ـ رسائل الشهيد الثاني ج 2 ص 56
إعلم أن العلماء أطبقوا على وجوب معرفة الله تعالى بالنظر وأنها لا تحصل بالتقليد ، إلا من شذ منهم كعبدالله بن الحسن العنبري والحشوية والتعليمية ، حيث ذهبوا إلى جواز التقليد في العقائد الاَصولية ، كوجود الصانع وما يجب له ويمتنع ، والنبوة ، والعدل وغيرها ، بل ذهب إلى وجوبه .
لكن اختلف القائلون بوجوب المعرفة في أنه عقلي أو سمعي ، فالاِمامية والمعتزلة على الاَول والاَشعرية على الثاني ، ولا غرض لنا هنا ببيان ذلك ، بل ببيان أصل الوجوب المتفق عليه .
من ذلك : أن لله تعالى على عبده نعماً ظاهرة وباطنة لا تحصى ، يعلم ذلك كل عاقل ، ويعلم أنها ليست منه ولا من مخلوق مثله . ويعلم أيضاً أنه إذا لم يعترف بإنعام ذلك المنعم ولم يذعن بكونه هو المنعم لا غيره ولم يسع في تحصيل مرضاته، ذمه العقلاء ، ورأوا سلب تلك النعم عنه حسناً ، وحينئذ فتحكم ضرورة العقل بوجوب شكر ذلك المنعم . ومن المعلوم أن شكره على وجه يليق بكمال ذاته يتوقف على معرفته ، وهي لا تحصل بالظنيات كالتقليد وغيره ، لاحتمال كذب المخبر وخطأ الاِمارة ، فلابد من النظر المفيد للعلم .
وهذا الدليل إنما يستقيم على قاعدة الحسن والقبح ، والاَشاعرة ينكرون ذلك ، لكنه كما يدل على وجوب المعرفة بالدليل ، يدل أيضاً على كون الوجوب عقلياً .
واعترض أيضاً بأنه مبني على وجوب ما لا يتم الواجب المطلق إلاّ به ، وفيه أيضاً منع للاَشاعرة . ومن ذلك أن الاَمة اجتمعت على وجوب المعرفة ، والتقليد وما في حكمه لا يوجب العلم ، إذ لو أوجبه لزم اجتماع الضدين في مثل تقليد من يعتقد حدوث العالم ويعتقد قدمه .
( 184 )
وقد اعترض على هذا بمنع الاِجماع ، كيف والمخالف معروف ، بل عورض بوقوع الاِجماع على خلافه ، وذلك لتقرير النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه العوام على إيمانهم وهم الاَكثرون في كل عصر ، مع عدم الاِستفسار عن الدلائل الدالة على الصانع وصفاته ، مع أنهم كانوا لا يعلمونها ، وإنما كانوا مقرين باللسان ومقلدين في المعارف، ولو كانت المعرفة واجبة لما جاز تقريرهم على ذلك مع الحكم بإيمانهم .
وأجيب عن هذا : بأنهم كانوا يعلمون الاَدلة إجمالاً ، كدليل الاِعرابي حيث قال : البعرة تدل على البعير ، وأثر الاَقدام على المسير ، أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدلان على اللطيف الخبير ؟ ! فلذا أقروا ولم يسألوا عن اعتقاداتهم ، أو أنهم كان يقبل منهم ذلك للتمرين ، ثم يبين لهم ما يجب عليهم من المعارف بعد حين .
ومن ذلك : الاِجماع أنه لا يجوز تقليد غير المحق ، وإنما يعلم المحق من غيره بالنظر في أن ما يقوله حق أم لا ، وحينئذ فلا يجوز له التقليد إلا بعد النظر والاِستدلال، وإذا صار مستدلاً امتنع كونه مقلداً ، فامتنع التقليد في المعارف الاِلَهية .
ونقض ذلك بلزوم مثله في الشرعيات ، فإنه لا يجوز تقليد المفتي إلا إذا كانت فتياه عن دليل شرعي ، فإن اكتفى في الاِطلاع على ذلك بالظن وإن كان مخطئاً في نفس الاَمر لحط ذلك عنه ، فليجز مثله في مسائل الاَصول .
وأجيب بالفرق بأن الخطأ في مسائل الاَصول يقتضي الكفر بخلافه في الفروع ، فساغ في الثانية مالم يسغ في الاَولى .
إحتج من أوجب التقليد في مسائل الاَصول بأن العلم بأمر الله غير ممكن ، لاَن المكلف به إن لم يكن عالماً به تعالى إمتنع أن يكون عالماً بأمره ، وحال امتناع كونه عالماً بأمره يمتنع كونه مأموراً من قبله ، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق ، وإن كان عالماً به استحال أيضاً أمره بالعلم به لاستحالة تحصيل الحاصل .
والجواب عن ذلك على قواعد الاِمامية والمعتزلة ظاهر ، فإن وجوب النظر والمعرفة عندهم عقلي لا سمعي . نعم يلزم ذلك على قواعد الاَشاعرة ، إذ الوجوب عندهم سمعي .
( 185 )
أقول : ويجاب أيضاً معارضةً ، بأن هذا الدليل كما يدل على امتناع العلم بالمعارف الاَصولية ، يدل على امتناع التقليد فيها أيضاً ، فينسد باب المعرفة بالله تعالى ، وكل من يرجع إليه في التقليد لابد وأن يكون عالماً بالمسائل الاَصولية ليصح تقليده ، ثم يجرى الدليل فيه فيقال : علم هذا الشخص بالله تعالى غير ممكن ، لاَنه حين كلف به إن لم يكن عالماً به تعالى استحال أن يكون عالماً بأمره بالمقدمات ، وكل ما أجابوا به فهو جوابنا ، ولا مخلص لهم إلا أن يعترفوا بأن وجوب المعرفة عقلي ، فيبطل ما ادعوه من أن العلم بالله تعالى غير ممكن ، أو سمعي فكذلك .
فإن قيل : ربما حصل العلم لبعض الناس بتصفية النفس أو إلهام إلى غير ذلك فيقلده الباقون .
قلنا : هذا أيضاً يبطل قولكم أن العلم بالله تعالى غير ممكن ، نعم ما ذكروه يصلح أن يكون دليلاً على امتناع المعرفة بالسمع ، فيكون حجة على الاَشاعرة ، لا دليلاً على وجوب التقليد .
واحتجوا أيضاً بأن النهي عن النظر قد ورد في قوله تعالى : ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا . والنظر يفتح باب الجدال فيحرم . ولاَنه صلى الله عليه وآله رأى الصحابة يتكلمون في مسألة القدر ، فنهى عن الكلام فيها وقال : إنما هلك من كان قبلكم بخوضهم هذا ، ولقوله عليه السلام : عليكم بدين العجائز ، والمراد ترك النظر ، فلو كان واجباً لم يكن منهياً عنه .
وأجيب عن الاَول : إن المراد الجدال بالباطل ، كما في قوله تعالى : وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ، لا الجدال بالحق لقوله تعالى : وجادلهم بالتي هي أحسن، والاَمر بذلك يدل على أن الجدال مطلقاً ليس منهياً عنه .
وعن الثاني : بأن نهيهم عن الكلام في مسألة القدر على تقدير تسليمه لا يدل على النهي عن مطلق النظر ، بل عنه في مسألة القدر ، كيف وقد ورد الاِنكار على تارك النظر في قوله تعالى : أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله ، وقد أثنى على فاعله في قوله تعالى : ويتفكرون في خلق السماوات والاَرض .
( 186 )
على أن نهيهم عن الخوض في القدر لعله لكونه أمراً غيبياً وبحراً عميقاً ، كما أشار إليه علي عليه السلام بقوله : بحر عميق فلا تلجه . بل كان مراد النبي تفويض مثل ذلك إلى الله تعالى ، لاَن ذلك ليس من الاَصول التي يجب اعتقادها، والبحث عنها مفصلة.
وهاهنا جواب آخر عنهما معاً ، وهو أن النهي في الآية والحديث مع قطع النظر عما ذكرناه إنما يدل على النهي عن الجدال الذي لا يكون إلا عن متعدد ، بخلاف النظر فإنه يكون من واحد ، فهو نصب الدليل على غير المدعى .
وعن الثالث : بالمنع من صحة نسبته إلى النبي صلى الله عليه وآله فإن بعضهم ذكر أنه من مصنوعات سفيان الثوري ، فإنه روى أن عمر بن عبدالله المعتزلي قال : إن بين الكفر والاِيمان منزلة بين منزلتين ، فقالت عجوز ، قال الله تعالى : هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ، فلم يجعل من عباده إلا الكافر والمؤمن ، فسمع سفيان كلامها ، فقال : عليكم بدين العجائز .
على أنه لو سلم فالمراد به التفويض إلى الله تعالى في قضائه وحكمه والاِنقياد له في أمره ونهيه .
واحتج من جوز التقليد : بأنه لو وجب النظر في المعارف الاِلَهية لوجد من الصحابة ، إذ هم أولى به من غيرهم ، ولم يوجد وإلا لنقل كما نقل عنهم النظر والمناظرة في المسائل الفقهية ، فحيث لم ينقل لم يقع ، فلم يجب .
وأجيب : بالتزام كونهم أولى به لكنهم نظروا ، وإلا لزم نسبتهم إلى الجهل بمعرفة الله تعالى ، وكون الواحد منا أفضل منهم ، وهو باطل إجماعاً ، وإذا كانوا عالمين وليس بالضرورة فهو بالنظر والاِستدلال . وأما إنه لم ينقل النظر والمناظرة ، فلاِتفاقهم على العقائد الحقة، لوضوح الاَمر عندهم ، حيث كانوا ينقلون عقائدهم عمن لا ينطق عن الهوى ، فلم يحتاجوا إلى كثرة البحث والنظر ، بخلاف الاَخلاف بعدهم فإنهم لما كثرت شبه الضالين ، واختلفت أنظار طالبي اليقين لتفاوت أذهانهم في إصابة الحق ، احتاجوا إلى النظر والمناظرة ، ليدفعوا بذلك شبه المضلين ويقفوا على اليقين .