الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / ويكفي الدليل الاِجمالي في المعرفة

ويكفي الدليل الاِجمالي في المعرفة

ويكفي الدليل الاِجمالي في المعرفة

ـ الاِقتصاد للشيخ الطوسي ص 11
فإن قيل : قد ذكرتم أنه يخرج الاِنسان عن حد التقليد بعلم الجملة ، ما حد ذلك بينوه لنقف عليه ؟
قلنا : أحوال الناس تختلف في ذلك : فمنهم من يكفيه الشيء اليسير ، ومنهم من
( 218 )
يحتاج إلى أكثر منه بحسب ذكائه وفطنته وخاطره ، حتى يزيد بعضهم على بعض إلى أن يبلغ إلى حد لا يجوز له الاِقتصار على علم الجملة بل يلزمه على التفصيل لكثرة خواطره وتواتر شبهاته . وليس يمكن حصر ذلك لشيء لا يمكن الزيادة عليه ولا النقصان عنه .
فإن قيل : فعلى كل حال بينوا لذلك مثالاً على وجه التقريب .
قلنا : أما على وجه التقريب فإنا نقول : من فكر في نفسه فعلم أنه لم يكن موجوداً ثم وجد نطفة ثم صار علقة ثم مضغة ثم عظماً ثم جنيناً في بطن أمه ميتاً ثم صار حياً فبقي مدة ثم ولد صغيراً ، فتتقلب به الاَحوال من صغر إلى كبر ومن طفولة إلى رجولة ومن عدم عقل إلى عقل كامل ثم إلى الشيخوخة وإلى الهرم ثم الموت ، وغير ذلك من أحواله ، عَلِمَ أن هنا من يصرفه هذا التصريف ويفعل به هذا الفعل ، لاَنه يعجز عن فعل ذلك بنفسه ، وحال غيره من أمثاله حاله من العجز عن مثل ذلك . فعلم بذلك أنه لابد من أن يكون هناك من هو قادر على ذلك مخالف له ، لاَنه لو كان مثله لكان حكمه حكمه . ويعلم أنه لا بد أن يكون عالماً من حيث أن ذلك في غاية الحكمة والاِتساق ، مع علمه الحاصل بأن بعض ذلك لا يصدر ممن ليس بعالم ، وبهذا القدر يكون عالماً بالله تعالى على الجملة .
وهكذا إذا نظر في بذر يبذر فينبت منه أنواع الزرع والغرس ويصعد إلى منتهاه ، فمنه ما يصير شجراً عظيماً يخرج منه أنواع الفواكه والملاذ ، ومنه ما يصير زرعاً يخرج منه أنواع الاَقوات ، ومنه ما يخرج منه أنواع المشمومات الطيبة الروائح ، ومنه ما يكون خشبه في غاية الطيب كالعود الرطب وغير ذلك ، وكالمسك الذي يخرج من بعض الظباء والعنبر الذي يخرج من البحر ، فيعلم بذلك أن مصرف ذلك وصانعه قادر عالم لتأتي ذلك وإتساقه ، ولعجزه وعجز أمثاله عن ذلك ، فيعلم بذلك أنه مخالف لجميع أمثاله ، فيكون عارفاً بالله على الجملة .
وكذلك إذا نظر إلى السماء صاحية فتهب الرياح وينشأ السحاب ويصعد ولا يزال يتكاثف ويظهر فيه الرعد والبرق والصواعق ، ثم ينزل منه من المياه والبحار العظيمة
( 219 )
التي تجري منها الاَنهار العظيمة والاَودية الوسيعة ، وربما كان فيه من البرد مثل الجبال ، كل ذلك في ساعة واحدة ثم تنقشع السماء وتبدو الكواكب وتطلع الشمس أو القمر كأن ما كان لم يكن من غير تراخ ولا زمان بعيد ، فيعلم ببديهة أنه لابد أن يكون من صح ذلك منه قادراً عليه ممكن منه ، وأنه مخالف له ولاَمثاله ، فيكون عند ذلك عارفاً بالله . وأمثال ذلك كثيرة لا نطول بذكره .
فمتى عرف الاِنسان هذه الجملة وفكر فيها هذا الفكر واعتقد هذا الاِعتقاد ، فإن مضى على ذلك ولم يشعثه خاطر ولا طرقته شبهة فهو ناج متخلص .
وأكثر من أشرتم إليه يجوز أن يكون هذه صفته ، وإن بحث عن ذلك وعن علل ذلك فطرقته شبهات وخطرت له خطرات وأدخل عليه قوم ملحدون ما حيره وبلبله فحينئذ يلزمه التفتيش ولا تكفيه هذه الجملة ، ويجب عليه أن يتكلف البحث والنظر على ما سنبينه ليسلم من ذلك ويحصل له العلم على التفصيل .
ونحن نبين ذلك في الفصل الذي يلي هذا الفصل على ما وعدنا به إنشاء الله .
فإن قيل : أصحاب الجُمَل ( بضم الجيم أي أصحاب المعرفة الاِجمالية ) على ما ذكرتم لا يمكنهم أن يعرفوا صفات الله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه منها على طريق الجملة، وإذا لم يمكنهم ذلك لم يمكنهم أن يعلموا أن أفعاله كلها حكمة ولا حسن التكليف ولا النبوات ولا الشرعيات ، لاَن معرفة هذه الاَشياء لا يمكن إلا بعد معرفة الله تعالى على طريق التفصيل .
قلنا : يمكن معرفة جميع ذلك على وجه الجملة ، لاَنه إذا علم بما قدمناه من الاَفعال ووجوب كونه قادراً عالماً ، وعلم أنه لا يجوز أن يكون قادراً بقدرة محدثة لاَنها كانت تجب أن تكون من فعله ، وقد تقرر أن المحدث لابد له من محدث ، وفاعلها يجب أن يكون قادراً أولاً ، فلولا تقدم كونه قادراً قبل ذلك لما صح منه تعالى فعل القدرة ، فيعلم أنه لم يكن قادراً بقدرة محدثة ، ولاَجله علم أنه كذلك لاَمر لا اختصاص له بمقدور دون مقدور ، فيعلم أنه يجب أن يكون قادراً على جميع الاَجناس ومن كل جنس على ما لا يتناهى لفقد التخصيص .
( 220 )
وكذلك إذا علم بالمحكم من أفعاله كونه عالماً علم أن ما لاَجله علم ما علمه لا اختصاص له بمعلوم دون معلوم ، إذ المخصص هو العلم المحدث والعلم لا يقع إلا من عالم ، فلابد أن يتقدم كونه عالماً لا بعلم محدث ، وما لاَجله علم لا اختصاص له بمعلوم دون معلوم ، فيعلم أنه عالم بما لا يتناهى وبكل ما يصح أن يكون معلوماً لفقد الاِختصاص . فيعلم أنه لا يشبه الاَشياء ، لاَنه لو أشبهها لكان مثلها في كونها محدثة ، لاَن المثلين لا يكون أحدهما قديماً والآخر محدثاً . ويعلم أنه غير محتاج ، لاَن الحاجة من صفات الاَجسام ، لاَنها تكون إلى جلب المنافع ودفع المضار وهما من صفات الاَجسام ، فيعلم عند ذلك أنه غني . ويعلم أنه لا تجوز عليه الرؤية والاِدراكات ، لاَنه لا يصح أن يدرك إلا ما يكون هو أو محله في جهة ، وذلك يقتضي كونه جسماً أو حالاً في جسم ، وهكذا يقتضي حدوثه وقد علم أنه قديم . وإذا علم أنه عالم بجميع المعلومات ، وعلم كونه غنياً ، علم أن جميع أفعاله حكمة وصواب ولها وجه حسن وأن لم يعلمه مفصلاً ، لاَن القبيح لا يفعله إلا من هو جاهل بقبحه أو محتاج إليه وكلاهما منتفيان عنه ، فيقطع عند ذلك على حسن جميع أفعاله من خلق الخلق والتكليف وفعل الآلام وخلق المؤذيات من الهوام والسباع وغير ذلك .
ويعلم أيضاً عند ذلك صحة النبوات ، لاَن النبي إذا ادعى النبوة وظهر على يده علم معجز يعجز عن فعله جميع المحدثين علم أنه من فعل الله ، ولولا صدقه لما فعله ، لاَن تصديق الكذاب لا يحسن ، وقد أمن ذلك بكونه عالماً غنياً . فإذا علم صدق الاَنبياء بذلك علم صحة ما أتوا به من الشرعيات والعبادات ، لكونهم صادقين على الله ، وأنه لا يتعبد الخلق إلا بما فيه مصلحتهم .
وإذا ثبت له هذه العلوم فتشاغل بالعبادة أو بالمعيشة ولم تخطر له شبهة ولا أورد عليه ما يقدح فيما علمه ، ولا فكر هو في فروع ذلك ، لم يلزمه أكثر من ذلك . ومتى أورد عليه شبهة فإن تصورها قادحة فيما علمه يلزمه حينئذ النظر فيها حتى يحلها ليسلم له ما علمه ، وإن لم يتصورها قادحة ولا اعتقد أنها تؤثر فيما علمه لم يلزمه النظر فيها ولا التشاغل بها .
( 221 )
وهذه أحوال أكثر العوام وأصحاب المعايش والمترفين ، فإنهم ليس يكادون يلتفتون إلى شبهة تورد عليهم ولا يقبلونها ولا يتصورونها قادحة فيما اعتقدوه ، بل ربما أعرضوا عنها واستغنوا عن سماعها وإيرادها وقالوا : لا تفسدوا علينا ما علمناه . وقد شاهدت جماعة هذه صورتهم . فبان بهذه الجملة ما أشرنا إليه من أحوال أصحاب الجُمَل .

ـ رسائل الشهيد الثاني ج 2 ص 142
الثاني في بيان معنى الدليل الذي يكفي في حصول المعرفة المحققة للاِيمان عند من لا يكتفي بالتقليد في المعرفة .
إعلم أن الدليل بمعنى الدال ، وهو لغة المرشد ، وهو الناصب للدليل كالصانع ، فإنه نصب العالم ، دليلاً عليه ، والذاكر له كالعالم ، فإنه دال بمعنى أنه يذكرون العالم دليلاً على الصانع ، ويقال لما به الاِرشاد كالعالم ، لاَنه بالنظر فيه يحصل الاِرشاد ، أي الاِطلاع على الصانع تعالى .
واصطلاحاً : هو ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري وهذا يشمل الاِمارة ، لاَنها توصل بالنظر فيها إلى الظن بمطلوب خبري ، كالنظر إلى الغيم الرطب في فصل الشتاء ، فإن التأمل فيه يوجب الظن بنزول المطر فيه . وقيل : إنه ما يمكن التوصل به إلى العلم بمطلوب خبري ، فلا يشمل الاِمارة . وهذان التعريفان للاَصوليين . وقوله : ما يمكن ، يشمل ما نظر فيه بالفعل وأوجب المطلوب وما لم ينظر فيه بعد ، فالعالم قبل النظر فيه دليل على وجود الصانع عند الاَصوليين دون المنطقيين حيث عرفوه بأنه قولان فصاعداً يكون عنهما قول آخر ، وهذا يشمل الاِمارة ، وقيل : قولان فصاعداً يلزم عنه لذاته قول آخر ، وهذا لا يشمل الاِمارة . فالدليل عندهم إنما يصدق على القضايا المصدق بها حالة النظر فيها أي ترتيبها ، لاَنها الحالة التي تكون فيه أو يلزم منها قول آخر . ويمكن أن يقال : على اعتبار اللزوم
( 222 )
لا يصدق الدليل على المقدمات حال ترتيبها ، لاَن اللزوم لا يحصل عنده بل بعده . اللهم إلا أن يراد باللزوم اللغوى ، أي الاِستتباع .
ثم إن الذي يكفي إعتباره في تحقق الاِيمان من هذه التعاريف هو التعريف الثاني للاَصوليين لكن بعد النظر فيما يمكن التوصل به ، لا الاَول ، لاَن ما يفيد الظن بالمعارف الاَصولية غير كاف في تحقق الاِيمان على المذهب الحق .
ولا يعتبر في تحققه شيء من تعريف المنطقيين ، لاَن العلم بترتيب المقدمات وتفصيلها على الوجه المعتبر عندهم غير لازم في حصول الاِيمان ، بل اللازم من الدليل فيه ما تطمئن به النفس بحسب استعدادها ويسكن إليه القلب ، بحيث يكون ذلك ثابتاً مانعاً من تطرق الشك والشبهة إلى عقيدة المكلف ، وهذا يتفق كثيراً بملاحظة الدليل إجمالاً ، كما هو الواقع لاَكثر الناس .
أقول : يمكن أن يقال أن حصول العلم عن الدليل لا يكون إلا بعد ترتيب المقدمات على الوجه التفصيلي المعتبر في شرائط الاِستدلال ، وحصوله في النفس وإن لم يحصل الشعور بذلك الترتيب ، إذ ليس كل ما اتصفت به النفس تشعر به ، إذ العلم بالعلم غير لازم .
والحاصل أن الترتيب المذكور طبيعي لكل نفس ناطقة مركوز فيها . وهذا معنى ما قالوه من أن الشكل الاَول بديهي الاِنتاج لقربه من الطبع ، فدل على أن في الطبيعة ترتيباً مطبوعاً متى أشرفت عليه النفس حصل به العلم ، وحينئذ فالمعتبر في حصول العلم بالدليل ليس إلا ما ذكره المنطقيون . والخلاف بينهم وبين الاَصوليين ليس إلا في التسمية ، لاَنهم يطلقون الدليل على نفس المحسوس كالعالم ، وأهل المعقول لا يطلقونه إلا على نفس المعقول كالقضايا المرتبة ، مع أن حصول العلم بالفعل على الاِصطلاحين يتوقف على ترتيب القضايا المعقولة ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإن حصول الاِيمان بالفعل أعني التصديق بالمعارف الاِلَهية إنمايكون بعد الترتيب المذكور .
( 223 )
فقولهم إن الدليل الاِجمالي كاف في الاِيمان لا يخلو عن مسامحة ، لما بينا من أن الترتيب لابد منه في النظريات ، وكأنهم أرادوا بالاِجمال عدم الشعور بذلك الترتيب وعدم العلم بشرائط الاِستدلال ، لا عدم حصول ذلك في النفس ، والثاني هو المعتبر في حصول العلم دون الاَول . نعم الاَول إنما يعتبر في المناظرات ودفع المغالطات ورد الشبهة وإلزام الخصوم .
ويؤيد ما ذكرناه أنك لا تجد في مباحث الدليل وتعريفه إشارة إلى أنه قد يكون تفصيلياً وقد يكون إجمالياً ، وما يوجد في مباحث الاِيمان من أنه يكفي فيه الدليل الجملي ، فقد بينا المراد منه .

 

435838418_209154

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...