التفكير والمعرفة
ـ رسائل الشهيد الثاني ج 2 ص 135
إعلم أن المتكلمين حددوا وقت التكليف بالمعرفة بالتمكن من العلم بالمسائل الاَصولية ، حيث قالوا في باب التكليف أن المكلف يشترط كونه قادراً على ما كلف به مميزاً بينه وبين غيره مما لم يكلف به متمكناً من العلم بما كلف به ، إذ التكليف بدون ذلك محال . وظاهر أن هذا لا يتوقف على تحقق البلوغ الشرعي بإحدى العلامات المذكورة في كتب الفروع ، بل قد يكون قبل ذلك بسنتين أو بعده كذلك ، بحسب مراتب الاِدراك قوة وضعفاً . وذكر بعض فقهائنا أن وقت التكليف بالمعارف الاِلَهية هو وقت التكليف بالاَعمال الشرعية ، إلا أنه يجب أولاً بعد تحقق البلوغ والعقل المسارعة إلى تحصيل المعارف قبل الاِتيان بالاَعمال .
( 174 )
أقول : هذا غير جيد ، لاَنه يلزم منه أن يكون الاِناث أكمل من الذكور ، لاَن الاَنثى تخاطب بالعبادات عند كمال التسع إذا كانت عاقلة ، فتخاطب بالمعرفة أيضاً عند ذلك، والصبي لا يبلغ عند كمال التسع بالاِحتلام ولابالاِنبات على ما جرت به العادة، فلا يخاطب بالمعرفة وإن كان مميزاً عاقلاً لعدم خطابه بالعبادات ، فتكون أكمل منه استعداداً للمعارف ، وهو بعيد عن مدارك العقل والنقل . ومن ثم ذهب بعض العلماء إلى وجوب المعرفة على من بلغ عشراً عاقلاً ، ونسب ذلك إلى الشيخ أبي جعفر الطوسي قدس سره وأيضاً هذا لا يوافق ما هو الحق من أن معرفة الله تعالى واجبة عقلاً لا سمعاً ، لاَنا لو قلنا إن المعرفة لا تجب إلا بعد تحقق البلوغ الشرعي الذي هو مناط وجوب العبادات الشرعية ، لكنا قد أوجبنا المعرفة بالشرع لا بالعقل ، لاَن البلوغ المذكور إنما علم من الشرع ، وليس في العقل ما يدل على أن وجوب المعرفة إنما يكون عند البلوغ المذكور ، فلو وجبت عنده لكان الوجوب معلوماً من الشرع ، لا من العقل .
لا يقال : العقل إنما دل على وجوب المعرفة في الجملة دون تحديد وقته ، والشرع إنما دل على تحديد وقت الوجوب وهو غير الوجوب ، فلا يلزم كون الوجوب شرعياً .
لاَنا نقول : لا نسلم أن في الشرع ما يدل على تحديد وقت وجوب المعرفة أيضاً ، بل إنما دل على تحديد وقت العبادات فقط ، نعم دل الشرع على تقدم المعرفة على العبادات في الجملة ، وهو أعم من تعيين وقت التقدم ، فلا يدل عليه .
وأيضاً لامعنى لكون العقل يدل على وجوب المعرفة في الجملة من دون اطلاعه على وقت الوجوب ، إذ لا ريب أنه يلزم من الحكم بوجوبها كونها واجبة في وقت الحكم .
والحاصل : أنه لا يمكن العلم بوجوبها إلا بعد العلم بوقت وجوبها ، فالوقت كما أنه ظرف لها فهو ظرف للوجوب أيضاً . وتوضيحه : أن العبد متى لاحظ هذه النعم عليه وعلم أن هناك منعماً أنعم بها عليه ، أوجب على نفسه شكره عليها في ذلك الوقت ، خوفاً من أن يسلبه إياها لو لم يشكره ، وحيث أنه لم يعرفه بعد يوجب على
( 175 )
نفسه النظر في معرفته في ذلك الوقت ليمكنه شكره ، فقد علم أنه يلزم من وجوب المعرفة بالعقل معرفة وقتها أيضاً .
نعم ما ذكروه إنما يتم على مذهب الاَشاعرة ، حيث أن وجوب المعرفة عندهم سمعي .
فإن قلت : قوله صلى الله عليه وآله : رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ ، فيه دلالة على تحديد وقت وجوب المعرفة بالبلوغ الشرعي ، لاَن رفع القلم كناية عن رفع التكليف وعدم جريانه عليه إلى الغاية المذكورة ، فقبلها لا يكون مكلفاً بشيء ، سواء كان قد عقل أم لا .
قلت : لا نسلم دلالته على ذلك ، بل إن دل فإنما يدل على أن البلوغ الشرعي غاية لرفع التكليف مطلقاً . وإن كان عقلياً ، فيبقى الدليل الدال على كون التكليف بالمعرفة عقلياً سالماً عن المعارض ، فإنه يستلزم تحديد وقت وجوب المعرفة بكمال العقل ، كما تقدمت الاِشارة إليه .
والحاصل : أن عموم رفع القلم مخصص بالدليل العقلي ، وقد عرف العقل الذي هو مناط التكاليف الشرعية بأنه قوة للنفس بها تستعد للعلوم والاِدراكات ، وهو المعني بقولهم غريزة يتبعها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات ، وهذا التفسير اختاره المحقق الطوسي رحمه الله وجماعة .
ـ مجمع الفائدة والبرهان ج 10 ص 409
المراهق إذا أسلم حكم بإسلامه ، فإن ارتد بعد ذلك يحكم بارتداده وإن لم يتب قتل . . . .
وقال أبو حنيفة : يصح إسلامه وهو مكلف بالاِسلام ، وإليه ذهب بعض أصحابنا ، لاَنه يمكنه معرفة التوحيد بالنظر والاِستدلال ، فصح منه كالبالغ ، ونقل الشيخ عن أصحابه أنهم حكموا بإسلام علي عليه السلام وهو غير بالغ وحكم بإسلامه بالاِجماع . والاِستدلال بالرواية مشكل ، لعدم ظهور الصحة والدلالة على هذا المطلب ، وما نقل عن أمير المؤمنين عليه السلام مما لا يقاس عليه غيره ، فإن النبي صلى الله عليه وآله والاَئمة عليهم السلام ليسوا
( 176 )
من قبيل سائر الناس ، ولهذا حكموا بكون الحجة صلوات الله وسلامه عليه إماماً مع كونه ابن خمس سنين .
نعم الحكم بإسلام المراهق غير بعيد لعموم من قال : لا إلَه إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وآله فهو مسلم ، وقاتلوهم حتى يقولوا لا إلَه إلا الله ، وأمثاله كثيرة . ولاَنهم إذا قدروا على الاِستدلال وفهموا أدلة وجود الواجب والتوحيد وما يتوقف عليه ، ووجوب المعرفة والنظر في المعرفة ، يمكن أن يجب عليهم ذلك ، لاَن دليل وجوب المعرفة عقلي ، فكل من يعرف ذلك يدخل تحته ، ولا خصوصية له بالبالغ ، ولا استثناء في الاَدلة العقلية ، فلا يبعد تكليفهم ، بل يمكن أن يجب ذلك ، فإذا أوجب عليهم يجب أن يصح منهم ، بل يلزم من الحكم بالصحة وجوبه أيضاً ، ويترتب عليه الاَحكام . . . . وقد أجمعوا على عدم وجوب الفروع عليهم وعدم تكليفهم بها ، ولهذا صرح بعض العلماء بأن الواجبات الاَصولية العقلية تجب على الصغير قبل بلوغه دون الفرعية . والظاهر أن ضابطة القدرة على الفهم والاَخذ والاِستدلال على وجه مقنع ، ففي كل من وجب فيه ذلك يصح ويمكن أن يجب عليه ذلك المقدار ، ومن لم يوجد فيه ذلك لم يجب . وقال في الدروس ، وهو لما قاله الشيخ قريب ولا شك أنه أحوط ، وما استدل به الشيخ مؤيد فقوله قريب .
قال في التذكرة : غير المميز والمجنون لا يصح إسلامهما مباشرة إجماعاً ولا يحكم بإسلامهما إلا بالتبعية لغيره . فيريد بهما من لا قدرة له على الاِستدلال ، ولا يفهم وجوب المعرفة ونحوه ، وجنون المجنون أخرجه عن الفهم والقدرة على الاِستفهام والاِستدلال مثل غير المميز ، وأما إذا كان لهم فهم مستقل لا يبعد اعتباره حينئذ وإجراء الاَحكام في حقه عليه ، فتأمل .