الرئيسية / الاسلام والحياة / الحسين عليه السلام سماته وسيرته 18

الحسين عليه السلام سماته وسيرته 18

23 – مع الشعر والشعراء
الشعر يجري في وجدان الشعوب مجرى الدم ، ومعه يجري ما يحتويه
الشعر من معنى ومضمون ، وللشعراء في المجتمعات – وخاصة المجتمع العربي –
وجود مؤثر لا يمكن إنكاره .
واختلف الشعراء في أغراضهم وأهدافهم ، باختلاف طبائعهم ، وأصولهم ،
وانتماءاتهم القبلية والطائفية ، وأهدافهم وأطماعهم الدينية والدنيوية ، وما إلى
ذلك من وجهات نظر ، وغايات ، وآمال .
والمال الذي يسيل له لعاب كثير من الناس ، يغري من الشعراء من امتهنوا
الشعر ، وحملوه مؤونة حياتهم المادية ، قبل أن يكون بنفسه غرضا ، يحدوهم
إلى نيل مكانة اجتماعية في الأدب واللغة ، أو خلود الذكر في الحضارة البشرية ،
أو علو الكعب والشرف بين الأقران والأهل والعشيرة ، أو الخلد والثواب والأجر
في الآخرة .
أما المال عند أهل الشرف والكرامة والإنسانية والعزة النفسية ، من أصحاب
الأهداف السامية الكبرى ، فهو وسيلة وليس هدفا .
وكما أن الله تعالى ذكره استخدم المال لأغراض العبور على الجسور ،
والوصول بها إلى الأهداف الربانية ، فجعل للمؤلفة قلوبهم حقا في أموال الله ! ،
فكذلك الحسين عليه السلام ، اتباعا للقرآن ، وتطبيقا له فإنه كان يستخدم
المال لهدف معنوي إلهي سام . فكان يعطي شعراء عصره ، ولما عوتب ، قال :
[ 199 ] إن خير المال ما وقى العرض ( 1 )
والعرض هنا ليس هو الناموس ، إذ ليس بين المسلمين من يخال أن ينال
من عرض أهل بيت الرسالة
بل المراد به العرض السياسي الذي استهدفه من آل محمد الأمويون ،
فكانوا يكيلون سيل التهم والافتراء ضد علي وآل محمد ، على حساب المدائح
لمخالفيهم من آل عثمان ومروان وطواغيت آل أبي سفيان .
فكانت مبادرة الإمام الحسين عليه السلام قطعا لأعذار المتسولين بشعرهم
والمستغلين لهذا المنبر الشعبي الفاعل ، في سبيل جمع الحطام الزائل ، وعلى
حساب تحكيم سلطة الظلمة الجائرين ،
فكان عطاء الحسين عليه السلام يحد من اتجاه الشعراء إلى أبواب الحكام ،
ويقلل من فرص استغلالهم من قبل الجائرين ، كما يوصد أمام السفلة أبواب
التعرض للشرفاء من معارضي السلطة وأنصارها الطغاة البغاة ( 1 ) .
ويمكن أن تفسر ظاهرة رواية الشعر المنسوب إلى الأئمة عليهم السلام ،
على أساس من هذا المنطلق ، فبالرغم من أن قول الشعر لا يليق بأولئك العلماء ،
القادة ، السادة ، الذين كانت لهم اهتمامات كبرى ، ومع أن الشعر المنسوب أكثره
ضعيف اللفظ والوزن ، ولا وقع له في مجال اللغة والأدب فضلا عن أن يقاس
بكلماتهم النثرية التي هي في قمة البلاغة والفصاحة ،
إلا أن من الممكن أن تصدر – لو صحت النسبة – من أجل ملئ الفراغ في دنيا
الشعر ، والذي انهمك فيه الشعراء بأغراض أخرى ، وقلت فيها النخوة الدينية
عندهم ، فلا يبعد أن يكون للأئمة عليهم السلام شعر يسد بعض هذا الفراغ ،
ويجذب قلوب الناس إلى المعاني والأغراض الصالحة التي تحتويه ،
أو يكون بعض الموالين قد حاول ذلك ، فأخذ من الأئمة المعاني ونظمها
بشكل سهل ، ليتهيأ لكل الناس حفظه وتداوله ، فنسب إلى الأئمة باعتبار معانيه .
ومن الشعر المنسوب إلى الإمام :
ومهما يكن ، فإن ابن عساكر قد روى من الشعر المنسوب إلى الإمام
الحسين عليه السلام ، الشئ الكثير ، نختار منه ما يلي :
[ 205 ] خرج سائل يتخطى أزقة المدينة ، حتى أتى باب
الحسين بن علي ، فقرع الباب ، وأنشأ يقول :
لم يخب اليوم من رجاك ومن * حرك من خلف بابك الحلقه
فأنت ذو الجود أنت معدنه ( 1 ) * أبوك قد كان قاتل الفسقه
وكان الحسين بن علي واقفا يصلي ، فخفف من صلاته ،
وخرج إلى الأعرابي ، فرأى عليه أثر ضر وفاقة ، فرجع
ونادى بقنبر فأجابه : لبيك ، يا بن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ،
قال : ما تبقى معك من نفقتنا ؟
قال : مائتا درهم ، أمرتني بتفريقها في أهل بيتك ،
قال : فهاتها ، فقد أتى من هو أحق بها منهم .
فأخذها ، وخرج ، فدفعها إلى الأعرابي ، وأنشأ يقول :
خذها فإني إليك معتذر * واعلم بأني عليك ذو شفقه
لو كان في سيرنا الغداة عصا ( 80 ) * كانت سمانا عليك مندفقه
لكن ريب الزمان ذو نكد * والكف منا قليلة النفقة
فأخذها الأعرابي وولى وهو يقول :
مطهرون نقيات ثيابهم * تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا
فأنتم أنتم الأعلون عندكم * علم الكتاب وما جاءت به السور
من لم يكن علويا حين تنسبه * فماله في جميع الناس مفتخر ( 81 )
[ 208 ] وأنشدوا ، له عليه السلام :
أغن عن المخلوق بالخالق * تغن عن الكاذب والصادق
واسترزق الرحمن من فضله * فليس غير الله من رازق
من ظن أن الناس يغنونه * فليس بالرحمن بالواثق
أو ظن أن المال من كسبه * زلت به النعلان من حالق
[ 209 ] وروى الأعمش ، له عليه السلام :
كلما زيد صاحب المال مالا * زيد في همه وفي الاشتغال
قد عرفناك يا منغصة العيش * ويا دار كل فان وبال
ليس يصفو لزاهد طلب الزهد * إذا كان مثقلا بالعيال ( 2 )
[ 210 ] وروي أن الحسين عليه السلام أتى المقابر بالبقيع
فطاف بها ، وقال :
ناديت سكان القبور فأسكتوا * وأجابني عن صمتهم ندب الجثى
قالت أتدري ما صنعت بساكني * مزقت ألحمهم وخرقت الكسا
وحشوت أعينهم ترابا بعد ما * كانت تؤذى بالقليل من القذى
أما العظام فإنني فرقتها * حتى تباينت المفاصل والشوى
قطعت ذا من ذا ومن هاذاك ذا * فتركتها رمما يطول بها البلى ( 1 )
[ 211 ] وأنشدوا له عليه السلام :
لئن كانت الدنيا تعد نفيسة * فدار ثواب الله أعلى وأنبل
وإن كانت الأبدان للموت أنشئت * فقتل سبيل الله بالسيف أفضل
وإن كانت الأرزاق شيئا مقدرا * فقلة سعي المر في الكسب أجمل
وإن كانت الأموال للترك جمعت * فما بال متروك به المر يبخل ( 2 )
– 24 – رعاية المجتمع الإسلامي
إن من أهم واجبات الإمام هو رعاية المجتمع الإسلامي عن كثب ، وملاحظة
كل صغيرة وكبيرة في الحياة الاجتماعية ، ورصدها ، ومحاولة إصلاحها
وإرشادها ، ودفع المفاسد والأضرار ، بالأساليب الصالحة ، وبالإمكانات
المتوافرة ، دعما للأمة الإسلامية ، وحفظا للمجتمع من الانهيار أو التصدع .
وقد ورد عن الإمام الحسين عليه السلام حديث مهم يدل على عمق اهتمام
الإمام بهذا الأمر الهام :
قال جعيد الهمداني : أتيت الحسين بن علي وعلى صدره
سكينة ابنته ، فقال : يا أخت كلب ، خذي ابنتك عني ،
فسألني ، فقال : أخبرني عن شباب العرب ؟
قلت : أصحاب جلاهقات ومجالس
قال عليه السلام : فأخبرني عن الموالي ؟
قلت : آكل ربا ، أو حريص على الدنيا !
قال عليه السلام : ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) والله ، إنهما
للصنفان اللذان كنا نتحدث أن الله تبارك وتعالى ينتصر بهما
لدينه .
يا جعيد همدان : الناس أربعة :
فمنهم من له خلاق ، وليس له خلق
ومنهم من له خلق ، وليس له خلاق .
ومنهم من ليس له خلق ولا خلاق ، فذاك أشر الناس ومنهم
من له خلق وخلاق ، فذاك أفضل الناس ( 1 ) .
وهذا الحديث يدل على مراقبة دقيقة ، من الحسين عليه السلام ، لمجتمع
عصره :
فقوله : كنا نتحدث ، يدل – بوضوح – على تداول الأمر ، والتدبير الحكيم
والمشورة المستمرة ، من الإمام ومن كان معه ، حول السبل الكفيلة لنصرة الدين
وإعزازه وتقوية جانبه ، وتهيئة الكوادر الكفوءة لهذه الأغراض وإنجاحها .
والتركيز على شباب العرب ، بالذات ، يعني الاعتماد على الجانب الكيفي
في الكوادر العاملة ، إذ بالشباب يتحقق التحرك السريع والجرئ ، فهم عصب
الحياة الفعال ، وعليهم تعقد الآمال ، وهم يمثلون القوة الضاربة .
وأما الموالي ، فهم القاعدة العريضة ، التي ترتفع أرقامها في أكثر
المواجهات والحركات ، وهم أصحاب العمل والمال ، والذين دخلوا هذا الدين
عن قناعة بالحق ، وحاجة إلى العدل .
ولكن سياسة التهجين ، والتدجين ، الأموية ، جرت شباب العرب ، إلى اللهو
واللعب . وجرت الموالي إلى الالتهاء بالأموال والتكاثر بها .
وهنا تأتي كلمة ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) في موقعها المناسب ، لأنها تقال
عند المصيبة ، والمصيبة الحقيقية أن تموت روح القوة والتضحية والنضال في
هذين القطاعين المهمين من الأمة .
وتقسيمه عليه السلام المجتمع إلى :
من له خلق وكرامة وشرف ، يعتمد الأعراف الطيبة ، وتدفعه المروءة إلى
التزام العدل والإنصاف ، ورفض الجور والفساد والامتهان ، ويرغب في الحياة
الحرة الكريمة في الدنيا .
وإلى من له خلاق ودين وعمل صالح وضمير ووجدان وعقيدة ورجاء
ثواب ، يدفعه كل ذلك إلى نبذ الباطل ، وبذل الجهد في سبيل إحقاق الحق .
فمن جمع الأمرين فهو أفضل الناس جميعا ، وهو ممن تكون له حمية ،
ويسعى في الدخول في من ينتصر الله به لدينه .
ومن تركهما معا ، فهو من أذل الناس وأحقرهم ، وهل شر أشر من الذل .
ومن التزم واحدا ، فقد أخطأ طريق العمل الصالح ، وهو في ذل ما ترك
الآخر ، وهل يرجى الخير من ذليل ؟ وإن كان محسنا أو صالحا ؟
وموقف آخر :
قال بشر بن غالب الأسدي : قدم على الحسين بن علي أناس من أنطاكية
فسألهم : عن حال بلادهم ؟ وعن سيرة أميرهم فيهم ؟ فذكروا خيرا ، إلا أنهم
شكوا البرد ( 1 ) .
فالإمام عليه السلام يستكشف الأوضاع السائدة في بلاد المسلمين ، حتى
أبعد نقطة شمالية ، وهي أنطاكية ، وهي رقابة تنبع من قيادة الإمام للأمة ، فمع فراغ
يده من السلطة القائمة ، فهو لا يتخلى عن موقعه ، ويخطط له .

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...