بهذا الوعي الشعبي الجمعي، والإدراك الكامل لطبيعة المعركة ومصيريتها، هبَّ المقدسيون دفاعاً عن المقدَّسات الإسلامية والمسيحية، وعن وجودهم أيضاً.
ليس عابراً ما يحدث اليوم في فلسطين، لا من حيث طبيعة خطوات الكيان الصهيوني التصعيدية تجاه بيت المقدس والمقدسيين، ولا من حيث إبداعات تكتيكات المقاومة الفلسطينية المسلّحة في التصدي للعدوان الصهيوني. ولا هو بالأمر العابر ما يقوم به أهل القدس وأراضي الـ 48 من تحركٍ شعبيٍّ وإرهاصات انتفاضةٍ ثالثةٍ، إن لم تكن صارت فعلاً انتفاضةً مكتملة الأركان. إذاً، لنحاول وضع هذه القضايا في سياقاتها، لعلنا نخرج بتصورٍ أوضح عن متغيرات المشهد الفلسطيني.
مساعي الكيان الصهيوني الأخيرة لتهجير قسمٍ من سكان حي الشيخ جرّاح المقدسي، وما تلاها من محاولة المستوطنين اقتحام المسجد الأقصى، جاءت عقب إفصاح حكومة الاحتلال عن نية الكيان ضمَّ أراضي الضفة الغربية، وغداة اعتراف الولايات المتحدة الأميركية بما تُسمّيها “السيادة الإسرائيلية” على كامل القدس المحتلة، وبعد إقرار الكيان الصهيوني قوانينَ يهوديةِ الدولة، التي تهدِّد أصل بقاء فلسطينيّي الـ 48 في ديارهم. ويُضاف إلى هذا كله أن خطة اقتحام الأقصى، التي أفشلها المقدسيون، كانت مدعومة من حكومة الاحتلال وبحماية جيشه.
لذلك، قرأ الفلسطينيون في هذه التحركات الصهيونية سعياً واضحاً لجعل “السيادة الإسرائيلية” على القدس أمراً واقعاً، ونيِّةً صهيونية في تقسيم الصلاة في الأقصى زمانياً، تمهيداً لهدمه مستقبلاً وإقامة هيكلهم المزعوم على أنقاضه، بالإضافة إلى تهويد مدينة القدس من خلال عمليات التهجير الممنهَج على غرار ما يحاول الاحتلال فعله مع أهالي حيّ الشيخ جراح. وأكد هذا الفهمَ عددٌ من النخب الفلسطينية، بالإضافة إلى المراجع الدينية الإسلامية والمسيحية الفلسطينية. ولخّص الأب مانويل مسلّم المشهد الراهن بالقول: “الكنيسة هي أمام خطر وجودي كالأقصى… الهجمة الحالية على الأقصى هي المرحلة الأخيرة من الهجمة الصهيونية… والانتصار على هجمة القدس يعني فشل المشروع الإسرائيلي في المنطقة”.
بهذا الوعي الشعبي الجمعي، والإدراك الكامل لطبيعة المعركة ومصيريتها، هبَّ المقدسيون دفاعاً عن المقدَّسات الإسلامية والمسيحية، وعن وجودهم أيضاً. وتَبِعَهم في ذلك سكان الضفة الغربية على قدرٍ ما. لكنّ ما فاجأ العدو – ويبدو أنه كان خارج توقعاته الاستخباريّة – هو انضمام فلسطينيّي أراضي الـ 48 إلى هذه الهَبَّة، واشتعال مناطق الداخل. وكتب أليكس فيشمان في “يديعوت أحرونوت”: “لقد شنّت “حماس” حملةً إقليميةً ضد “إسرائيل”. فهي لا تشمل غزة فحسب، بل تشمل أيضاً أجزاء من الضفة وعرب الداخل والقدس”، ويُعَدّ هذا تحوُّلاً كبيراً في المشهد الفلسطيني، يضاعف مأزق الاحتلال في معركته الراهنة. وهو بدأ فعلاً في فقدان السيطرة على بعض مدن أراضي الـ 48 المختلطة أمام غضب الفلسطينيين.
ثم كانت المفاجأة الأخرى، والتي تمثَّلت بدخول كتائب القسام وسائر فصائل المقاومة في غزة على خط هَبَّة القدس، بطريقة حاسمة وغير مسبوقة، فقال اللواء احتياط غادي شماني، وهو القائد السابق لفرقة غزة في جيش الاحتلال، “لم نشهد مثل هذه الجولة من قَبْلُ، هناك نقلةٌ نوعيةٌ هنا فيما يتعلق بقدرات “حماس””. وكتب يوسي يهوشوع في “يديعوت أحرونوت” مقالاً بعنوان “إفلاس”، قال فيه: “انعكست الحالة الإبداعية في هذه الجولة. “حماس” هي التي وجَّهت إنذاراً إلى “إسرائيل”، وهي التي افتَتحت (المعركة) بضربةٍ قويةٍ، وهي التي أرادت التوقف بعد الحصول على صورة انتصارٍ… هكذا تلقّينا مشاهد محرجةً لأعضاء الكنيست الذين يَفِرّون إلى ملجأ الكنيست، وللشرطة في أثناء إخلاء موكب الأعلام في حين كان الفلسطينيون يبتهجون بصوت الإنذار في القدس”. ولعلّ ما قاله نير دفوري من “القناة 12” الصهيونية، كان الأوضح، وجاء فيه: “لم تشهد “إسرائيل” في تاريخها تهديداً مثل الذي يحدث الآن، بحيث إن “حماس” و”الجهاد” تمنحانها مهلةً محددةً للتراجع، وبعدَها يتم القصف”.
لكنّ المعطى الأهم يدلّ في دخول “القسام” وفصائل المقاومة في غزة على خط معركة القدس المحتلة والمسجد الأقصى، وما يمثَّله هذا الدخول من تحوّلٍ إستراتيجيٍّ في فلسفة حركات المقاومة المسلحة الفلسطينية، وقواعد الاشتباك الجديدة التي تسعى حركة “حماس” إلى ترسيخها في وجه العدو. فحيثما اسنطاع، عمل الكيان الصهيوني حثيثاً عبر السنين على فصل الساحات في فلسطين، بعضها عن بعضها، وتقسيمها بين ضفةٍ وقدسٍ وغزة، ناهيكم بأراضي الـ 48. وعلينا الاعتراف بأنه نجح، بقدر ما، في هذا المسعى خلال السنوات الماضية، حتى جاءت هَبَّة القدس الحالية لتكون فرصةً لحركة “حماس” كي تغيّر قواعد الاشتباك وتتعامل مع مساحة الوطن الفلسطيني على أنه ساحة واحدة، كما ينبغي له أن يكون، بعد أن كانت أعدّت العدّة لمثل هذا اليوم.
ولقد أقرّ بهذا التطور الإستراتيجي عددٌ من المعلقين الصهاينة، فقال غال بيرغر من “القناة 11” الصهيونية في هذا الصدد: “لقد حققت “حماس” فعلاً أهدافها في الجولة الحالية، ورسّخت نفسها في الوعي الفلسطيني مدافعةً عن القدس، في مقابل “إسرائيل”، وتريد أن تخلق معادلةً تقوم على الآتي: المَسُّ بالقدس يعني رداً فورياً من غزة”، وأضاف: “”حماس” تسعى لإنتاج هذه المعادلة في الجولة الحالية: في مقابل كل خطوة أو سياسة تعتبرها تنمّراً وانتهاكاً للوضع الراهن، فإن الردّ سيأتي من غزة. ولا تستطيع “إسرائيل” تحمل ذلك. لا تستطيع كل خطوة لها في القدس – سواءٌ كانت مبررةً أو غير مبررةٍ، حكيمةٌ أو غير حكيمةٍ – أن تجلب الصواريخ من غزة… أرادت “إسرائيل” الفصل بين القطاعات، و”حماس” شاءت العكس”.
وأيده في رأيه هذا شمريت مئير في “يديعوت أحرونوت”، حينما كتب: “شهدنا أمس العرض الأول لمحور غزة – القدس. لقد تمكّنت “حماس” من إعادة تسمية نفسها بأنها المدافعة عن القدس. هذه هي المرة الأولى التي يستخدمون خلالها السلاح لغرض دينيٍّ ووطنيٍّ سامٍ، وهو في قلب الصراع الأقصى. فمحمد الضيف، رئيس أركان “حماس”، أعطى كلمته للمقدسيين: “نحن وراءكم”. وهذا ليس وعْداً فقط، وإنما نفّذ ما وعد به أيضاً، وهو منخرطٌ بصورة كبيرة أيضاً في إدارة الحدث، من وراء الكواليس”.
ومن المُجدي هنا التذكير – من أجل التاريخ، ولو استطردنا قليلاً – بالكمّ من الاتهامات والافتراءات المجحفة التي كانت تُكال للمقاومة طوال الفترة الماضية، من قبيل أنها باتت حامية حدود “إسرائيل”، وأنها باتت شعاراً فارغاً، وغير ذلك من افتراءات. وكان مطلقو هذه الاتهامات يتناسون أن الإعداد العسكري وتطوير القدرات خلال فترات الهدوء هما من صُلب الفعل المقاوم. ومثل هذه الافتراءات، بالمناسبة، يُكال لكل حركات المقاومة في منطقتنا، سواءٌ أكانت في فلسطين أم في لبنان، أم في غيرهما.
وختاماً، نشير إلى متغيِّرٍ آخرٍ في المشهد الفلسطيني، يعترف به العدو أيضاً، وهو ينطبق، في الواقع، على كل بيئات المقاومة في منطقتنا، يحيث يتابع شمريت مئير قائلاً: “نقطةٌ أخرى جديرةٌ بالملاحظة، هي زيادة جرأة الشبّان الفلسطينيين وانعدام الخوف والرغبة لديهم في إظهار التفوق على الجانب الإسرائيلي في القدس. ويتم التعبير عن ذلك في تحدّي ضباط الشرطة، وفي عنفٍ جامحٍ ضد المستوطنين في منتصف النهار. التنظيم في غزة بدأ العدَّ التنازليَّ لإطلاق الصواريخ، كما رأينا أمسِ عند الساعتين 6:00 مساءً و 9:00 مساءً. والهدف هو إظهار السيطرة والسيادة. لم يتم إجراء تحليلٍ نفسيٍّ لهم. هنا قد يقول البعض إن ذلك يكمن في مشاعر الإذلال والإحباط العميقة، لكن هذا ليس تفسيراً كافياً. لقد تآكَل شيءٌ ما في الردع الإسرائيلي على نحو كبيرٍ”.
تفْتَح متغيِّرات المشهد الفلسطيني، التي عرضها هذا المقال، الباب أمام النقاش في أساليب جديدة للنضال الفلسطيني؛ أساليب تتلاءم مع البيئة الإستراتيجية المغايرة، التي تعيشها القضية الفلسطينية بصورة خاصة، ومنطقتُنا عموماً، لكن هذا حديثٌ لمقالٍ آخر.
وسلامٌ على غزة العزة، التي قصفت “تل أبيب” بموجة صواريخٍ لم تشهد لها مثيلاً في التاريخ، بحسب صحيفة “يديعوت أحرونوت” الصهيونية، وتجعل “معاريف” العبرية تعنون صفحتها الأولى بـ: “الدولة تحترق”!
شهدت الآونة الأخيرة تراكض عربي في سبيل إعادة العلاقات السياسية والدبلوماسية مع سوريا، في ظل ...
We use cookies to ensure that we give you the best experience on our website. If you continue to use this site we will assume that you are happy with it.Ok