الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذاتي
على كل إنسان أن يكون واعظاً لنفسه، مراقباً لها، رادعاً لها من الانحراف، آمراً لها بالمعروف ناهياً إيّاها عن المنكر، وأمرُ النفس بالمعروف ونهيُها عن المنكر، وموعظة النفس، لأهمّ وأولى من أمر ونهي ووعظ الآخرين. هذه هي التقوى الإلهية التي أُمرنا بها.
التقوى الملازمة للمثابرة والسعي (حركية التقوى)
التقوى تعني الحذر مع الحركة (الحذر الملازم للحركة) لا الحذر الجامد، فأحياناً أنتم تحذرون من دون حركة، وهذا يعني “الزم عقر دارك، ولا تتدخّل في أي أمر”، فتكون قد حققت الحذر والاجتناب. كيف يمكن أن تحذر من الاصطدام بالجبال أو الهوي في المنحدرات؟ بالامتناع عن القيادة أو بالامتناع عن تسلّق الجبال، أو بالسكون والجمود والامتناع عن الحركة؟ كيف تحذر من أن يصيبك أذىً من أشواك الصحراء؟ بالامتناع عن السير في الطريق المحفوفة بالأشواك؟ نعم [الجلوس والجمود] أحد أنواع الحذر. لكن الإسلام لا يوصينا به أبداً، فالإسلام يأمرنا بالغوص في عمق القضايا والأحداث، ومواجهتها، والحذر منها في آن واحد. كالسائق الذي يقود، لكنه يقود بحذر. فما المقصود من هذا الحذر؟ يعني كما قلنا سابقاً: المراقبة، الالتفات والانتباه للنفس، فالحذر كلمة مناسبة في هذا المقام (مع ملاحظة معناها هذا).
إذاً اعرفوا معنى التقوى: التقوى هي الحذر والاحتراز مع الحركة، المراقبة مع الحركة. هذا هو معنى التقوى. تحرّكوا في مختلف المجالات، لكن احذروا الاصطدام، احذروا الزّيغ،
أو السقوط في الهفوات، احذروا الانحراف عن المسير، احذروا إيذاء النّفس أو الآخرين، وتجاوز الحدود التي وضعها الله للناس، والتي تؤدي بالإنسان إلى الهلاك، احذروا، لأن الطريق خطر، طويل، ومظلم.
الفرق بين التقوى والخشية من الله
فالتقوى تعني كل شيء للإنسان، وهي دنيا الأمة وآخرتها والزاد الحقيقي في هذا الطريق الطويل الذي لا بدّ للبشريّة أن تعبره، فقد بدأ أمير المؤمنين(عليه السلام) وصيته بالتقوى وختم بها. فكأنه(عليه السلام) يريد أن يقول عليكم يا أولادي بمراقبة أنفسكم وأعمالكم ووزنها بالمعيار الإلهي الحقّ.
وليس كلامه(عليه السلام) في مسألة الخوف من الله كما فسّرها البعض. صحيح أنّ “خشية الله” و”الخوف من الله” من القيم الدّينية؛ لكن الكلام هنا عن التقوى، وهي تعني مراقبة الإنسان المستمرّة لأعماله لتكون متطابقة مع المصالح الإلهية التي يقدرها المولى سبحانه وتعالى له. والتقوى ليست بالشيء الذي يمكن للإنسان أن يستغني عنه ولو للحظة واحدة.
فإذا استغنينا عنها فالطريق محفوف بالمخاطر والوادي عميق، فستزلّ الأقدام وننزلق بلا ريب؛ إلا أنه قد نعثر على حجر أو شجر نتشبّث به لعلّه يعيننا على الصعود إلى الأعلى من جديد ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾.
فالإنسان المتّقي عندما يشعر بمسّ الشيطان له يتذكّر الله ويعود إلى نفسه حالًا بالمراقبة والمحاسبة. فالشيطان لن يتركنا أبدًا؛ إذاً فلا بد أن تكون الوصيّة الأولى هي تقوى الله سبحانه وتعالى.
التقوى هي المبنى [الأساس] والملاك
لا ينبغي أن نراقب الآخرين وأفعالهم، بل علينا أن نعرف ما علينا نحن القيام به. ومنذ بداية الثورة وهذه عقيدتنا، حيث كنا نقول أننا لا نأخذ الأوامر ممن لا نرضى بأفعالهم. نحن نتبع في أفعالنا أوامر عقائدنا وتشخيصنا. يجب أن تحمل أفعالنا طابعًا دينيًا، وأن نراعي فيها التقوى والاعتدال والمداراة، بحيث يكون (أُسّس على التقوى) حقاً، فيكون مبنى وملاك العمل هو التّقوى. فإن صادف وعلمنا أن هناك في المجتمع من لا يراعي التقوى ولا يجعلها الملاك في أعماله، أفنقول ولم هو يخالف التقوى (وعلينا نحن الالتزام بها)؟ إن ترك هو التقوى وكان عمله خلافها، فهذا لا يعني أن نجيز لأنفسنا مخالفتها.
التقوى: تخطّي العوائق الذاتية للحرية
إن مفردة التّقوى المقدّسة وكذلك مفردة التّزكية، والتي كثيراً ما أوصى الإسلام بها، هي في الواقع تخطّي العوائق الذّاتية للحريّة. التقوى تعني أن يصون الإنسان نفسه بوعي، وأن يحول دون تأثير الأهواء والرّغبات، والشطحات، والمنعطفات في طريقه في سبيل الله والإنسانيّة فلا ينحرف عنه. والتّزكية تعني تطهير
النّفس من الفساد، والتلوّث، والتعلّقات النّفسية والقلبية. فيطهر نفسه من كل دناءة، ورذالة، وانحطاط. فمن يزكِّ نفسه ويتّقِ ربّه يكنْ في الحقيقة حراً، يمكنه التفوق على القوى العالمية الكبرى. وكذلك الشعب إذا ما وُجدت التقوى والتزكية في أفراده، ولو بشكل نسبي (بنسب متفاوتة) يمكنه التّغلب على القوى المهددة لحرياته بنفس تلك النسبة. ولربما قد سمع الكثير منكم بالقصة التي ينقلها “ديوجانس” الحكيم الشهير، فيقول: أراد الإسكندر المقدوني، الذي يعدّ فاتحاً عظيماً في زمانه، عبور طريق ما متبختراً، وكان الجميع يقعون له إجلالاً وتعظيماً، وينهالون عليه بالمدائح. صادف أن رأى رجلاً عجوزاً مرتدياً ثياباً رثة يظهر الفقر عليه جالساً على قارعة الطريق، ولا يبالي بقدوم الإسكندر، فسأل عنه، اقتربوا منه، ووجدوا أنه عجوز فقير لا يهتم بقدوم الإسكندر، فطلب إحضاره، فسأله: لماذا لم تحترمني؟ فأجاب: ليس من واجبي أن أحترمك، فأنت عبد لعبيدي. تعجّب الإسكندر وقال: وهل جننت، أتقول لمن هو مثلي عبد؟ بل عبد العبيد؟ فأجابه العجوز: لا تعجب يا إسكندر! فأنت أسير وعبد لشهواتك وغضبك، وأما أنا فقد أسرتُ الشهوة والغضب وقيّدتهما.
. . . الخطوة الأولى، هي التحرر من الأهواء والرّغبات النّفسانية، وهذه هي التقوى، وأنا أوصي أخوتي وأخواتي المصلّين الأعزاء، أن يسعوا لتحرير أنفسهم من قيود الأهواء، والرغبات، والشهوات، والرذائل، والأنانيات والغرور والتشاؤم. وأطلب من الرب المتعال، التوفيق لنا جميعاً كي نستطيع أن ننقذ وننجي أنفسنا، ونفسي، من المستنقع الذي تنبع منه الأهواء، والرّغبات النّفسانية.
التقوى: المطايا المطيعة
يشبّه أمير المؤمنين(عليه السلام) التّقوى بالحصان المطيع الأصيل ، يجلس عليه فارسه ويهديه، وهذا الحصان يسير معه أينما وجّهه صاحبه. كما يشبّه الخطايا، التي تقابل التقوى، بالخيول الشُمُس العنيدة غير الأصيلة، يُسيّر فارسه عندما يمتطيه، فيأخذه حيث لا يريد؛ وعلى سبيل المثال يرميه أرضاً.
التقوى: سعي لتجنب الذنوب
عندما نقول الابتعاد عن الذنوب، لا نعني بذلك أن علينا في المرحلة الأولى ترك الذنوب بالكامل حتى نستطيع أن نلج المرحلة الثانية، كلا، فالمرحلتان متلازمتان. يجب أن نشحذ الهمم، فنبذل قصارى جهدنا كي لا يصدر منا أي ذنب. وهذا معنى التقوى.
التقوى العمليّة
اجعلوا التّقوى نصب أعينكم في كافة أعمالكم اليوميّة، أي راقبوا أقوالكم، وأفعالكم، وقراراتكم، وإجراءاتكم. ولا تدَعوا الأهواء النّفسانية تبعدكم عن سبيل الله، وعن الواجبات الإلهية. إن الشّيطان يسعى معتمداً على النّفس الأمّارة، والأهواء النّفسانية، والأنانيات، والرّغبات، أن يصرفنا عن الصّراط المستقيم ويخرجنا عنه. علينا كمن يسير في طريق جبلي متعرج، أن نتوخى الحذر في
كل خطوة، وكل حركة، وكل قدم نخطوها. هذه هي التقوى، تعني مراقبة النفس، أن نلحظ أن الله شاهد وناظر في جميع الأمور، والإسراع في التّوبة عند الخطأ والزلل، والاتكال على الله، وطلب العون منه واللجوء إليه.
بث التفرقة، مصداق مخالفة التقوى
أرى داخل بلدنا جماعة همّهم أن يُوجِدوا الاختلافات والعداوات بين التيارات المختلفة وكأنهم يستمتعون بذلك، وهذا خلاف التقوى، لأن التقوى تعني (إطفاء النائرة) فمثلما أنكم تطفئون النيران المندلعة في المكان المادي فعليكم أن تسيطروا على النيران التي تندلع في الأجواء الإنسانية والمعنوية والأخلاقية وتطفئوها، وهكذا: “ضمّ أهل الفرقة”.
لقد قلنا بجذب أكبرَ عددٍ ممكن ودفعِ أقلّ عددٍ ممكن* . بالطبع المعيار والميزان هو الأصول والقيم. فالناس ليسوا سواءً بلحاظ الإيمان. ففينا من هو ضعيف الإيمان ومن هو أقوى إيمانًا. وعلينا أن نسعى، فلا يصح أن نبعد ضعيف الإيمان، ولا يصح أن نركّز على الأقوى إيمانًا، كلّا، فضعفاء الإيمان ينبغي أن يحوزوا عنايتنا. فالذين يعدّون أنفسهم أقوياء ينبغي أن يعتنوا
بمن يرونه ضعيفًا ويراعوه. الذين كانوا مع الجماعة (وفي الخط) لكنهم بسبب الاشتباه والغفلة ابتعدوا وانفصلوا، فلنُعِدهم إلينا، ننصحهم، نبيّن لهم الطريق، ونستعيدهم. وهذه قضايا أساسية.
فهكذا تكون التقوى وهكذا تكون طريق التوبة والإنابة، (شهر التوبة)، (شهر الإنابة). ومن اللافت أن هذا الصيام وهذا الشهر هو عملٌ جماعي لا ينحصر بالفرد. فكلنا صائمون وداخلون في هذا الشهر، وقد جلسنا حول هذه المائدة، جميع أفراد المجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية. وعندما نريد أن نعمل بهذه النصائح والوصايا المهمة للكتاب والسنّة، فإننا لو اعتبرنا أنفسنا معنيين بالخطاب، فانظروا ماذا سيحدث عندئذ في العالم الإسلامي، وفي نطاق أضيق على مستوى البلد. علينا أن نعرف قدر هذا الشهر. وتقديره هو أن نكون في الواقع في شهر التوبة والإنابة والتطهير والتمحيص، فنتحرك باتجاه هذه الأمور.
مساعدة العدو، مصداق مجانبة التقوى
على الجميع أن يحذروا من مساعدة عدو الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأي شكل من الأشكال، إن كان بمماشاته، أو مسايرته، أو باتخاذ المواقف والكلام والقيام ببعض الأعمال. إن هذا الموضوع هو من المواضيع التي تنافي التقوى.
Check Also
Top 5 Islamic Shia Bookshops
Billionaires like Jeff Bezos of Amazon got 54% richer during the pandemic, using the shutdown of ...