الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / 6 جدال في شهر العسل – السيد حسين الحيدري

6 جدال في شهر العسل – السيد حسين الحيدري

الفصل الخامس

دخلتْ هدى الحمامَ لِغرضِ الوضوء فأطالتْ المكثَ، ناداها علي واستفسر عن سببِ تأخـُّرها، فأخبرته بحيرتِها الكبيرة، هل تمسحُ رجلـَها أم تغسلـُها، فاقترحَ زوجُها عليها حَلاً وَسَطاً في الوقتِ الحاضر، حتى تَصِلَ لِحَالةِ الاطمئنان مِنْ صِحّةِ الأدِلـَّة، فـَرحَتْ بذلك وطبّقته فوراً، حيثُ اقترحَ عليها أنْ تتوضَّأ أوّلاً فتمسحَ قدميها، ثمّ تتوضَّأ ثانياً وتغسلَ رجليها، فأيّاً كان المطلوبُ فإنها قدْ أتـَتْ بهِ، صَـلـَّوْا المغربَ والعشاءَ وبعد إكمالِ التعقيباتِ طلبتْ إكمالَ البحثِ لاشتياقِها للتعرّفِ على الحقيقة.

علي: تفضَّلي واطرحي الموضوعَ الذي تحبِّين.

هدى: لماذا أنتم تُسْبـِلُوْنَ في الصلاة ولا تتكتـَّفون؟

علي: بدايةً قولي لي: ما هي مذاهبُ أهلِ السنةِ المعروفةِ اليوم؟

هدى: الحنفية والشافعية والحنبلية والمالكية.

علي: أحسنتِ، وما هو حُكمُ الإسبالِ والتكتفِ لديهم؟

هدى: أظنُّ أنهم جميعاً يُوجبون التكتـُّفَ في الصلاة.

علي: إنّ الظنَّ لا يُغني مِنَ الحَقِّ شيئاً.

هدى: وماذا تقصد؟

علي: المالكية يسبلون كالشيعة، وعند الحنفية والشافعية والحنبلية، التكتف مَسنونٌ وليس واجباً، وهناك مِنْ قدماء فقهائِكم مَنْ يَحْكمُ بالتخيير بين الإسبال والتكتف.

هدى: كنتُ أتصوّر بأنّ الإسبال مِنْ مُختصَّاتِ الشيعة، وأنّ التكتفَ مِنَ الواجبات.

علي: فما هو رأيُكِ بإسبال المالكية، حيث يرون كراهة التكتف كما ذكر كثيرون.

هدى: اذكر لي هؤلاء الكثيرون؟

علي: ذكر ذلك في  المدونة الكبرى للإمام مالك بن أنس 1/76، وبداية المجتهد لابن رشد 1/136، والبيان والتحصيل 1/394، ومرقاة المفاتيح للقاري 3/508، والمجموع شرح المهذب للنووي 3/313، ونيل الأوطار للشوكاني 2/186، والمغني لابن قدامة 1/549، والمبسوط للسرخسي 1/23؟

هدى: لابُدّ أنهم يَستندون إلى أدلةٍ مُحْكمَةٍ، قادتـْهم لِلحُكمِ بذلك.

علي: أحسنتِ على حُسنِ ظنكِ بهم، وهكذا يَنبغي أنْ يكون ظنكِ بالشيعة، فإنّ لهم أدلتَهم الخاصّة بذلك.

هدى: وما هو رأي الشيعة في التكتف؟

علي: هم يعتقدون تبعاً لأئِمَّـتِهم، بأنّ التكتفَ مُبطلٌ للصلاة.

هدى: اُترك رأيَ الشيعةِ الآن، وقلْ لي: ما هي أدلة الإسبال مِنْ طُرُقِنا؟

علي: وَرَدَتْ رواياتٌ صحيحة تشرحُ فيها كيفيّة صلاة النبي ص مِنْ طرق الشيعةِ والسنة، وليس فيها إشارةٌ للتكتفِ ولا لكيفيته.

هدى: وماذا تقصد بكيفيته؟

علي: أي وضعُ باطن اليمنى على ظاهر اليسرى أو العكس، أو وضعهما تحتَ السرة أو فوقها، حيثُ اختلفتْ مذاهبُكم في هذه التفاصيل.

هدى: ألم تـَردْ إشارةٌ للكيفيّة مُطلقاً؟

علي: كلا، لم تردْ الإشارة لا إلى أصلِ التكتفِ ولا إلى كيفيتهِ في روايةٍ صحيحة.

هدى: ما أكثر استغرابي مما أسمعه منك، وهل يُعقل أنّ علماءَنا يتكتفون رغمَ أنه لم تردْ فيه روايةٌ صحيحةٌ؟

علي: استمعي لشهادةِ أحدِ علمائِكم في ذلك، حيثُ يقولُ ابنُ رشد في (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) ج1 ص112: (المسألة الخامسة: اختلفَ العلماءُ في وضعِ اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة – إلى أن يقول: ــ والسببُ في اختلافهم: أنهُ قدْ جاءتْ آثارٌ ثابتة، نقلتْ فيها صِفة صلاتِهِ عليه الصلاة والسلام، ولم يُنقلْ فيها أنَّه كان يضعُ يدَهُ اليُمنى على اليُسرى).

هدى: هذا شيءٌ غريبٌ جداً، اُذكر لي بعضَ تِلكَ الأحاديث الصحيحة مِنْ طرقنا، التي لم تذكر التكتفَ، لِتطمئنَّ نفسي بصحّة ما تقول.

علي: روى غيرُ واحدٍ مِنْ المُحَدِّثين حَديْثاً عن أبي حميد الساعدي، جاءَ فيه – وننقله عن البيهقي -: (أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: قال أبو حميد الساعدي: أنا أعلمُكم بِصَلاةِ رسولِ اللهِ ص، قالوا: لِمَ، ما كنتَ أكثرنا له تبعاً، ولا أقدمُنا له صُحبةً؟ قال: بلى، قالوا: فأعرضْ علينا، فقال: كان رسولُ الله ص إذا قامَ إلى الصلاةِ رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبّر حتى يقرّ كلّ عضو منه في موضعه معتدلاً، ثم يقرأ، ثم يكبر ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يركع ويضعُ راحته على ركبتيه، ثم يعتدل ولا ينصب رأسه ولا يقنع، ثم يرفع رأسه فيقول: سمع الله لمن حمده، ثم يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، حتى يعود كلّ عضو منه إلى موضعه معتدلاً، ثم يقول: الله أكبر، ثم يهوي للأرض ….الخ، فقالوا جميعاً: صدَقَ، هكذا كان يصلي رسولُ الله ص).

هدى: ومَنْ الذي ذكر هذا الحديث مِنْ علمائنا؟

علي: رواه البيهقي في سننه ج2 ص72 – 73 و101 – 102، وأبو داود في سننه ج1 ص194 باب افتتاح الصلاة حديث 730 – 736، والترمذي في سننه ج2 ص98 باب صفة الصلاة.

هدى: صحيحٌ بأنه لم يذكرْ التكتفَ، ولكنه لم يذكرْ الإسبالَ أيضاً؟

علي: عزيزتي هدى، قولي لي: ما هو الوضعُ الطبيعيُّ لليدين حينَ الوقوفِ؟

هدى: نعم، الإسبالُ هو الوضعُ الطبيعيُّ لهما.

علي: فلو أنه ص كان قد قبض يديه أو تكتف، لكان يجبُ على الراوي أنْ يذكرَهُ، لأنهُ خلافُ الوضعِ الطبيعيِّ لليدين.

هدى: ماذا لو أصرَّ مخالفيكم على أنّ هذا الحديث لم يذكرْ الإسبال أيضاً؟

علي: يُمكنُ الاستنباط مِنْ نفس الحديث على الإسبالِ، ولكنْ يحتاج ذلك لدقةٍ وانتباهٍ.

هدى: وضّح لي ذلك مِنْ فضلك.

علي: هلْ تتكتفونَ بعدَ الركوع؟

هدى: كلا.

علي: وقبلَ الركوع؟

هدى: نعم نتكتف.

علي: لقد ذكر الراوي عبارة واحدة في هذا الحديث في وصف حالتي النبي قبل الركوع وبعده، فلابُدّ أنْ تكونَ الحالتان متشابهتينِ، ولمّا كانتْ الحالة بعدَ الركوع عندَكُم هو الإسبال، فلابُدّ أنْ تكونَ الحالة قبلَ الركوع مثله.

هدى: وما هي العبارة التي وصف الراوي بهما تلك الحالتين؟

علي: وهي قوله: (ثم يقرّ كلّ عضوٍ في موضعه معتدلاً).

هدى: (تفكر مع نفسها بالدليل) سبحان الله .. استنباط جميل، عبارة واحدة وصف بها حالته ص قبل الركوع وبعده، ونحن نسبل بعد الركوع، فلابدّ أنْ يكون قبل الركوع مثله، حقاً إنه استنباطٌ لطيف.

علي: شكراً لكِ يا عزيزتي، كما يُمكن أنْ تكون كلمة (معتدلا) دالة عليه أيضاً، لأنّ الاعتدال يساوي الإسبال والإرسال.

هدى: ربما تكون محقاً في اسدلالاتك، ولكن هل لديك حديثٌ غير حديث أبي حميد؟

علي: هناك حديثٌ مشابه لحديث أبي حميد ومشهورٌ عند الفقهاء، يُعرف بحديث المُسيء، وفيه علـَّمَ النبي ص شخصاً الصلاةَ، وليس فيها ذكرٌ للتكتف.

هدى: وهل هو صحيح؟

علي: رواه البخاري في صحيحه ج1 ص192 – 193، ومسلم في صحيحه ج1 ص298 حديث 397، وسنن أبي داود ج1 ص226 حديث 856، وسنن النسائي ج2 ص124، وسنن الترمذي ج2 ص103 – 104 حديث 303، وسنن البيهقي ج2 ص372، وسنن الدارقطني ج1 ص96.

هدى: شيء غريب، وماذا يجيب عنه علماؤنا؟

علي: يعتذرون بأنّ النبي ص كان بصدد ذكر الواجبات فقط، لذلك لم يذكر التكتف.

هدى: إذن فهم يقرّون بأنّ النبي ص لم يذكر التكتف فيه، وهل لديك غيرهما؟

علي: نعم، روى الطبراني في الكبير: (كان رسول الله ص إذا كان في صلاته رفع يديه قِبال أذنيه، فإذا كبر أرسلهما) راجعيه في إبرام النقض لابن مايابا ص32.

هدى: أفهم منك أنه لا يوجد حديثٌ صحيحٌ يدلُّ على التكتفِ في مصادر أهل السنة.

علي: صدقتِ، فهناك نوعان من الروايات عندكم في هذا المجال:

الأولى: روايات تذكر القبض والتكتف بصراحة، ولكنها ضعيفة السند.

 والثانية: روايات صحيحة السند، لكنها ليست صريحة في المطلوب.

هدى:  إشرح لي النوع الأول منها.

علي: النوع الأول: وهي التي تذكر التكتف صراحةً، ولكنها ضعيفة السند:

1 – ما رواه البيهقي في سننه ج2 ص28: (بسنده عن موسى بن عمير، حدثني علقمة بن وائل عن أبيه: أنّ النبي ص كان إذا قام في الصلاة، قبض على شماله بيمينه، ورأيتُ علقمة يفعله).

هدى: وما سبب ضعفه؟

علي: هناك سببان: فأولاً: في سنده عبد الله بن جعفر [بن نجيح]، قال ابن معين: ليس بشيء، وقال النسائي: متروك، وكان وكيع إذا أتى على حديثه جزَّ عليه، فهو متفقٌ على ضعفِهِ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ج2 ص27 بعد روايته لحديثٍ آخر: وفيه عبد الله بن جعفر بن نجيح وهو ضعيفٌ، وقال أحمد بن عدي: يُكتبُ حديثهُ ولا يُحتج بهِ، وقال الهيثمي عنه في ج2 ص320: وهو متروكٌ، وقال عنه في ج5 ص181: وهو ضعيفٌ جداً.

وثانياً: إرسالُ الحديث، وذلك لأنّ علقمة كان قد تُوفِيَ أبوهُ وأمُّهُ حاملٌ به، فكيف يروي عن أبيه؟ قال الحافظ في التقريب: (علقمة بن وائل لم يسمع من أبيه)، وفي نصب الراية للزيلعي ج1 ص495 قال في تعليقه على حديث رواه علقمة عن أبيه: (واعلم أنّ في الحديث علة أخرى ذكرها الترمذي في علله الكبير فقال: سألتُ محمد بن إسماعيل هل سمع علقمة من أبيه؟ فقال: إنه ولد بعد موت أبيه لستة أشهر)، وفي تهذيب التهذيب ج7 ص247، عن ابن معين: (علقمة بن وائل عن أبيه: مُرْسَل).

2 – روى البيهقي ج2 ص28 مسندا: (عن ابن مسعود أنه كان يصلي، فوضع يده اليسرى على اليمنى، فرآه النبي ص فوضع يده اليمنى على اليسرى).

هدى: وهل يُعقل أنّ مثل ابن مسعود هذا الصحابي الجليل يجهل السنة؟

علي: أحسنتِ على هذه الملاحظة الجميلة، ويُضاف إلى ذلك أنّ في سنده هشيم بن بشير، وهو مشهورٌ بالتدليس، راجعي هدى الساري ج1 ص449، وقال يحيى بن معين: ما أدراه ما يخرج من رأسه، راجعي تهذيب التهذيب ج11 ص56.

وفي السند أيضا الحجاج بن أبي زينب السلمي (أبو يوسف الصيقل الواسطي) وهو ضعيف عندهم، قال علي بن المديني: ضعيف، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال الدارقطني: ليس بالقوي ولا حافظ، راجعي تهذيب التهذيب ج2 ص177.

هدى: وهل هناك غير هذين الحديثين؟

علي: نعم، هناك مجموعة أخرى منها، ولكن لا يسلم واحد منها سنداً:

3 – روى أبو داود في سننه ج1 ص201: حدثنا نصر بن علي، أخبرنا أبو أحمد، عن العلاء بن صالح عن زرعة بن عبد الرحمن، قال: (سمعتُ ابنَ الزبير يقول: صَفُّ القدمين ووضعُ اليدِ على اليدِ مِنَ السُنة).

هدى: وما هي العلة فيه؟

علي: فيه أولاً: أنه مُعَارَضٌ بما هو ثابتٌ عن ابن الزبير، مِنْ أنه كان يُرسِلُ يديه في الصلاة، وثانياً: هو ليس حديثاً نبوياً، فلم يَسنِدْهُ إلى النبي ص، وثالثاً: في السند علاء بن صالح وهو التميمي الأسدي الكوفي، قال البخاري عنه: لا يُتابع، وقال ابن المديني: روى أحاديث مناكير، راجعي تهذيب التهذيب للعسقلاني ج8 ص164.

هدى: وهل لديك غير ما مضى من أحاديث؟

علي: نعم،

4 – وروى أبو داود في سننه ج1 ص201 قال: حدثنا محمد بن محبوب، حدثنا حفص بن غياث، عن عبد الرحمن بن إسحاق عن زياد بن زيد، عن أبي جحيفة، أنّ علياً رض قال: (السُنـّة وضعُ الكفِّ على الكفِّ في الصلاة تحتَ السُرّة).

هدى: وبماذا ضُعِّفَ؟

علي: لأنّ في سنده زياد بن زيد وهو مجهول، كما صرّح بذلك العسقلاني عن أبي حاتم، قال في تهذيب التهذيب ج3 ص318: زياد بن زيد السوائي الأعسم الكوفي، قال أبو حاتم: مجهول، وقال البخاري: فيه نظر، وفيه أيضاً عبد الرحمن بن إسحاق، وهو ضعيف بالاتفاق.

5 – وحديث محمد بن قدامة عن أبي طالوت عبد السلام، عن ابن جرير الضبي، عن أبيه قال: (رأيتُ علياً يُمسِكُ شمالهُ بيمينهِ على الرسغ فوقَ السُرّة).

وفي السند: أبو طالوت وهو عبد السلام النهدي، قال ابن سعد: كان به ضعف في الحديث، راجعي نيل الأوطار ج2 ص188، وكذلك يوجد في السند ابن جرير الضبي، وهو غزوان، قال ابن حجر: قرأتُ بخط الذهبي في الميزان: لا يُعرف، راجعي تهذيب التهذيب ج2 ص67.

هدى: ألا تُقابل كلُّ هذه الأحاديث التي ذكرتَها وغيرها معها مما لم تذكره، حديثاً واحداً لأبي حميد الساعدي أو حديث المسيء؟

علي: كلا، لا يُمكنها الوقوف بوجه حديثِ أبي حميد أو حديث المسيء.

هدى: ولماذا؟ فإنك تارة تتشبّث بالأحاديث الضعيفة، وتقول: يقوي بعضها بعضاً، عندما تريد تأييد رأي ما، وتارة تقول لا قيمة لها رغم كثرتها، فما هو الميزان؟

علي: الميزان هو أنه إذا كانت لدينا أحاديث صحيحة وأخرى ضعيفة ولكنها تؤكد نفس مضمون الأحاديث الصحيحة، عند ذلك نقول: إنّ الضعيفة تتقوى، أما إذا كان مضمون الأحاديث الضعيفة مخالفاً لمضمون الأحاديث الصحيحة، عندها تسقط الضعيفة ونتمسك بالصحيحة، لأنّ الضعيف لا يعارض الصحيح، وفي موردنا هنا أٍولاُ: إنّ الأحاديث الضعيفة ساقطة عن الاعتبار ولا يُعمل بها، أمّا حديثُ أبي حميد المخالف في المضمون للضعيفة، فصحيحُ السند ومُعتبرٌ ويمكن العمل به، وكذلك حديث المسيء، وثانياً: إنّ حديث أبي حميد يعادلُ عشرةَ أحاديث صحيحة.

هدى: وكيف؟

علي: لأنّ عشرةً مِنْ كبار الصحابة قد صَـدَّقوا حديثه.

هدى: وهلْ ذكرَ حديثُ أبي حميد أسماءَ هؤلاء الصحابة؟

علي: نعم، كأبي هريرة وسهل الساعدي وأبي أسيد الساعدي وأبي قتادة الحارث بن ربعي ومحمد بن مسلمة وغيرهم.

هدى: أتقصدُ أنّ هؤلاءِ العشرة مِنَ الصحابة، بتأييدهم لحديث أبي حميد، أصبحَ حديثـُهُ يعادلُ عشرةَ أحاديث صحيحة؟

علي: هو ما أقصده بالضبط.

هدى: والآن لننتقل إلى النوع الثاني من الأحاديث، التي عبّرْتَ عنها: بأنها صحيحة السند، ولكنها ليست صريحة.

علي: روى البخاري عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: (كان الناسُ يُؤمَرونَ أنْ يَضَعَ الرجلُ اليدَ اليُمنى على ذراعِهِ اليُسرى في الصلاة، قال أبو حازم: لا أعلمُهُ إلا يُنمى ذلك إلى النبي ص)، راجعيه في صحيح البخاري ج1 ص135.

هدى: وما هو الإشكال فيه؟

علي: الحديث يقول: (كان الناس يُؤمرون)، والسؤال هو: مَن الذي كان يأمُرُهُم؟

هدى: ألم يقل بعد ذلك: يُنمى ذلك إلى النبي ص؟

علي: لو كان النبي ص هو الذي يأمرُ الناسَ، فلماذا لم يَقـُلْ بصورةٍ جازمةٍ منذ البداية: كان النبي ص يأمرُ بذلك، ثم إنه قال بعدها: لا أعلمه إلا يُنمى ذلك إلى النبي ص، وهي عبارةُ شخص مترددٍ في الأمرِ غير جازمٍ بهِ، ثم إنّ كلمة (يُنمى) هو فِعْـلٌ مَبْنِيٌ للمجهول، فمَنْ الذي نَمَاهُ إلى النبي ص؟ فهو كالحديث المُرسل الذي لا يُدرى مَنْ الذي نماهُ للنبي ص.

هدى: تحليلك للحديث لطيفٌ وجميلٌ، ولكنْ ماذا فهمَ علماؤنا منه؟ ثم إذا لم يكن النبي ص هو الآمر، فمن الذي كان يأمرُ الناسَ بفعلِ ذلك؟

علي: أولاً: إنّ العيني في (عمدة القاري) في شرحه للبخاري ج5 ص278، والسيوطي في التوشيح على الجامع الصحيح ج1 ص463، والشوكاني في نيل الأوطار ج2 ص187، بل جميع شرّاح الحديث ذهبوا إلى ما ذكرتُه لكِ مِنْ تحليلٍ، وأمّا ثانياً: وهو مَنْ كان يأمرُ به؟ فيبدو أنّ بعضَ الحُكام كانوا يأمرون الناسَ بالتكتفِ والقبضِ بعدَ ارتحال النبي ص، ظناً منهم أنه أقرب للخشوع.

هدى: ولكننا مأمورون في العباداتِ باتِّباعِ ما وردَ عن النبي ص، ولا يَحِقُّ لنا التشريع وفقاً لظنوننا، ثمّ هل هذا هو كلّ ما في جعبة علمائنا؟

علي: بل هناك حديثٌ آخر صحيحٌ، ولكنه غيرُ صريحٍ في المطلوب أيضاً، فقد روى مسلم في صحيحه ج1 ص382: (عن وائل بن حجر أنه رأى النبي ص رفعَ يديه – حين دخل في الصلاة – كبّر ثم التحفَ بثوبهِ، ثم وضعَ يَدَهُ اليُمنى على اليُسرى، فلمّا أرادَ أنْ يركعَ، أخرج يديه مِنَ الثوبِ ثم رفعهما، ثم كبّرَ فركعَ).

هدى: ولماذا هو غير صريح؟

علي: لأنه لا يُعلم سببُ التحافه بثوبهِ ووضعهِ يَدَهُ اليمنى على اليسرى، فربّما كان بسببِ شدَّةِ البردِ، وربّما كان لاستحبابه، وما دام هذا الفعل ليس صريحاً في الاستحباب، فلا يُمكن الاستدلال به على كونه مُستحباً، خصوصاً أنه لم ينقل ذلك إلا وائل بن حجر، الذي أسلم في أواخر حياة النبي ص وقبلَ وفاتهِ بقليل.

هدى: وما يَضُرُّ وائل بن حجر إذا نقلَ حديثاً عن النبي ص بعدَ أنْ أسلمَ؟

علي: لو كان ذلك مستحباً، لشاعَ نقلهُ بين كلِّ الصحابة، ولنقله باقي المهاجرين والأنصار الذين صلّوا خلف النبي ص مدة عشر سنوات.

هدى: صدقتَ واللهِ، فلو كان النبي ص يفعلهُ أمامَ المسلمين كلَّ يومٍ خمسَ مراتٍ سِوى النوافل، لنقله غيرُ وائل، رغم أنه قد أسلم قربَ وفاة النبي ص.

علي: وأضيفُ لكِ في الطنبور نغمة كما يقولون.

هدى: وما ذاك؟                           

علي: يُمكن دخول هذا الحديث في عنوانٍ ثالث، هو غير الصحيح وغير الصريح.

هدى: وكيف ذلك؟

علي: لأنّ في سنده الذي رواه مسلم، شخص اسمُهُ همام، فلو كان المقصود به همام بن يحيى، فقد قال ابن عمار فيه: كان يحيى القطان لا يعبأ بهمام، وقال عمر بن شيبة: حدثنا عفان قال: كان يحيى بن سعيد يعترض على همام في كثير مِنْ حديثه، راجعي هدى الساري ج1 ص449.

هدى: ما أكثرَ إيرادك على هذا الحديث، فهل هناك إيرادٌ آخر عليه؟

علي: نعم، فالحديث يَدخلُ في الحديثِ المُرسَل، وهو أحدُ أقسامِ الحديثِ الضعيف، وذلك لأنّ راوي الحديث – كما مرّ سابقاً – ولد بعد وفاة أبيه، فكيف رواه عن أبيه؟

هدى: ومن ذكر ذلك من العلماء؟

علي: ذكرنا سابقاً بعضهم، ومنهم ابن حجر حيث قال: حكى العسكري عن ابن معين أنه قال: علقمة بن وائل عن أبيه مُرسلٌ، راجعي تهذيب التهذيب ج7 ص247.

هدى: صحيح، وعجيبٌ حقاً أمرُ هذا الحديث، وماذا عن فعلِ الصحابةِ والتابعين؟

علي: نقلَ علماؤكم عن بعضِ الصحابة والتابعين والفقهاء القولَ بالإرسال والإسبال.

هدى: اذكر أقوالهم رجاءً.

علي: ذكر ابن أبي شيبة في المصنف ج1 ص428 باب 166 طبع دار الفكر بيروت سنة 1409 هـ باباً بعنوان (من كان يرسل يديه بالصلاة): فبسنده عن الحسن وإبراهيم أنهما كانا يرسلان أيديهما في الصلاة، وبسنده أيضاً عن عمرو بن دينار: كان ابن الزبير إذا صلى يرسل يديه، وبسنده عن عبد الله بن يزيد قال: ما رأيتُ ابن المسيب قابضاً يمينه في الصلاة، كان يرسلها.

هدى: أتصور بأنّ أكثر هؤلاء مِنَ التابعين.

علي: صحيح، أما الصحابة فعموم أهل البيت ع كانوا يرسلون أيديهم.

هدى: وماذا عن غير أهل البيت؟

علي: ورد في المصنف لابن أبي شيبة ج1 ص428 باب 166 حديث 5: (عن عبد الله العيزار قال: كنتُ أطوف مع سعيد بن جبير فرأى رجلا يصلي واضعاً إحدى يديه على الأخرى …. فذهب ففرق بينهما ثم جاء).

هدى: سعيد بن جبير مِنْ أجلاء الصحابة، وعمله هذا يُشعر بأنه كان يعتقد أنّ هذا العمل منكرٌ، لذا جاء ليغيّره بيده.

علي: أحسنتِ، وقال النووي في المجموع ج3 ص313: (وحكى ابن المنذر عن عبد الله بن الزبير والحسن البصري والنخعي أنهم يرسلون أيديهم ولا يضعون إحداهما على الأخرى، وحكاه القاضي أبو الطيب أيضاً عن ابن سيرين، وقال الليث بن سعد: يرسلهما فإن طال ذلك عليه، وضع اليمنى على اليسرى للاستراحة)، وراجعي أيضا عمدة القاري ج5 ص278.

هدى: ولكن ما قيمة هذا العدد القليل؟

علي: إنّ قيمتهم هو كونهم أئمة، والإمام يتبعه عامة الناس.

هدى: وهل هم أئمة حقاً حتى يتبعهم الناس؟

علي: بالتأكيد هم مِنْ كبار الأئمة في نظر أهل السنة، فعبد الله بن الزبير صحابي وهو إمام أهل مكة ومُفتيها، ومالك عالم أهل المدينة، والليث بن سعد عالم مصر، والحسن البصري وابن سيرين أعلم أهل البصرة وأفضل تابعيها، والأوزاعي عالم ومفتي الشام الأوحد، والنخعي مفتي الكوفة وفقيهها.

هدى: إذن مَنْ كان يدعو للتكتف؟

علي: هم الحكومات والسلطات.

هدى: الآن توضّحتْ الصورة، جزاك الله ألف خير على توضيحاتك القيمة والوافية.

علي: وأشكركِ أيضاً على إنصافكِ.

هدى: كأنك تريد أنْ تقول شيئاً.

علي: صحيح، أريدُ أنْ أقول بأنّ اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية لها فتوى لطيفة في ذلك، ففي الفتوى رقم 893 قالوا: (إذا تقرّر أنّ السنة هي وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى، فإذا صلى شخص وهو مُرسلٌ يديه فصلاته صحيحة، لأنّ وضع اليمنى على اليسرى ليس مِنْ أركان الصلاة ولا مِنْ شرائطها ولا مِنْ واجباتها، وأمّا اقتداء مَنْ يضع يديه اليمنى على اليسرى بمَنْ يُرسل يديه فصحيح)، راجعي ج9 ص366 من سلسلة فتاوى اللجنة.

هدى: ما شاء الله .. وإذا كان ليس واجباً، فلماذا يكون هذا المستحب سبباً للنزاع والتفرقة بيننا؟ ولماذا يُتَّهم الشيعة بأنهم مبتدعين لِعدم تكتفهم، رغم أنّ التكتف لم يقلْ أحدٌ بوجوبه مِنْ مذاهب أهل السنة؟

علي: صدقتِ يا عزيزتي.

هدى: أتصور بأنّ هذا يكفي لهذا اليوم.

علي: (مستغرباً) لقد كنتِ دائماً تطلبين الاستمرار في البحث، فما عدا مما بدا؟

هدى: أشعر بتعبٍ شديد هذه الليلة، ونكمل البحث غداً إن شاء الله تعالى.

علي: إن شاء الله، وتصبحين على خير.

هدى: وتصبح على ألف خير.

شاهد أيضاً

ألف سؤال وإشكال (المجلد الأول) / الصفحات: ٢٢١ – ٢٤٠

ألف سؤال وإشكال (المجلد الأول) / الصفحات: ٢٢١ – ٢٤٠ *  *  * ٢٢١ الأسئلة ...