الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / قبسات من الثقافة الإدارية في نهج البلاغة

قبسات من الثقافة الإدارية في نهج البلاغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله رب العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين وبعد.

ذكر السيّد السيّد الرضي في مقدّمته على نهج البلاغة: كانَ أمير المؤمنين عليه السلام مَشْرَعَ الفصاحَةِ و مَوْرِدَها، و مَنشأَ البلاغَةِ و مَولِدَها، و منه عليه السلام ظَهَرَ مَكنُونُها، و عنهُ أُخِذَتْ قوانِينُها، وعلى أَمْثِلَتِهِ حَذا كلُّ قائِلٍ خَطيبٍ، و بكلامِهِ اسْتَعانَ كلُّ واعِظٍ بَليغٍ، و مع ذلكَ فقَدْ سَبَقَ وقَصَّروا، و تَقَدَّمَ و تَأخَروُا ، لأنَّ كلامَهُ عليه السلام الكلامُ الذي عليهِ مَسْحَةٌ مِنَ العِلمِ الإلهي، وفيه عَبْقَةٌ منَ الكلامِ النَّبَوِيِّ.

وقد احتلّ نهجُ البلاغة مقاماً سامياً عند علماء المسلمين وغيرهم، فقيل عن كلامه عليه السلام أنّه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين . وكما يقول السيّد الرضي في مقدمته “وأما كلامه فهو من البحر الذي لا يُساجل، والجمّ الذي لا يُحافل..” .

لهذا إنّ كلمات أمير المؤمنين عليه السلام ولا سيما خطبه وكتبه، كانت موضع عنايةٍ وإقبال وجمع منذ القرون الأولى لتاريخ الإسلام، يقول المسعودي (المتوفّى 346هـ): والذي حفظ الناس عنه عليه السلام من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيّف وثمانون خطبة، يوردها على البديهة، وتداول الناس عنه قولاً وعملاً .

بين يدي القارئ الكريم رسالة موجزة في الثقافة القيادية والإدارية من خلال خطب وكلمات ومشاريع وأعمال ورسائل الإمام علي عليه السلام ولا سيّما في فترة حكومته عليه السلام. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه الدراسة تعمد إلى تناول البعد الثقافي بمفهومه التربوي والتوجيهي العام، دون الدخول في أبحاث ودراسات إداريّة تخصّصية ومعمّقة، وذلك بما ينسجم مع هدف هذا الكتاب. وإلّا فإنّ نصوص وكلمات أمير المؤمنين عليه السلام تشكّل مصدراً هاماً للعديد من الدراسات المتخصّصة في القيادة والإدارة والتربية والتوجيه.

في الختام لا يسعنا إلا أن نقدّم خالص الشكر والامتنان لسماحة العلامة الشيخ محمد مهدي الآصفي قدس سره على جهده العلمي المتميّز في إعداد القسم الأوّل من هذا الكتاب.

والحمدلله رب العالمين
مركز نون للتأليف والترجمة

الفصل الأوّل
التعليمات الإدارية
الصادرة من أمير المؤمنين عليه السلام إلى عمّاله وولاته

الثقافة الإدارية والقيادية
فيما يلي نستعرض إن شاء الله تعالى طائفة من رسائل أمير المؤمنين عليه السلام إلى عمّاله وولاته في البلاد:
وقد انتقينا منها رسالتين:
1- رسالة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إلى محمد بن أبي بكر رحمه الله لما ولّاه مصر.
2- رسالة أمير المؤمنين عليه السلام إلى أهل مصر لمّا ولّى عليهم مالك الأشتر رحمه الله، وفيها يوصيه الإمام عليه السلام بالتعامل مع الناس بالرفق والعدل والحزم والحسم والإحسان، وهذه الرسالة من كنوز الثقافة القيادية والإدارية في التراث الإسلامي.

من كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى محمد بن أبي بكر رحمه الله
1- يقول عليه السلام في كتابه إلى محمد بن أبي بكر رحمه الله، عندما ولّاه مصر: “فاخفض لهم جناحك، وألِن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم ولا ييأس الضعفاء من عدلك بهم، فإنّ الله تعالى يسألكم معشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم والكبيرة، والظاهرة والمستورة، فإن يعذب فأنتم أظلم، وإن يعف فهو أكرم”.

هذه الكلمات مواعظ أخلاقية رفيعة، وفي نفس الوقت تبيّن الأصول العامّة للثقافة الإدارية للمجتمع والحياة العامّة.

يأمر الإمام عليه السلام هنا محمداً رحمه الله أن يلين جانبه للناس، ويبسط لهم وجهه، فلا يجد الناس فيه استعلاء المستكبرين وانقباض وجه المتغطرسين.

إذ ينبغي للحاكم أن يبسط سلطانه على القلوب، حتى تخفق له حبّاً وودّاً من خلال اللين في الكلام، والابتسامة التي تشيع السرور في النفوس التي تنتظر منه بسط الوجه والرضى والمحبّة الدائمة.

“وآس بينهم في اللحظة والنظرة”.

ثم ينتقل الإمام إلى المساواة في النظر بين الأشخاص، فيقول: إذا تحدّثت إلى رعيّتك فليكن نظرك موزّعاً بينهم بالسوية. فلا تجعله موجّهاً إلى فئة معيّنة أو شخص واحد، ولا تحابي بعض الناس في نظراتك دون بعض.

وقد يسأل أحد: ما قيمة النظرة حتى يؤكّد عليها الإمام ويأمرنا بالمساواة فيها.

يقول الإمام عليه السلام: “حتى لا يطمع العظماء في حيفك، ولا ييأس الضعفاء من عدلك بهم”.

فإذا ساوى بنظره بين الناس أشعر الناس أنّه يساوي في اهتمامه ورعايته للناس، فلا يطمع فيه أصحاب المطامع.

وفي الجانب الآخر لا ييأس الضعفاء من عدله، بل يبقى الأمل في نفوسهم أن يشملهم باهتمامه، ويحوطهم برعايته، فيذكرهم إذا غابوا ويتفقّد أحوالهم ويعينهم على بلوى الفقر ومتاعب الحياة.

2- ثم يقول عليه السلام: “ولا تُسخط الله برضى أحد من خلقه، فإنّ في الله خلفاً من غيره، وليس من الله خلف في غيره”.

يأمر الإمام والي مصر أن يتّخذ من الله وليّاً وناصراً عوضاً عمّا في

أيدي الأقوياء والمستأثرين الذين يرون بأنّهم إذا تخلّوا عن الحاكم وغابوا عن مجلسه فسوف يضعف. ثمّ يقول له: لا تسخط الله برضى الأغنياء والأقوياء، فإنّ قوّتهم إلى زوال، وارتبط بالقوّة الإلهية المطلقة المهيمنة على الكون من أوّله إلى آخره.

ثم يقول له: “فإنّ في الله خلفاً من غيره، وليس من الله خلف في غيره”.

تذكرنا هذه الكلمة بدعاء الإمام الحسين عليه السلام “ماذا وجد من فقدك وما الذي فقد من وجدك”؟

إذا انفضّ الأغنياء من حول الحاكم، فإنّ الله عز وجل يخلفه بقوّته وتوفيقه، وتسديده، ولكن ليس لله بديل ولا عوض، إذا أعرض عن عبده وأوكله إلى نفسه، إذا هجرته الرحمة الإلهية، وتخلّى الله عنه وأوكله إلى قوّته وحاشيته وحراسته، فإنّه لا بديل لقوّته المطلقة.

فإذا التفت الحاكم إلى هذه المعاني فلا يستوحش لتفرُّق الناس عنه.

3- ثم يقول عليه السلام لحاكم مصر: “صلِّ الصلاة لوقتها الموقّت لها، ولا تعجل وقتها لفراغ، ولا تؤخّرها عن وقتها لاشتغال، واعلم أنّ كلّ شيء من عملك تبع لصلاتك”.

لا ينبغي للحاكم أن يؤخّر صلاته عن وقتها بسبب انشغاله بمهام الإدارة والحكم مهما بلغت في خطورتها الاجتماعية.

إنّه التنظيم الدقيق لوقت الحاكم بين الإدارة وبين الالتفات إلى ذاته وعبادته وعلاقته بالله حتى لا تستغرقه مسؤولياته الاجتماعية، فيهمل أمر الصلاة، فهو يستمدّ من عبادته القوّة في إدارته وعمله، وفي تجدّد طاقاته النفسية، وتعيد السكينة إلى نفسه، فإنّ هموم العمل تفقد الإنسان التوازن والاتزان والحزم والحسم في القرار.

فيحتاج إلى محطّة عبادية وخلوة مع الله بعيداً عن ضجيج الناس يُجدّد فيها الاتصال بالله.

وبذلك يستعيد قواه ونشاطه وحيويته “فإن كل شيء تبع لصلاتك”.

وفي دعاء كميل: “حتى تكون أعمالي وأورادي كلها ورداً واحداً”.

وما أجمل أن تكون حياة القادة امتداداً للصلاة، وتعبيراً للعبودية لله تعالى، وتطبيقاً لمفاهيم الاستعانة والتوكّل والثقة بالله.

كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى أهل مصر عندما ولّى عليهم مالك الأشتر رحمه الله.
وهذا دستور آخر للثقافة الإدارية يتحفنا به أمير المؤمنين عليه السلام وهو عهده إلى مالك الأشتر، حينما ولّاه مصر.

يقول الإمام عليه السلام: “هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين عليه السلام مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولّاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوّها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها”.

يُحدّد الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام في عهده إلى مالك الأشتر مسؤوليات الحكومة في ثلاث نقاط:
1- الأمن.
2- المصالح العامّة (الخدمات).
3- الإعمار.

والمسؤولية الأولى هي الأمن، من أعداء الداخل والخارج، وما لم يتوفّر للأمّة الأمن لا يستطيع أن يقدّم للناس الخدمات الأخرى.

ثمّ الخدمات والمصالح الاقتصادية والصحية والتعليمية والمعاشية، وما يشبه ذلك.

ثمّ الخدمات العمرانية، والبلدية، والطرق، والري، والمنشآت الصناعية، واستصلاح الأراضي، والاتصالات وغير ذلك.

وهذه المهام الثلاثة تحتاج إلى جباية الأموال التي تقوّم هذه المشاريع الثلاثة.

والإمام عليه السلام يشرح هذه النقطة في هذه الفقرة من عهده إلى مالك الأشتر رحمه الله بقوله: “جباية خراجها، وجهاد عدوّها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها”.

شاهد أيضاً

الوجيز في علوم القرآن

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيّدنا محمد وعلى ...