الرئيسية / القرآن الكريم / الامثال في القران – الشيخ جعفر السبحاني

الامثال في القران – الشيخ جعفر السبحاني

( 211 )

النور
36

التمثيل السادس والثلاثون


(وَالّذينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَمآنُ ماءً حَتّى إذَا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيئاً وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوفّاهُ حِسَابَهُ وَالله سَرِيعُ الحِسَابِ ). (1)
تفسير الآية
“السراب”: ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب على وجه الاَرض كأنّه ماء يجري، و”القيعة”: بمعنى القاع أو جمع قاع، وهو المنبسط المستوي من الاَرض، والظمآن هو العطشان.
يشبه سبحانه أعمال الكفار تارة بالسراب كما في هذه الآية، وأُخرى بالظلمات كما في التمثيل الآتي، ولعلّ المشبه في الاَوّل هو حسناتهم، وفي الثاني قبائح أعمالهم.
وإليك توضيح التمثيل الوارد في الآية:
قال سبحانه: (وَالّذِينَ كَفَرُوا أَعمالهم ) أي ما يعملون من الطاعات ويقدمون من قرابين وأذكار يتقربون بها إلى آلهتهم، مثلها كـ (سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء).

____________
1 ـ النور:39.


( 212 )

فقد وصف الظمآن بصفات عديدة:
الاَُولى: حسبان السراب ماءً ،كما قال سبحانه: (كَسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء).
الثانية: إذا وصل إلى السراب لم يجده شيئاً نافعاً، كما قال سبحانه (حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً ) وإنّما خصّ الظمآن به مع أنّ السراب يتراءى ماء لكلّ راءٍ، لاَن المقصود هو مجيء الرائي إلى السراب، ولا يجيئه إلاّ الظمآن ليرتوي ويرفع عطشه.
الثالثة: عند ما يشرف على السراب لا يجد فيه ماءً، ولكن يجد الله سبحانه عنده، كما قال سبحانه: (وَوَجد الله عنده ).
وهذا خبر عن الظمآن، ولكن المقصود منه في هذه الجملة هو الكافر، والمعنى وجد أمر الله ووجد جزاء الله ، وذلك عند حلول أجله واشرافه على الآخرة.
فالكافر يتصوّر أنّ ما يقدم من قرابين وأذكار سوف ينفعه عند موته و بعده، وسوف تقوم الآلهة بالشفاعة له، ولكن يتجلّـى له خلاف ذلك وانّ الاَمر أمر الله لا أمر غيره فلا يجدون أثراً من ألوهية آلهتهم.
فعند ذلك يجدون جزاء أعمالهم، كما يقول سبحانه: (فَوَفّاهُمُ اللهُ حسابهم ).
ثمّ إنّه سبحانه يصف نفسه بقوله: (وَاللهُ سريع الحساب ).
وبذلك تبين انّ الآية المباركة لبيان حال الظمآن الحقيقى إلى قوله: (لم يجده شيئاً )، كما أنّها من قوله (ووجد… ) يرجع إلى الظمآن لكن بالمعنى المجازي وهو الكافر.


( 213 )

وحاصل التمثيل هو انّ الطاعة والعبادة والقربات كلها لله تبارك وتعالى، فمن قدمها إليه و قام بها لاَجله فقد بذر بذرة في أرض خصبة سوف ينتفع بها في لقائه سبحانه.
وأمّا من عبد غيره و قدم إليه القربات راجياً الانتفاع به، فهو كرجاء الظمآن الذي يتصوّر السراب ماءً فيجيئه لينتفع به ولكنّه سرعان ما يرجع خائباً.
إلى هنا تمَّ ما يشترك فيه الظمآن والكافر، أي المشبه به والمشبه، ولكن المشبه، أعني: الكافر الذي شبه بالظمآن فهو يختص بأُمور أُخرى.
أولاً: انّه عند مجيئه إلى الانتفاع بأعماله يجد الله هو المجازي لا غير.
وثانياً: انّه سبحانه يجزيه بأعماله.
وثالثاً: فيوفيه حسابه.
وما ذلك إلاّ لاَنّ الله سريع الحساب.
وعلى ضوء ما ذكرنا فقد أُريد من الظمآن الاسم الظاهر الظمآن الحقيقي، وأُريد من الضمائر الثلاثة في “وجد” “وفّاه ” “حسابه” الظمآن المجازي أعني الكافر الخائب.


( 214 )

النور
37

التمثيل السابع والثلاثون



(أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجّيّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاها وَمَنْ لَمْ يَجعلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ). (1)
تفسير الآية
“اللجيّ”: منسوب إلى اللجّة، وهي في اللغة البحر الواسع العميق، ولكنّه استخدم في لازم معناه وهو تردد أمواجه، فانّ البحر كلما كان عميقاً وواسعاً تزداد أمواجه، وعلى ذلك فيكون المراد من قوله (بحرٍ لجيّ ) أي بحر متلاطم.
و “السحاب”: عبارة عن الغيوم الممطرة، بخلاف الغيم فهو أعم، وانّمااستخدم كلمة السحاب ليكون سبباً لازدياد الظلم.
هذا ما يرجع إلى تفسير مفردات الآية، وأمّا المقصود فهو كالتالي.
انّه سبحانه شبه في الآية السابقة أعمال الكافرين، لاَجل عدم الانتفاع بها بالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء، ولكنّه تعالى شبّه أعمالهم في هذه الآية بالظلمة وخلوّها من نور الحق ببحر لجيّ فوقه سحابة سوداء ممطرةويعلو ماءه
____________
1 ـ النور:40.


( 215 )

موج فوق موج، فراكب هذا البحر تغمره ظلمة دامسة لا يرى أمامه شيئاً حتى لو أخرج يده فانّه لا يراها مع قربها منه.
هذا هو المشبه به، و أمّا المشبه فالاَعمال التي يقوم بها الكافر باطلة محضة ليس فيها من الحقّ شيء مثل هذا البحر اللجي المحيط به عتمة الظلام الذي ليس فيه نور.
ثمّ إنّ الآية تشير إلى ظـلمات ثلاث.
الاَُولى: ظلمة البحر المحجوب من النور.
الثانية: ظلمة الاَمواج المتلاطمة.
الثالثة: السحاب الاَسود الممطر.
فتراكم هذه الظلمات يحجب كلّ نور من الوصول، وهكذا الحال في الكافر ففي أعماله ظلمات ثلاث يمكن بيانها بأنحاء مختلفة:
النحو الاَوّل: ظلمة الاعتقاد، ظلمة القول، ظلمة العمل.
النحو الثاني: ظلمة القلب، ظلمة البصر، ظـلمة السمع.
النحو الثالث: ظلمة الجهل، ظلمة الجهل بالجهل، ظلمة تصوّر الجهل علماً. (1).
ويمكن أن تكون هذه الظلمات المتراكمة إشارة إلى أمر آخر وهو إصرار الكافر المتزايد على كفره وقبائح أعماله.
ولذلك يصفه سبحانه بقوله: (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور ).

____________
1 ـ انظر تفسير الفخر الرازى: 24|8 ـ 9.


( 216 )

إيقاظ
ثمّ إنّ بعض الموَلفين في أمثال القرآن ذكروا الآية التالية واعتبروها من الاَمثال، قال سبحانه: (وَقَالُوا ما لِهذا الرَّسُول يَأْكُلُ الطَّعام وَيَمْشي فِي الاََسْواقِ لَوْلاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الاََمْثال فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ). (1)
ولكن الآية رغم ما جاء فيها من لفظ الاَمثال ليست من قبيل التمثيل، وإنّما هي بصدد نقل ما وصف به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في لسان الكفّار ، حيث وصفوه بأنّه يأكل الطعام، ويمشي في الاَسواق، فلا يصلح للرسالة.
ثمّ نقموا منه بأنّا سلمنا انّه رسول، ولكنّه لماذا لا ينزل إليه ملك فيكون معه نذيراً ليتصل إنذاره بالغيب بتوسط الملك؟
ثمّ نقموا منه أيضاً بأنّه لماذا لم يُلقَ إليه كنز من السماء حتى يصرفه في حوائجه المادية، أو لماذا لا تكون له جنّة يأكل منها، ثمّ في الختام وصفوه بأنّه مسحور.
فقال سبحانه اعتراضاً وتنديداً بوصفهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إيجاباً وسلباً بقوله (انظر كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الاََمْثال ) أي انظر كيف وصفوك تارة بأنّك تأكل وتمشي في الاَسواق، وأُخرى بعدم اقترانك بملك، وثالثة بالفقر ، ورابعة بكونك مسحوراً بتخيّل انّه رسول يأتيه ملك الوحي بالرسالة والكتاب.
وليس هاهنا مشبه ولا مشبه به ولا تمثيل ليبين موقف الرسول، ولاَجل ذلك صرّحنا في المقدمة انّه ليس من الاَمثال القرآنية.

____________
1 ـ الفرقان:7 ـ 9.


( 217 )

العنكبوت
38

التمثيل الثامن والثلاثون


(مَثَلُ الّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَولياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُون *إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَىءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيم * وَتِلْكَ الاََمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَما يَعْقِلُهَا إِلاّ العالِمُون). (1)
تفسير الآيات
ضرب سبحانه لآلهة المشركين مثلاً بالذباب تارة، وبيت العنكبوت أُخرى، أمّا الاَوّل فقد مضى البحث عنه، وأمّا الثاني فهو ما تتضمنه الآية من تشبيه آلهة المشركين ومعبوداتهم المزيفة بأوهن البيوت وهو بيت العنكبوت.
وقد مرّ انّ التشبيه يترك تأثيراً بالغاً في النفوس مثل تأثير الدليل والبرهان، فتارة ينهى عن الغيبة ويقول: لا تغتب فانّه يوجب العذاب ويورث العقاب، وأُخرى يمثل عمله بالمثل التالي: وهو انّ مثل من يغتاب مثل من يأكل لحم الميت، لاَنّك نلت من هذا الرجل وهو غائب لا يفهم ما تقول ولا يسمع حتى يجيب، فكان نيلك منه كعمل من يأكل لحم الميت وهو لا يعلم ما يفعل به ولا
____________
1 ـ العنكبوت:41 ـ 43.


( 218 )

يقدر على الدفع.
ثمّ إنّ الغرض من تشبيه الآلهة المزيفة بهوام وحشرات الاَرض كالبعوض والذباب والعنكبوت هو الحط من شأنها والاستهزاء بها.
إنّ العنكبوت حشرة معروفة ذكورها أصغر أجساداً من إناثها، وهي تتغذى من الحشرات التي تصطادها بالشبكة التي تمدها على جدران البيوت، فتصنع تلك الشبكة من مادة تفرزها لها غدد في باطنها محتوية على سائل لزج تخرجه من فتحة صغيرة، فيتجدد بمجرد ملامسته للهواء و يصير خيطاً في غاية الدقة، وما أن تقع الفريسة في تلك الشبكة حتى تنقض عليها وتنفث فيها سمـاً يوقف حركاتها، فلا تستطيع الدفاع عن نفسها. (1)
ومع ذلك فما نسجته بيتاً لنفسها من أوهن البيوت، بل لا يليق أن يصدق عليه عنوان البيت، الذي يتألف من حائط هائل، وسقف مظلٍّ، وباب ونوافذ، وبيتها يفقد أبسط تلك المقومات هذا من جانب، و من جانب آخر فانّ بيتها يفتقد لاَدنى مقاومة أمام الظواهر الجوية والطبيعية، فلو هبّ عليه نسيم هادىَ لمزق النسيج، ولو سقطت عليه قطرة من ماء لتلاشى، ولو وقع على مقربة من نار لاحترق، ولو تراكم عليه الغبار لمزق.
هذا هو حال المشبه به، والقرآن يمثل حال الآلهة المزيفة بهذا المثل الرائع. وهو انّها لا تنفع ولا تضرّ، لا تخلق ولاترزق، ولا تقدر على استجابة أي طلب.
بل حال الآلهة المزيفة الكاذبة أسوأ حالاً من بيت العنكبوت، وهو انّ العنكبوت تنسج بيتها لتصطاد به الحشرات ولولاه لماتت جوعاً، ولكن الاَصنام والاَوثان لا توفر شيئاً للكافر.

____________
1 ـ انظر دائرة معارف القرن الرابع عشر:6|772.


( 219 )

وبذلك تقف على عظمة التمثيل الوارد في قوله: (وَإِنّ أَوهن البُيُوت لَبَيْتُ العَنْكَبُوت لَو كانُوا يَعْلَمُون ).
ثمّ إنّ قوله: (لو كانوا يعلمون ) ليس قيداً لقوله: (أَوهن البُيُوت لَبَيْتُ العَنْكَبُوت)، لاَنّه من الواضح لكلّ أحد انّ بيت العنكبوت في غاية الوهن، وانّما هو من متمّمات قوله: (اتخذوا ) أي لو علموا انّ عبادة الآلهة كاتخاذ العنكبوت بيتاً سخيفاً، ربما أعرضوا عنها.
ثمّ إنّه سبحانه أردف المثل بآية أُخرى، وقال: (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يدعُونَ مِنْ دُونِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكيم ) والظاهر انّ “ما” في قوله: (ما يدعون ) موصولة ، أي انّه يعلم ما يعبد هوَلاء الكفار و ما يتخذونه من دونه أرباباً. ولكن علمهم لا يضر إذ هو العزيز الذي لا يغالب فيما يريد والحكيم في جميع أفعاله.
ثمّ قال سبحانه: (وَتِلْكَ الاََمْثال نَضْرِبها لِلنّاس وما يعقلها إِلاّ العالمون ) أي نذكر تلك الاَمثال، وما يفهمها إلاّ العلماء العاقلون.


( 220 )

الروم
39

التمثيل التاسع والثلاثون


(وَلَهُ مَنْ فِي السَّموات وَالاََرْضِ كُلّ لَهُ قانِتُون * وَهُوَ الّذي يَبْدَوَُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الاََعْلى فِي السَّموات وَالاََرضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيم * ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً من أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ في ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصّلُ الآياتِ لِقَومٍ يعْقِلُون ). (1)
تفسير الآيات
“القانت”: هو الخاضع، الطائع، فقوله: (كلّ له قانتون ) أي خاضعون وطائعون له في الحياة والبقاء والموت والبعث، وبالجملة كلّ ما في الكون مقهور لله سبحانه.
ثمّ إنّ هذه الآيات تتضمن برهاناً على إمكان المعاد وتمثيلاً على بطلان الشرك في العبادة، أمّا البرهان فقوله سبحانه: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّموات وَالاََرْض كُلّ لَهُ قانِتُون ) واللام في قوله “وله”للملكية، والمراد منه الملكية التكوينية، كما أنّ قنوطهم وخضوعهم كذلك، ومفاد الآية انّ زمام ما في الكون بيده سبحانه، والكل مستسلمون لمشيئته سبحانه دون فرق بين الصالحين والطالحين، وذلك
____________
1 ـ الروم:26ـ 28.


( 221 )

لاَنّه سبحانه هو الخالق الذي يدبر العالم كيفما يشاء، والمربوب مستسلم لربه.
ثمّ إنّه سبحانه رتَّب على ذلك مسألة إمكان المعاد، بقوله: (وَهُوَ الّذي يَبْدَوَُا الخَلْق ثُمَّ يُعيدهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه ).
وحاصل البرهان: انّـه سبحانـه قادر على الخلق من العدم ـ كما هو المفروض ـ فالقادر على ذلك قادر على الاِعادة، إذ ليس هو إعادة من العدم، بل إعادة لصورة الاَجزاء المتماسكة وتنظيم المتفرقة، فالخالق من لا شيء أولى من أن يكون خالقاً من شيء.
ثمّ إنّ هذه الاَولوية حسب تفكيرنا وروَيتنا، وإلاّ فالاَُمور الممكنة أمام مشيئته سواء، قال على (عليه السلام) :
وما الجليل واللطيف، والثقيل والخفيف، والقوى والضعيف في خلقه إلاّ سواء.(1)
ولاَجل توضيح هذا المعنى، قال سبحانه: (وَلَهُ المَثَلُ الاََعلى فِي السَّمواتِ وَالاََرْض وَهُوَ الْعَزيزُ الحَكيم ) والمراد من المثل الوصف، والمراد من المثل الاَعلى هو الوصف الاَتم والاَكمل، الذي له سبحانه، فهو علم كله، قدرة كله، حياة كله، ليس لاَوصافه حد.
إلى هنا تمَّ ما ذكره القرآن من البرهان على إمكانية قيام المعاد بحشر الاَجسام.
وإليك بيان الاَمر الثاني وهو التنديد بالشرك في العبادة من خلال التمثيل الآتي.

____________
1 ـ نهج البلاغة: الخطبة 185.


( 222 )

ألقى سبحانه المثل بصورة الاستفهام الاِنكاري، وحاصله: هل ترضون لاَنفسكم أن تكون عبيدكم وإماوَكم شركاء لكم في الاَموال التي رزقناكم إيّاها على وجه تخشون التصرف فيها بغير إذن هوَلاء العبيد والاِماء ورضاً منهم، كما تخشون الشركاء الاَحرار.
والجواب: لا، أي لا يكون ذلك أبداً ولا يصير المملوك شريكاً لمولاه في ماله، فعندئذٍ يقال لكم: كيف تجوزون ذلك على الله ، وأن يكون بعض عبيده المملوكين كالملائكة والجن شركاء له، امّا في الخالقية أو في التدبير أو في العبادة.
والحاصل: انّ العبد المملوك وضعاً لا يصحّ أن يكون في رتبة مولاه على نحو يشاركه في الاَموال، فهكذا العبد المملوك تكويناً لا يمكن أن يكون في درجة الخالق المدبر فيشاركه في الفعل، كأن يكون خالقاً أو مدبراً، أو يشاركه في الصفة كأن يكون معبوداً.
فالشىء الذي لا ترضونه لاَنفسكم، كيف ترضونه لله سبحانه، و هو ربّ العالمين؟ وإلى ذلك المثل أشار، بقوله:
(ضَرَبَ الله لَكُم مَثلاً مِنْ أَنْفُسكُم ) أي ضرب لكم مثلاً متخذاً من أنفسكم منتزعاً من حالاتكم (هَل لَكُمْ من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم) فقوله: (هل لكم) شروع في المثل المضروب، والاستفهام للاِنكار، وقوله “ما” في (مما ملكت ) إشارة إلى النوع أي من نوع ما ملكت أيمانكم من العبيد و الاِماء.
فقوله: (من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء ) مبين للشركة، فقوله شركاء مبتدأ والظرف بعده خبره، أي شركاء فيما رزقناهم على وجه تكونون فيه سواء، و على ذلك يكون من في شركاء، زائدة.


( 223 )

فقوله: (تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ) بيان للشركة، أي يكون العبيد كسائر الشركاء الاَحرار، فكما أنّ الشريك يخاف من شركائه الاَحرار، كذلك يخاف من عبده الذي يعرف أنّه شريك كسائر الشركاء.
ثمّ إنّه يتم الآية، بقوله: (كَذلك نُفصّل الآيات لقوم يعقلون )، وعلى ذلك فالمشبه هو جعل المخلوق في درجة الخالق، والمشبه به جعل المملوك وضعاً شريكاً للمالك.


( 224 )

فاطر
40

التمثيل الاَربعون


(وَما يَسْتَوي البَحْران هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمن كُلّ تَأْكُلُون لَحْماً طَريّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِليةً تَلْبَسُونَها وَتَرى الفُلكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون ). (1)
تفسير الآية
“الفرات”: الماء العذب، يقال للواحد والجمع ، قال سبحانه: (وأَسْقَيناكُمْ ماءً فُراتاً)، وعلى هذا يكون عذب قيداً توضيحياً.
“الاَُجاج” : هو شديد الملوحة والحرارة من قولهم أجيج النار.
“مواخر” من مخر، يقال مخرت السفينة مخراً، إذا شقت الماء بجوَجئها مستقبلة له.
فالآية بصدد ضرب المثل في حقّ الكفر والاِيمان، أو الكافر والموَمن.
وحاصل التمثيل: انّ الاِيمان والكفر متمايزان لا يختلط أحدهما بالآخر، كما أنّ الماء العذب الفرات لا يختلط بالملح الاَُجاج.
وفي الوقت نفسه لا يتساويان في الحسن والنفع ، قال سبحانه: (وَما يَسْتَوى البَحْران هذا عَذبٌ فُراتٌ سائِغٌ شرابهُ وَهذا مِلحٌ أُجاج ) بل انّ الكافر أسوأ
____________
1 ـ فاطر:12.


( 225 )

حالاً من البحر الاَُجاج الذي يشاطر البحر الفرات في أمرين:
أ: يستخرج من كلّ منهما لحماً طرياً يأكله الاِنسان، كما قال سبحانه: (وَمن كلٍّ تأكُلون لَحماً طَرياً ).
ب: يستخرج من كلّ منهما اللآليَ التي تخرج من البحر بالغوص وتلبسونها وتتزينون بها.
إلى هنا تمَّ التمثيل، ثمّ إنّه سبحانه شرع لبيان نعمه التي نزلت لاَجلها السورة، وقال:
(وَتَرى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله لعلّكم تشكرون )، والدليل على أنّه ليس جزء المثل تغير لحن الكلام، حيث إنّ المثل ابتدأ بصيغة الماضي، و قال: (وَما يستوى البحران ) ولكن ذيله جاء بصيغة المخاطب (وترى الفلك ) وهذا دليل على أنّه ليس جزء المثل.
مضافاً إلى أنّ مضمون الجملة جاء في سورة النحل، وقال: (وَهُوَ الّذي سَخَّرَ البَحْرَ لتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ). (1)
وبذلك يظهر انّ وزان الآية، وزان قوله سبحانه: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوُبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهى كَالحِجارة أَو أَشَدُّ قَسوةً وانّ مِنَ الحِجارةِ لَمَا يَتفجّرُ مِنْهُ الاََنْهارُ وَإنّ مِنْها لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنهُ الماءُ وإِنّ مِنْها لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَما اللهُ بِغافلٍ عَمّا تعْمَلُون). (2)
فكما أنّ الحجارة ألين من قلوبهم، فهكذا الملح الاَُجاج أفضل من الكافر ، حيث إنّه يفيد.

____________
1 ـ النحل:14.
2 ـ البقرة: 74.


( 226 )

فاطر
41

التمثيل الواحد و الاَربعون


(وَما يَسْتَوِي الاََعْمى وَالبَصِير * وَلا الظُّلُماتُ وَلاَ النُّورُ * وَلاَ الظِلُّ وَلاَ الْحَرُورُ * وَما يَسْتَوِي الاَحْياءُ وَلاَ الاََمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمعٍ مَنْ فِي الْقُبُور ). (1)
تفسير الآيات
“الحرور”: شدة حرّ الشمس، وقيل: هو السموم.وقال الراغب: الحرور: الريح الحارة.
هذا تمثيل للكافر والموَمن، أمّا الكافر فقد شبّهه بالصفات التالية:
1.الاَعمى، 2. الظلمات، 3. الحرور، 4. الاَموات.
كما شبّه الموَمن بأضدادها التالية:
1. البصير، 2. النور، 3. الظل، 4. الاَحياء.
وما ذلك إلاّ لاَنّ الكافر لاَجل عدم إيمانه بالله سبحانه وصفاته وأفعاله، فهو أعمى البصر تغمره ظلمة دامسة لا يرى ما وراء الدنيا شيئاً، وتحيط به نار ،
____________
1 ـ فاطر:19ـ 22.


( 227 )

قال سبحانه: (انّ جَهَنّم لَمُحيطَةٌ بِالكافِرين ) (1) وظاهر الآية انّ النار محيطة بهم في هذه الدنيا و إن لم يشعروا بها، كما أنّه ميت لا يسمع نداء الاَنبياء وإن كان حياً يمشي، وهذا بخلاف الموَمن فانّه يبصر بنور الله يغمره نور زاهر. يرى دوام الحياة إلى ما بعد الموت، فهو في ظلّ ظليل رحمته، وانّه يسمع نداء الاَنبياء ويوَمن به.
وبعبارة واضحة: الكافر مجالد مكابر، والموَمن واعٍ متدبر.

____________
1 ـ التوبة:49.


( 228 )

يس
42

التمثيل الثاني والاَربعون


(وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالثٍ فَقالُوا إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَىْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَكْذِبُونَ * قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ *وَما عَلَيْنا إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبينُ * قالُوا إِنّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ * قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ مُسْرِفُونَ *وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ *وَماليَ لا أَعْبُدُ الّذي فَطَرَني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * ءَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ * إِنّيإِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ * إِنّي آمَنْتُ بِرَبّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمي يَعْلَمُونَ * بِما غَفَرَ لي رَبّي وَجَعَلَني مِنَ الْمُكْرَمينَ * وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنّا مُنْزِلينَ * إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ * يا حَسْرَةً عَلى العِبادِ ما يَأْتيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ). (1)

____________
1 ـ يس:13ـ 30.


( 229 )

تفسير الآيات
“التعزيز”: النصرة مع التعظيم، يقول سبحانه في وصف النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) (فَالّذينَ آمَنُوا بهِ وَعَزّروه وَنَصَرُوه ) (1)
“طيّـر “: تطير فلان وإطيّـر ، أصله التفاوَل بالطير، ثمّ يستعمل في كلّ ما يتفاءل به ويتشاءم ، فقوله (إِنّا تطيرنا بِكُمْ ) أي تشاءمنا بكم.
وبذلك يظهر معنى قوله: (إِنّما طائِرُكُمْ مَعَكُمْ ) أي انّ الذي ينبغي أن تتشاءموا به هو معكم، أعني: حالة إعراضكم عن الحق الذي هو التوحيد وإقبالكم على الباطل.
“الرجم”: الرمي بالحجارة.
“الصيحة” :رفع الصوت.
هذا التمثيل تمثيل إخباري يشرح حال قوم بعث الله إليهم الرسل، فكذبوهم وجادلوهم بوجوه واهية.
ثمّ أقبل إليهم رجل من أقصى المدينة يدعوهم إلى متابعة الرسل بحجة انّ رسالتهم رسالة حقّة، ولكنّ القوم ما أمهلوه حتى قتلوه، وفي هذه الساعة عمّت الكاذبين الصيحة فأهلكتهم عامة، فإذا هم خامدون.
هذا إجمال القصة وأمّا تفصيلها:
فقد ذكر المفسرون انّ المسيح (عليه السلام) بعث إلى قرية انطاكية رسولين من الحواريّين باسم: شمعون ويوحنّا، فدعيا إلى التوحيد وندّدا بالوثنية، وكان القوم وملكهم غارقين في الوثنية.

____________
1 ـ الاَعراف:158.


( 230 )

وناديا أهل القرية بانّا إليكم مرسلون، فواجها تكذيب القوم و ضربهما، فعززهما سبحانه برسول ثالث، واختلف المفسرون في اسم هذا الثالث، ولا يهمنا تعيين اسمه، وربما يقال انّه “بولس”. فعند ذلك أخذ القوم بالمكابرة و المجادلة والعناد، محتجين بوجوه واهية:
أ: انّكم بشر مثلنا ولا مزية لكم علينا، و ما تدعون من الرسالة من الرحمن ادّعاء كاذب، فأجابهم الرسل بأنّه سبحانه يعلم انّا لمرسلون إليكم، وليس لنا إلاّ البلاغ كما هو حق الرسل.
ب: انّا نتشاءم بكم، وهذه حجة العاجز التي لا يستطيع أن يحتج بشىء، فيلوذ إلى اتهامهم بالتشاوَم والتطيّر.
ج: التهديد بالرجم إذا أصرّوا على إبلاغ رسالتهم والدعوة إلى التوحيد والنهي عن عبادة الاَوثان، وقد أجاب الرسل بجوابين:
الاَوّل: انّ التشاوَم والتطير معكم، أي أعمالكم وأحوالكم، وابتعادكم عن الحق، وانكبابكم على الباطل هو الذي يجر إليكم الويل والويلات.
الثاني: انكم قوم مسرفون، أي متجاوزون عن الحد.
كان الرسل يحتجون بدلائل ناصعة وهم يردون عليهم بما ذكر، وفي خضمِّ هذه الاَجواء جاء رجل من أقصى المدينة نصر وعزّز قول الرسل ودعوتهم محتجاً بأنّ هوَلاء رسل الحقّ، وذلك للاَُمور التالية:
أوّلاً : انّ دعوتهم غير مرفقة بشيء من طلب المال والجاه والمقام، و هذا دليل على إخلاصهم في الدعوة،وقد تحمّلوا عناء السفر و هم لا يسألون شيئاً.
ثانياً: انّ اللائق بالعبادة من يكون خالقاً أو مدبراً للعالم، ومن بيده مصيره


( 231 )

في الدنيا والآخرة وليس هو إلاّ الله سبحانه الذي ينفعني، فكيف أترك عبادة الخالق الذي بيده كلّ شيء، وأتوجه إلى عبادة المخلوق (الآلهة المزيفة) التي لا تستطيع أن تدفع عني ضراً ولا تنفعني شفاعتهم؟! فلو اتخذت إلهاً غيره سبحانه كنت في ضلال مبين، فلمّا تم حجاجه مع القوم و عزز الرسل و بين برهان لزوم اتباعهم، أعلن، وقال: أيّها النّاس: (إنّي آمنت بربّكم فاسمَعُون ).
ثمّ يظهر من القرائن انّ القوم هجموا عليه و قتلوه، ولكنّه سبحانه جزاه، فأدخله الجنة، وهو فرح مستبشر يودّ لو علم قومه بمصيره عند الله .
فلمّا تبيّن عناد القوم وقتل من احتج عليهم بحجج قوية نزل عذابه سبحانه، فعمَّتهم صيحةواحدة أخمدت حياتهم و صيّرتهم جماداً.
ففي هذه اللحظة الحاسمة التي يختار الاِنسان الضلالة على الهداية، والباطل على الحقّ، يصح أن يخاطبهم سبحانه، و يقول:
(يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يسْتهزءون ).
هذه حقيقة القصة استخرجناها بعد الاِمعان في الآيات، وقد أطنب المفسرون في سرد القصة، نقلاً عن مستسلمة أهل الكتاب الذين نشروا الاَساطير بين المسلمين، نظراء وهب بن منبّه، فلا يمكن الاعتماد على كلّ ما جاء فيها. (1)
ثمّ إنّ في الآيات نكات جديرة بالمطالعة:
الاَُولى: يذكر المفسرون انّ الرسولين لم يكونا مبعوثين من الله مباشرة، وانّما بعثا من قبل المسيح (عليه السلام) . مثل الرسول الثالث، ولما كان بعث المسيح بأمر من الله سبحانه، نسب فعل المسيح إليه سبحانه، وقال: (إِذْ أرسلنا إليهم اثنين ).

____________
1 ـ لاحظ مجمع البيان:4|418ـ 420.


( 232 )

الثانية: لقد وقفت على أنّ القوم قاموا بالجدال والعناد، فقالوا :ما أنتم إلاّ بشر مثلنا، والجملة تحتمل وجهين:
الوجه الاَوّل: أنتم أيّـهـا الرسل بشر، والبشر لا يكون رسولاً من الله ، و على هذا فالمانع من قبول رسالاتهم كون أصحابها بشراً.
الوجه الثاني: انّ المانع من قبول دعوة الرسالة هي عدم توفر أي مزية في الرسل ترجحهم، ويشعر بذلك قوله: “مثلنا” وإلاّ فلو كان الرسل مزودين بشىء آخر ربما لم يصح لهم جعل المماثلة عذراً للربّ.
الثالثة: انّ القصة تنمُّ عن أنّ منطق القوة كان منطق أهل اللجاج، فالقوم لما عجزوا عن رد برهانهم التجأوا إلى منطق القوة، بقتل دعاة الحق وصلحائه، وقالوا: (لئن لم تنتهوا لنرجمنَّكم ).
الرابعة: انّ التطير كان سلاح أهل العناد والمكابرة، ولم يزل هذا السلاح بيد العتاة الجاحدين للحق، فيتطيرون بالعابد ، وغير ذلك.
الخامسة: يظهر من صدر الآيات انّ الرسل بعثوا إلى القرية، وقد تطلق غالباً على المجتمعات الكبيرة والصغيرة، ولكن قوله: (وجاء من أقصى المدينة رجل) يعرب انّها كانت مدينة ومجتمعاً كبيراً لا صغيراً.
السادسة: انّه سبحانه يصف الرجل الرابع الذي قام بدعم موقف الرسل بأنّه كان من أقصى المدينة، وما هذا إلاّ لاَجل الاِشارة إلى عدم الصلة والتواطىَ بينه وبين الرسل، ولذلك قدّم لفظ أقصى المدينة على الفاعل، أعني: “رجل”، وقال: (وجاء من أقصى المدينة ).
السابعة: انّ قوله: (ومالي لا أعبد الذي فطرني ) دليل على أنّ العبادة هي


( 233 )

الخضوع النابع عن الاعتقاد بخالقية المعبود ومدبريته، وماله من الاَوصاف القريبة من ذلك، ولذلك يرى أنّه يعلل إيمانه وتوحيده، بقوله: (مالي لا أعبد الذي فطرني ).
كما أنّه يعلل حصر عبادته له وسلبها عن غيره، بعجزهم عن رد ضرّ الرحمن بعدم الجدوى في شفاعتهم.
الثامنة: قلنا أنّ القرائن تشهد بأنّ من قام بالدعوة إلى طريق الرسل من القوم، قتل عند دعوته وجازاه الله سبحانه بأن أدخله الجنة، والمراد من الجنة هو عالم البرزخ لا جنة الخلد التي لا يدخلها الاِنسان إلاّ بعد قيام الساعة.
التاسعة: كما أنّ في كلام الرجل المقتول، بقوله: (يا لَيْت قومي يعلمون بما غفر لي ربّي ) دليلاً على وجود الصلة بين الحياة البرزخية والمادية، حيث أبلغ بلاغاً إلى قومه، وتمنى أن يقفوا على ما أنعم الله عليه بعد الموت، حيث قال: (قيل ادخل الجنّة قال يا ليت قومي يعلمون ).

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...