الرئيسية / بحوث اسلامية / توحيد المفضل للمفضل بن عمر

توحيد المفضل للمفضل بن عمر

 ( اسم هذا العالم بلسان اليونانية)

 وأعلم يا مفضل أن اسم هذا العالم بلسان اليونانية الجاري المعروف

(هامش)

(1) السمت – بالفتح – الطريق والمحجة والجمع سموت. (*)

ص 117

عندهم (قوسموس) وتفسيره الزينة، وكذلك سمته الفلاسفة ومن ادعى الحكمة، أفكانوا يسمونه بهذا الاسم إلا لما رأوا فيه التقدير والنظام فلم يرضوا أن يسموه تقديرا ونظاما سموه زينة، ليخبروا انه مع ما هو عليه من الصواب والإتقان، على غاية الحسن والبهاء.

 (عمى ماني دلائل الحكمة وادعاؤه علم الأسرار)

 أعجب يا مفضل من قوم لا يقضون على صناعة الطب بالخطأ، وهم يرون الطبيب يخطئ، ويقضون على العالم بالإهمال، ولا يرون شيئا منه مهملا، بل أعجب من أخلاق من ادعى الحكمة، حتى جهلوا مواضعها في الخلق، فأرسلوا ألسنتهم بالذم للخالق جل وعلا.. بل العجب من المخذول (ماني) حين ادعى علم الأسرار وعمي عن دلائل الحكمة في الخلق حتى نسبه إلى الخطأ ونسب خالقه إلى الجهل تبارك الحكيم الكريم. (انتقاد المعطلة فيما راموا أن يدركوا بالحس ما لا يدرك بالعقل) وأعجب منهم جميعا (المعطلة) الذين راموا أن يدركوا بالحس ما لا يدرك بالعقل، فلما أعوزهم ذلك، خرجوا إلى الجحود والتكذيب، فقالوا ولم لا يدرك بالعقل؟ قيل لأنه فوق مرتبة العقل، كما لا يدرك البصر ما هو فوق مرتبته.. فإنك لو رأيت حجرا يرتفع في الهواء علمت أن راميا رمى به، فليس هذا العلم من البصر، بل من قبل العقل، لأن العقل هو الذي يميزه، فيعلم أن الحجر لا يذهب علوا من تلقاء نفسه.. أفلا ترى كيف وقف البصر على حده، فلم يتجاوزه، فكذلك يقف العقل حده من معرفة الخالق فلا يعدوه، ولكن يعقله بعقل أقر فيه نفسا ولم يعاينها، ولم يدركها بحاسة من الحواس.

ص 118

(معرفة العقل للخالق معرفة إقرار لا معرفة إحاطة) وعلى حسب هذا أيضا نقول: إن العقل يعرف الخالق من جهة توجب عليه الإقرار، ولا يعرفه بما يوجب له الإحاطة بصفته.. فإن قالوا فكيف يكلف العبد الضعيف معرفته بالعقل اللطيف، ولا يحيط به؟ قيل لهم إنما كلف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه، وهو أن يوقنوا به ويقفوا عند أمره ونهيه، ولم يكلفوا الإحاطة بصفته، كما أن الملك لا يكلف رعيته أن يعلموا أطويل هو أم قصير، وأبيض هو أم أسمر، وإنما يكلفهم الإذعان لسلطانه، والانتهاء إلى أمره. ألا ترى أن رجلا لو أتى باب الملك، فقال: أعرض علي نفسك حتى أتقصى معرفتك، وإلا لم أسمع لك كان قد أحل نفسه بالعقوبة… فكذا القائل أنه لا يقر بالخالق سبحانه، حتى يحيط بكنهه متعرضا لسخطه.. فإن قالوا: أو ليس قد نصفه؟ فنقول هو العزيز الحكيم الجواد الكريم؟ قيل لهم كل هذه صفات إقرار، وليست صفات إحاطة، فإنا نعلم أنه حكيم، ولا نعلم بكنه ذلك منه، وكذلك قدير وجواد وسائر صفاته، كما قد نرى السماء، فلا ندري ما جوهرها، ونرى البحر ولا ندري أين منتهاه، بل فوق هذا المثال بما لا نهاية له، ولأن الأمثال كلها تقصر عنه، ولكنها تقود العقل إلى معرفته.. فإن قالوا: ولم يختلف فيه؟ قيل لهم: لقصر الأوهام عن مدى عظمته، وتعديها أقدارها في طلب معرفته، وأنها تروم الإحاطة به، وهي تعجز عن ذلك وما دونه. (الشمس واختلاف الفلاسفة في وضعها وشكلها ومقدارها) فمن ذلك هذه الشمس التي تراها تطلع على العالم ولا يوقف على حقيقة أمرها.. ولذلك كثرت الأقاويل فيها، واختلفت الفلاسفة المذكورون في وصفها، فقال بعضهم هو فلك أجوف مملوء نارا، له فم يجيش بهذا الوهج

ص 119

والشعاع.. وقال آخرون هو سحابة.. وقال آخرون جسم زجاجي، يقل نارية في العالم، ويرسل عليه شعاعها.. وقال آخرون هو صفو لطيف ينعقد ماء البحر.. وقال آخرون هو أجزاء كثيرة مجتمعة من النار.. وقال آخرون هو من جوهر خامس سوى الجواهر الأربعة: ثم اختلفوا في شكلها.. فقال بعضهم هي بمنزلة صفيحة عريضة.. وقال آخرون هي كالكرة المدحرجة.. وكذلك اختلفوا في مقدارها.. فزعم بعضهم أنها مثل الأرض سواء… وقال آخرون بل هي أقل من ذلك. وقال آخرون بل هي أعظم من الجزيرة العظيمة. وقال أصحاب الهندسة هي أضعاف الأرض مائة وسبعين مرة… ففي اختلاف هذه الأقاويل منهم في الشمس، دليل على أنهم لم يقفوا على الحقيقة من أمرها، فإذا كانت هذه الشمس التي يقع عليها البصر، ويدركها الحس، قد عجزت العقول عن الوقوف على حقيقتها، فكيف ما لطف عن الحس واستتر عن الوهم؟.. فإن قالوا: ولم استتر؟ قيل لهم: لم يستتر بحيلة يخلص إليها، كمن يحتجب من الناس بالأبواب والستور. وإنما معنى قولنا استتر إنه لطف عن مدى ما تبلغه الأوهام، كما لطفت النفس. وهي خلق من خلقه. وارتفعت عن إدراكها بالنظر.. فإن قالوا ولم لطف تعالى عن ذلك علوا كبيرا؟ كان ذلك خطأ من القول، لأنه لا يليق بالذي هو خالق كل شيء إلا أن يكون مباينا لكل شيء، متعاليا عن شيء سبحانه وتعالى. (الحق الذي تطلب معرفته من الأشياء أربعة أوجه وتفصيل ذلك) فإن قالوا: كيف يعقل أن يكون مباينا لكل شيء متعاليا عن كل شيء؟ قيل لهم: الحق الذي تطلب معرفته من الأشياء هو أربعة أوجه، فأولها أن ينظر أموجود هو أم ليس بموجود، والثاني أن يعرف ما هو في ذاته وجوهره؟ والثالث أن يعرف كيف هو وما صفته؟ والرابع أن يعلم لماذا هو ولأي علة؟ فليس من

ص 120

هذه الوجود شيء يمكن للمخلوق أن يعرفه من الخالق حق معرفته، غير أنه موجود فقط. فإذا قلنا: وكيف وما هو؟ فممتنع علم كنهه. وكمال المعرفة به. وأما لماذا هو؟ فساقط في صفة الخالق، لأنه جل ثناؤه علة كل شيء. وليس شيء بعلة له، ثم ليس علم الإنسان بأنه موجود، يوجب له أن يعلم: ما هو وكيف هو؟ كما أن علمه بوجود النفس لا يوجب أن يعلم: ما هي وكيف هي؟ وكذلك الأمور الروحانية اللطيفة… فإن قالوا فأنتم الآن تصفون من قصور العلم عنه وصفا، حتى كأنه غير معلوم؟ قيل لهم: هو كذلك من جهة إذا رام العقل معرفة كهنه والإحاطة به، وهو من جهة أخرى أقرب من كل قريب إذا استدل عليه بالدلائل الشافية. فهو من جهة كالواضح لا يخفى على أحد وهو من جهة كالغامض لا يدركه أحد، وكذلك العقل أيضا ظاهر بشواهده ومستور بذاته.

 (أصحاب الطبائع ومناقشة أقوالهم)

 فأما (أصحاب الطبائع) فقالوا: إن الطبيعة لا تفعل شيئا لغير معنى ولا عما فيه تمام الشيء في طبيعته، وزعموا أن الحكمة تشهد بذلك، فقيل لهم: فمن أعطى الطبيعة هذه الحكمة، والوقوف على حدود الأشياء بلا مجاوزة لها، وهذا قد تعجز عنه العقول بعد طول التجارب؟ فإن أوجبوا للطبيعة الحكمة والقدرة على مثل هذه الأفعال، فقد أقروا بما أنكروا، لأن هذه في صفات الخالق. وإن أنكروا أن يكون هذا للطبيعة، فهذا وجه الخلق يهتف بأن الفعل للخالق الحكيم، وقد كان من القدماء طائفة أنكروا العمد والتدبير في الأشياء، وزعموا أن كونها بالعرض والاتفاق وكان مما احتجوا به هذه الآيات التي تكون على غير مجرى العرف والعادة كانسان يولد ناقصا أو زائدا أصبعا، أو يكون المولود مشوها مبدل الخلق فجعلوا هذا دليلا على أن كون الأشياء ليس بعمد وتقدير بل بالعرض كيف ما أتفق أن يكون؟. وقد كان

ص 121

(ارسطاطاليس) (1) رد عليهم فقال إن الذي يكون بالعرض والاتفاق إنما هو شيء يأتي في الفرط مرة لأعراض تعرض للطبيعة فتزيلها عن سبيلها، وليس بمنزلة الأمور الطبيعية الجارية شكل واحد جريا دائما متتابعا. وأنت يا مفضل ترى أصناف الحيوان أن يجري أكثر ذلك على مثال ومنهاج واحد، كالإنسان يولد وله يدان ورجلان وخمس أصابع، كما عليه الجمهور من الناس، فأما ما يولد على خلاف ذلك، فإنه لعلة تكون في الرحم، أو في المادة التي ينشأ منها الجنين، كما يعرض في الصناعات، حين يتعمد الصانع الصواب في صنعته، فيعوق دون ذلك عائق في الأداة، أو في الألة التي يعمل فيها الشيء، فقد يحدث مثل ذلك في أولاد الحيوان للأسباب التي وصفنا، فيأتي الولد زائدا أو ناقصا أو مشوها، ويسلم أكثرها فيأتي سويا لا علة فيه، فكما أن الذي يحدث في بعض أعمال الأعراض لعلة فيه لا يوجب عليها جميعا الإهمال وعدم الصانع، كذلك ما يحدث على بعض الأفعال الطبيعية لعائق يدخل عليها، لا يوجب أن يكون جميعها بالعرض والاتفاق، فقول من قال في الأشياء أن كونها بالعرض والاتفاق من قبيل أن شيئا منها يأتي على خلاف الطبيعة بعرض يعرض له خطأ وخطل… فإن قالوا: ولم صار مثل هذا يحدث في الأشياء؟ قيل لهم ليعلم أنه ليس كون الأشياء باضطرار من الطبيعة، ولا يمكن أن يكون سواه – كما قال القائلون – بل هو تقدير وعمد من خالق حكيم، إذ جعل الطبيعة تجري أكثر ذلك على مجرى ومنهاج معروف،

(هامش)

(1) ارسطاطاليس لفظة يونانية معناها محب الحكمة ويقال ارسطو وهو إحدى الشخصيات العالمية التي اشتهرت منذ قرون بعيدة، كان تلميذا لأفلاطون بعد أن خلفه على دار التعليم عند غيبته إلى صقلية نظر في الفلسفة بعد أن أتى عليه من العمر (30) عاما. كان بليغ اليونانيين وأجل علمائهم، كما كان من ذوي الأفكار العالية في الفلسفة، ويعرف بالمعلم الأول لأنه أول من جمع علم المنطق ورتبه واخترع فيه، وقد عظم محله عند الملوك حتى أن الإسكندر الأكبر كان يمضي الأمور عن رأيه، عاش سبعا وستين سنة، بعد أن توفي في خلكيس عام 322 قبل الميلاد، وله كتب كثيرة في مختلف فروع العلم. (*)

ص 122

وتزول أحيانا عن ذلك، لأعراض تعرض لها، فيستدل بذلك أنها مصرفة مدبرة فقيرة إلى إبداء الخالق وقدرته في بلوغ غايتها، وإتمام عملها، تبارك الله أحسن الخالقين.

 يا مفضل خذ ما آتيتك، وأحفظ ما منحتك، وكن لربك من الشاكرين، ولآلائه من الحامدين، ولأوليائه من المطيعين، فقد شرحت لك من الأدلة على الخلق، والشواهد على صواب التدبير والعمد، قليلا من كثير، وجزءا من كل، فتدبره وفكر فيه واعتبر به فقلت بمعونتك.

 يا مولاي أقر على ذلك، وأبلغه إن شاء الله.. فوضع يده صدري فقال أحفظ بمشيئة الله، ولا تنس إن شاء الله، فخررت مغشيا علي، فلما أفقت قال: كيف ترى نفسك يا مفضل؟ فقلت: قد استغنيت بمعونة مولاي وتأييده عن الكتاب الذي كتبته وصار ذلك بين يدي كأنما اقرأه من كفي، فلمولاي الحمد والشكر كما هو أهله ومستحقه. فقال: يا مفضل فرغ قلبك، وأجمع إليك ذهنك وعقلك وطمأنينتك فسألقي إليك من علم ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله بينهما وفيهما من عجائب خلقه، وأصناف الملائكة وصفوفهم ومقاماتهم ومراتبهم إلى سدرة المنتهى، وسائر الخلق من الجن والإنس، إلى الأرض السابعة السفلى وما تحت الثرى، حتى يكون ما وعيته جزءا. من أجزاء انصرف إذا شئت مصاحبا مكلوءا، فأنت منا بالمكان الرفيع، وموضعك من قلوب المؤمنين موضع الماء من الصدى ولا تسألن عما وعدتك حتى أحدث لك منه ذكرا. قال المفضل: فانصرفت من عند مولاي بما لم ينصرف أحد بمثله.

 

 

شاهد أيضاً

اليمن – رمز الشرف والتضامن العربي مع غزة فتحي الذاري

  ان الحشد المليوني للشعب اليمني بكافة قواه الفاعلة والاصطفاف الرشيد بقيادة السيد القائد عبدالملك ...