الرئيسية / الاسلام والحياة / الحسين عليه السلام سماته وسيرته 19

الحسين عليه السلام سماته وسيرته 19

25 – مواقف قبل كربلاء
التزم الحسين بمواقف أخيه مدة إمامة الحسن عليه السلام ، لأن الحسين من
رعاياه ، وتجب عليه طاعته والانقياد له ، لما هو من الثابت أن الإمام إنما يتصرف
حسب المصالح اللازمة ، وطبقا للموازين الشرعية ، التي تمليها عليه الظروف ،
وبالأدوات والإمكانات المتيسرة له .
وقد استغل معاوية حلم الإمام الحسن عليه السلام ، ليتمادى في غيه ، ويزيد
في تجاوزاته وتعدياته ، فخطط لذلك خططا جهنمية ، تؤدي نتائجها إلى هدم
كيان الإسلام ، وضرب قواعده ، بدأ بتحريف الحقائق ونشر البدع ومنع ،
ومنع الحديث النبوي ، وإبطال السنة ، في بلاط الأمراء والحكام ، ثم محاولة نشر ذلك
في ساحة البلاد الإسلامية الواسعة .
لكن الذي كان يمنعه وجود الأعداد الكبيرة من أنصار الحق ، وأعوان الإمام
علي عليه السلام الذين حافظ على وجودهم الإمام الحسن عليه السلام بمخططه
العظيم ومواقفه الصائبة بالتزام الصلح المفروض ، والشروط التي كانت هي قيودا
تكبل معاوية لو التزمها ، وتخزيه لو خرقها .
ولقد خالف معاوية كثيرا من بنود الصلح ، فأخزى نفسه في مخالفة العهد
الموقع من قبله ، وكان أخطر ما قام به هو الفتك بالصلحاء من الشيعة الذين كانوا
يتصدون لمنكره ، وللبدع التي كان ينشرها ، وللأحاديث المكذوبة التي كان
يذيعها على ألسنة ولاته ووعاظ بلاطه .
فلما مات الحسن بن علي – والكلام من هنا لسليم بن قيس الهلالي ، المؤرخ
الذي عاش الأحداث وسجلها بدقة – :
ازداد البلاء والفتنة ، فلم يبق لله ولي إلا خائف على نفسه ، أو مقتول ، أو
طريد ، أو شريد ( 1 ) .
وكانت الفترة التالية عصر إمامة الحسين عليه السلام ، وكانت مزاولات
معاوية التعسفية بلغت أوج ما يتصور ، وكادت مخططاته أن تثمر ، وقد اتضح
لجميع الأمة – صالحها وطالحها – استهتار معاوية بالمواثيق التي التزم بها نفسه في
وثيقة الصلح ، والعهود التي قطعها على نفسه أمام الأمة ، وتبين للجميع أن ما
يزاوله إنما هو الملك والسلطة ، وليس هو الخلافة عن الله ورسوله ، فقد انفتحت
فقد انفتحت أمام الحسين عليه السلام آفاق جديدة وأتيحت له ظروف مغايرة ، ووجب عليه
التصدي لاستثمارات معاوية من خططه الجهنمية التي أعدها طوال السنين التي
حكم فيها من سنة ( 40 ) للهجرة ، وحتى أواخر أيام ملكه
اجتماع منى العظيم :
قال سليم في تتمة كلامه السابق : فلما كان قبل موت معاوية بسنتين ، حج
الحسين بن علي عليه السلام وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عباس معه .
وقد جمع الحسين بن علي عليه السلام بني هاشم : رجالهم ونساءهم
ومواليهم وشيعتهم ، من حج منهم ومن لم يحج ، ومن الأنصار ممن يعرفونه
وأهل بيته .
ثم لم يدع أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن
أبنائهم والتابعين ، ومن الأنصار المعروفين بالصلاح والنسك ، إلا جمعهم .
فاجتمع عليه ” بمنى ” أكثر من ألف رجل ( 1 ) .
ويمكن اعتبار اجتماع منى هذا العظيم ، موقفا سياسيا هاما ، من وجهين :
1 – أنه تظاهرة كبيرة ، تجمع عددا كبيرا من ذوي الشهرة ، والوجهاء
المعروفين بين الأمة ، بحيث لا يمكن إغفال أثرها ولا منع الناس من التساؤلات
حولها .
2 – أنه أكبر مجلس يضم أصحاب الرأي من رجالات الأمة ، وشخصياتها
ممن له الحق في إبداء الرأي ، وسن القانون ، وهم النخبة المقدمة من أهل الحل
والعقد ، ومن جميع القطاعات الفاعلة في المجتمع الإسلامي وهم : العلويون
العلويون ، والصحابة – المهاجرون والأنصار – والتابعون ، ومن النساء ، وطبقة الأبناء ، وطبقة
الموالي .
بحيث يمكن أن يعتبر ذلك ” استفتاءا شعبيا عاما ” من خلال وجود ممثلين
لكل طبقات الشعب المسلم .
وتبدو الحكمة والحنكة في انتخاب الزمان ، والمكان ، لعقد ذلك المجمع
العظيم :
فأرض منى المفتوحة الواسعة ، وهي جزء من الحرم – تسع لمثل هذا
الاجتماع العظيم في ساحة واحدة ، وفي وسط كل الوافدين عليها ، من الحجاج
المؤدين للواجب ، أو غيرهم القائمين بأعمال أخرى ، واجتماع رهيب ، مثل
ذلك ، لا يخفى على كل الحاضرين في تلك الأرض المفتوحة ، وبذلك ينتشر
الخبر ، ولا يحصر بين الأبواب المغلقة أو جدران مكان خاص .
ولا بد أن يكون الاجتماع في زمان الحضور في منى وهو يوم العيد الأكبر –
يوم الأضحى – العاشر من ذي الحجة ، فما بعد ، إذ على الجميع – الناسكين
والعاملين معهم – الوجود على أرض منى ، لأداء مناسكها أو تقديم الخدمات إلى
الوافدين .
وفي انتخاب مثل هذا المكان ، في مثل ذلك الزمان ، مع نوعية الأشخاص
المنتخبين للاشتراك في هذا الاجتماع ، دلالات واضحة على التدبير والاهتمام
البليغ الذي كان يوليه الإمام لهذا الموقف .
وأما محتوى الخطاب التاريخي الذي ألقاه الإمام الحسين عليه السلام فهو ما
سنقرؤه معا ( 1 ) :
خطبة الإمام بمنى :
أما بعد ، فإن هذا الطاغية قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم .
وإني أريد أن أسألكم عن شي ، فإن صدقت فصدقوني ، وإن كذبت
فكذبوني .
اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي ، ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم ، فمن أمنتم
من الناس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقنا .
فإني أتخوف أن يدرس هذا الأمر ، ويذهب الحق ويغلب ( والله متم نوره ولو
كره الكافرون ) .
أنشدكم الله : أتعلمون أن علي بن أبي طالب كان أخا رسول الله – صلى الله عليه
وآله وسلم – حين آخى بين أصحابه فآخى بينه وبين نفسه ، وقال : أنت أخي وأنا
أخوك في الدنيا والآخرة ؟
قالوا : اللهم نعم ،
قال : أنشدكم الله : هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اشترى
موضع مسجده ومنازله فابتناه ثم ابتنى فيه عشرة منازل ، تسعة له ، وجعل عاشرها
في وسطها لأبي ، ثم سد كل باب إلى المسجد غير بابه ، فتكلم في ذلك من تكلم ،
فقال : ما أنا سددت أبوابكم وفتحت بابه ولكن الله أمرني بسد أبوابكم وفتح بابه ،
ثم نهى الناس أن يناموا في المسجد غيره ، وكان يجنب في المسجد ومنزله في
منزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فولد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وله فيه أولاد
قالوا : اللهم نعم .
قال : أ فتعلمون أن عمر بن الخطاب حرص على كوة قدر عينه يدعها في منزله
إلى المسجد فأبى عليه ، ثم خطب فقال : إن الله أمرني أن أبني مسجدا طاهرا لا
يسكنه غيري وغير أخي وبنيه ؟
قالوا : اللهم نعم .
قال : أنشدكم الله : أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصبه يوم
غدير خم فنادى له بالولاية وقال : ليبلغ الشاهد الغائب ؟
قالوا : اللهم نعم .
قال : أنشدكم الله : أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له في
غزوة تبوك : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، وأنت ولي كل مؤمن بعدي ؟
قالوا : اللهم نعم .
قال : أنشدكم الله : أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين دعا
النصارى من أهل نجران إلى المباهلة لم يأت إلا به وبصاحبته وابنيه ؟
قالوا : اللهم نعم .
قال : أنشدكم الله : أتعلمون أنه دفع إليه اللواء يوم خيبر ثم قال : لأدفعه إلى
رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله كرار غير فرار ، يفتحها الله على يديه ؟
قالوا : اللهم نعم .
قال : أتعلمون أن رسول الله بعثه ببراءة وقال : لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل مني ؟
قالوا : اللهم نعم .
قال : أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم تنزل به شدة قط إلا
قدمه لها ثقة به وأنه لم يدعه باسمه قط إلا يقول : يا أخي ، وادعوا لي أخي ؟
قالوا : اللهم نعم .
قال : أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بينه وبين جعفر
وزيد فقال : يا علي أنت مني وأنا منك ، وأنت ولي كل مؤمن بعدي ؟
قالوا : اللهم نعم .
قال : أتعلمون أنه كانت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل يوم خلوة
وكل ليلة دخلة ، إذا سأله أعطاه وإذا سكت ابتدأه ؟
قالوا : اللهم نعم .
قال : أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضله على جعفر وحمزة
حين قال : لفاطمة عليها السلام : زوجتك خير أهل بيتي ، أقدمهم سلما ، وأعظمهم
حلما ، وأكثرهم علما ؟
قالوا : اللهم نعم .
قال : أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أنا سيد ولد بني
آدم ، وأخي علي سيد العرب ، وفاطمة سيدة نساء أهل الجنة ، والحسن والحسين
ابناي سيدا شباب أهل الجنة ؟
قالوا : اللهم نعم .
قال : أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمره بغسله وأخبره أن
جبرئيل يعينه عليه ؟
قالوا : اللهم نعم .
قال : أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في آخر خطبة
خطبها : إني تركت فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي ، فتمسكوا بهما لن تضلوا ؟
قالوا : اللهم نعم .
ثم ناشدهم أنهم قد سمعوه يقول : ” من زعم أنه يحبني ويبغض عليا فقد
كذب ، ليس يحبني ويبغض عليا ” ، فقال له قائل : يا رسول الله وكيف ذلك ؟ قال :
لأنه مني وأنا منه ، من أحبه فقد أحبني ، ومن أحبني فقد أحب الله ، ومن أبغضه فقد
أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله ؟
قالوا : اللهم نعم ، قد سمعنا . . .
اعتبروا أيها الناس بما وعظ الله به أولياء ه من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول :
( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم ) وقال : ( لعن الذين كفروا من
بني إسرائيل – إلى قوله – لبئس ما كانوا يفعلون )
وإنما عاب الله ذلك عليهم ، لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم
المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم ، ورهبة مما
يحذرون ، والله يقول : ( فلا تخشوا الناس واخشون ) وقال : ( المؤمنون
والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) .
فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه لعلمه بأنها إذا أديت
وأقيمت استقامت الفرائض كلها هينها وصعبها ، وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع رد المظالم ومخالفة الظالم وقسمة الفئ والغنائم
وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقها .
ثم أنتم أيتها العصابة عصابة بالعلم مشهورة وبالخير مذكورة وبالنصيحة
معروفة وبالله في أنفس الناس مهابة ، يهابكم الشريف ويكرمكم الضعيف ويؤثركم
من لا فضل لكم عليه ، ولا يد لكم عنده ، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت من
طلابها ، وتمشون في الطريق بهيبة الملوك وكرامة الأكابر .
أليس كل ذلك إنما نلتموه بما يرجى عندكم من القيام بحق الله وإن كنتم عن
أكثر حقه تقصرون فاستخففتم بحق الأئمة ، فأما حق الضعفاء فضيعتم ، وأما حقكم
بزعمكم فطلبتم ، فلا مالا بذلتموه ، ولا نفسا خاطرتم بها للذي خلقها ، ولا عشيرة
عاديتموها في ذات الله .
أنتم تتمنون على الله جنته ومجاورة رسله وأمانا من عذابه
لقد خشيت عليكم – أيها المتمنون على الله – أن تحل بكم نقمة من نقماته
لأنكم بلغتم من كرامة الله منزلة فضلتم بها ، ومن يعرف بالله لا تكرمون ، وأنتم بالله
في عباده تكرمون .
وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون ، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون
وذمة رسول الله مخفورة ، والعمي والبكم والزمنى في المدائن مهملة لا ترحمون
ولا في منزلتكم تعملون ، ولا من عمل فيها تعينون . وبالإدهان والمصانعة عند
الظلمة تأمنون .
كل ذلك مما أمركم الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون .
وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون ،
ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله
وحرامه ، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة وما سلبتم ذلك إلا بتفرقكم عن الحق
واختلافكم في السنة بعد البينة الواضحة ، ولو صبرتم على الأذى وتحملتم المؤونة
في ذات الله كانت أمور الله عليكم ترد وعنكم تصدر وإليكم ترجع ، ولكنكم مكنتم
الظلمة من منزلتكم ، وأسلمتم أمور الله في أيديهم ، يعملون بالشبهات ، ويسيرون
في الشهوات ، سلطهم على ذلك فراركم من الموت وإعجابكم بالحياة التي هي
مفارقتكم ، فأسلمتم الضعفاء في أيديهم فمن بين مستعبد مقهور ، وبين
مستضعف على معيشته مغلوب ، يتقلبون في الملك بآرائهم ، ويستشعرون الخزي
بأهوائهم ، اقتداء بالأشرار وجرأة على الجبار ، في كل بلد منهم على منبره خطيب
مصقع .
فالأرض لهم شاغرة ، وأيديهم فيها مبسوطة ، والناس لهم خول ، لا يدفعون
يد لامس ، فمن بين جبار عنيد ، وذي سطوة على الضعفة شديد ، مطاع لا يعرف
المبدى المعيد .
فيا عجبا ! وما لي لا أعجب ! والأرض من غاش غشوم ، ومتصدق ظلوم ،
وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم ! فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا ، والقاضي
بحكمه فيما شجر بيننا .
اللهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافسا في سلطان ، ولا التماسا من
فضول الحطام ، ولكن لنري المعالم من دينك ، ونظهر الإصلاح في بلادك ، ويأمن
المظلومون من عبادك ، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك .
فإنكم إن لا تنصرونا وتنصفونا قويت الظلمة عليكم ، وعملوا في إطفاء نور
نبيكم . وحسبنا الله وعليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير .
إن هذا الموقف يعتبر ، أقوى معارضة علنية أقدم عليها الحسين عليه السلام
في مواجهة معاوية وإجراءاته الخطرة التي دأب – طول حكمه – بعد استيلائه على
أريكة الحكم في سنة ( 40 ) للهجرة على العمل بكل دهاء وتدبير ، لتأسيس دولته
المنحرفة عن سنن الهدى والصلاح والتقى ، فحاول في الردة عن الإسلام إلى
إحياء الجاهلية الأولى بما فيها من الظلم والعصبية والتجسيم لله ، والقول بالجبر
والإرجاء وما إلى ذلك من الأفكار التي تؤدي إلى تحميق الناس وإخماد جذوة
الحركة الثورية الإسلامية ، والتوحيدية الإصلاحية .
فكانت حركة الحسين عليه السلام ، وبهذا الأسلوب المحكم الرصين ، وفي
الزمان والمكان المنتخبين بدقة ، أول معارضة معلنة ضد كل الإجراءات تلك .
وإن كان الإمام الحسين عليه السلام لم يكف مدة إمامته عن مواجهة معاوية
بشكل خاص في القضايا الجزئية ، وفي اللقاءات الخاصة ، لكن هذا الإجراء
العظيم اعتبره رجال الدولة ثورة معلنة ، وتحركا سياسيا خطرا على الدولة ، ومؤديا
إلى تبخير كل الجهود والآمال والطموحات التي عملوا من أجلها طوال عشرين
سنة من حكمهم الفاسد .
معاوية بين فكي الأسد :
كأن من مخططات معاوية مخالفة كل التراتيب الإدارية الإسلامية حتى في
شكل تعيين الخليفة خارجا عن جميع الآراء حتى تلك التي عملها الخلفاء قبله ،
فعمد إلى تجاوز سنن الذين سبقوه كلهم ، فلا هو عمل كما فعل أبو بكر في العهد
لعمر من بعده ، ولا عمل مثل عمر في جعلها شورى ، ولا أرجع الأمر إلى أهل
الحل والعقد يختارون لأنفسهم ، بل عمد إلى تنصيب ابنه خليفة وأخذ البيعة
له قبل أن يموت ، ليعلنها ” ملكا عضوضا ” بعد أن كانت خلافة !
وكان هذا الإجراء من أخطر ما أقدم عليه معاوية في آخر سني حياته ، ولذلك
كان للناس مواقف متفاوتة تجاه هذه البدعة ، أما الحسين عليه السلام فقد استغل
ذلك للإعلان عن مخالفة هذا الإجراء لبنود وثيقة الصلح الموقعة من قبل معاوية ،
فلا خلاف بين العلماء أن الحسن إنما سلم الخلافة لمعاوية حياته لا غير ( 1 ) .
مع أن يزيد ، كان معروفا بين الأمة بفسقه ، ولهوه ، وعدم لياقته للأدنى من
الخلافة ، فضلا عنها .
ولم يخف الحسين عليه السلام نشاطه ، حتى عرف منه ذلك ، فجأته
الوفود يقولون له :
[ 254 ص 197 ] قد علمنا رأيك ورأي أخيك .
فقال عليه السلام : ” إني أرجو أن يعطي الله أخي على نيته
في حبه الكف ، وأن يعطيني على نيتي في حبي جهاد الظالمين ” ( 2 ) .
إن كلمة ” الجهاد ” تهز الحكومة الظالمة ، التي تخيلت أنها قد قطعت شأفة أهل
الحق ، واجتثت أصول التحرك الجهادي ، بقتل كبار القواد ، وطمس معالم الحق ،
وتشويه سمعة أهل البيت ، وسلب الإمكانات المادية منهم .
ولكن لما يسمع الحكام كلمة ” جهاد الظالمين ” من الحسين عليه السلام
السبط الوحيد الذي تشخص إليه أبصار البقية الباقية من المسلمين ، والقلائل
الذين بقوا من أولاد الشهداء والصحابة الصلحاء الذين ضاقوا ذرعا من تصرفات
معاوية وولاته الجائرين ، فإن الأمراء يتهيبون الوضع ، بلا ريب .
وخاصة مثل مروان بن الحكم – ابن طريد رسول الله ولعينه – الذي لم يجد
فرصة للإمارة على مدينة الرسول ، إلا حكم معاوية ، وإلا فأين هو من مثل هذا
المقام الذي لم يحلم به ؟
فها هو يجد في تحرك الإمام الحسين عليه السلام أن أجراس الخطر تدق
تحت آذانه ، وهو العدو اللدود للحسين وأهل بيته ، منذ القديم ، يوم وقف في
حرب الجمل يشعل فتيل الحرب ضد الإمام علي عليه السلام ، لكنه فشل واندحر
وأسر وذل ، ومن عليه الإمام فيمن من عليهم من أهل تلك الحرب .
وهو – وإن استفاد من حكم معاوية – إلا أنه لا يكن لمعاوية ولا لآل أمية ودا ،
بعد أن أصبح ذيلا لهم ، ويراهم منتصرين في صفين ، بينما هو اندحر أمام علي
وانكسر في وقعة الجمل .
والآن ، يريد أن يضرب بسهم واحد هدفين ، فكتب إلى معاوية : [ 254 ص 197 ] إني لست آمن أن يكون حسين مرصدا
للفتنة ، وأظن يومكم من حسين طويلا ( 1 ) .
ولكن معاوية أذكى من مروان ، فهو يعلم أن تحرشه بالحسين لا يصلح
لتحقيق مآربه ، فكتب إلى الحسين في بعض ما بلغه عنه :
[ ص 198 ] إني لأظن أن في رأسك نزوة ، فوددت أني
أدركتها ، فأغفرها لك ( 1 ) .
وهكذا يحاول معاوية ، أن ” يتحلم ” لكي يمتص من ثورة الإمام وحركته شيئا ما .
ويظهر من الكتاب الثاني ، أنه أحس بخطورة حين كتب إلى الإمام بما
يتهدده ، بما نصه :
[ 254 ص 198 ] أما بعد ، فقد انتهت إلي أمور أرغب بك
عنها ، فإن كانت حقا لم أقارك عليها ، ولعمري ) ( 2 ) إن من
أعطى الله صفقة يمينه وعهده لجدير بالوفاء .
( وإن كانت باطلا ، فأنت أسعد الناس بذلك ، وبحظ نفسك
تبدأ ، وبعهد الله تفي ، فلا تحملني على قطيعتك والإساءة
بك ، فإني متى أنكرك تنكرني ، وإنك ) متى تكدني أكدك .
وقد أنبئت أن قوما من أهل الكوفة قد دعوك إلى
الشقاق ، ( فاتق شق عصا هذه الأمة ، وأن يرجعوا على يدك
إلى الفتنة ) .
وأهل العراق من قد جربت ، قد أفسدوا على أبيك وأخيك
( وقد جربت الناس وبلوتهم ، وأبوك كان أفضل منك ، وقد
كان اجتمع عليه رأي الذين يلوذون بك ، ولا أظنه يصلح لك
منهم ما كان فسد عليه ) .
فاتق الله ، واذكر الميثاق ( وانظر لنفسك ودينك ولا
يستخفنك الذين لا يوقنون ) ( 1 ) .

شاهد أيضاً

السياسة المحورية ونهضة المشروع القرآني لتقويض المصالح الغربية العدائية

فتحي الذاري مأخذ دهاليز سياسة الولايات المتحدة الأمريكية والمصالح الاستراتيجية في الشرق الأوسط تتضمن الأهداف ...