الرئيسية / زاد الاخرة / وصية الإمام الخميني(قده) إلى السالكين

وصية الإمام الخميني(قده) إلى السالكين

نار الشوق

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، الذي لا رحمن ولا رحيم غيره، ولا يُعبد ولا يُستعان إلا به، ولا يُحمد سواه، ولا رب ولا مربي إلا إياه. وهو الهادي إلى الصراط المستقيم، ولا هادي ولا مرشد إلا هو، ولا يُعرف إلاّ به، هو الأول والآخر والظاهر والباطن. والصلاة والسلام على سيّد الرسل ومرشد الكلّ الذي ظهر من غيب الوجود إلى عالم الشهود. وأتمّ الدائرة وأرجعها إلى أولها، وعلى آل بيته الطاهرين الذين هم مخازن سر الله. ومعادن حكمة الله. وهداة ما سوى الله.

وبعد..

هذه وصية من عجوز عاجزٍ، أمضى زهاء التسعين عاماً من عمره غارقاً في مستنقع الضلالة وسكر الطبيعة، يطوي الآن أيام أرذل عمره(1- إنه اصطلاح قرآني ورد في الآية70 من سورة النحل، وبعض الروايات عدّت ذلك عند بلوغ العام الخامس والسبعين.) منحدراً نحو قعر جهنم، غير آمل بالنجاة، وغير آيَسً من روح الله ورحمته، فلا أمل سواه تعالى، يرى نفسه عالقاً في متاهات العلوم المتعارفة والقيل والقال وأضحت معاصيه مما يعجز سوى الله تبارك وتعالى عن إحصائها.

إلى شاب يُؤمَّل له أن يشقّ طريقه نحو الحق وينجو -بتوفيق الله وهداية الهداة- من المستنقع الذي سقط فيه أبوه.

ولدي العزيز أحمد، أنظر -سلمك الله- في هذه الأوراق نظر ناظر إلى ما يُقال، لا إلى من يقول “وانظر إلى ما قال، ولاتنظر إلى من قال”(2- غرر الحكم ودرر الكلم لأمير المؤمنين عليه السلام “لا تنظر إلى من قال، وانظر إلى ما قال”.). فإني أهدف مما أقول تنبيهك رغم أنني خالٍ مما أقول بعيد عنه.

إعلم أن ليس لأيّ موجود من الموجودات -بدءاً من غيب عوالم الجبروت وإلى ما فوقها أو تحتها- شيئٌ من القدرة أو العلم أو الفضيلة، وكل ما فيها من ذلك إنما هو منه جلَّ وعلا، فهو الممسك بزمام الأمور من الأزل إلى الأبد، وهو الأحد الصمد، فلا تخش من هذه المخلوقات الجوفاء الخاوية الخالية، ولا تُلق آمالك عليها أبداً، لأن التعويل على غيره تعالى شركٌ، والخوف من غيره جلت عظمته كفر.

بني: 

اسع في إصلاح نفسك ما دمت تحظى بنعمة الشباب، فإنك ستخسر كل شيء في الشيخوخة، فمن مكائد الشيطان (ولعلها أخطر مكائده -التي سقط فيه أبوك ومازال- إلا إذا ادّاركته رحمة الحق تعالى) “الاستدراج”(3- هو التدرج في نحو العناد، وسمي توالي النعمة مع ارتكاب المعاصي استدراجاً.).  ففي أوائل الشباب يسعي شيطان الباطن -أشد أعداء الشاب- في ثنيه عن إصلاح نفسه ويمنّيه بسعة الوقت، وأن الآن هو آن التمتع بالشباب، ويتسمر في خداعه بالوعود الفارغة ليصدّه عن فكرة الإصلاح تماما، وساعة بعد ساعة، ويوما بعد يوم يتصرّم الشباب، ويرى الإنسان نفسه فجأة في مواجهة الهرم

الذي كان يؤمِّل فيه إصلاح نفسه، وإذا به ليس بمنأىً عن وساوس الشيطان أيضا، إذ  يمنيه آنذاك بالتوبة في آخر العمر. لكنه حينما يحُسُّ بالموت في آخر العمر، يصبح الله تعالى أبغض موجود إليه، لأنه يريد انتزاع الدنيا التي هي محبوبه المفضّل منه. وهذه حال أولئك الذين لم ينطفئ نور الفطرة فيهم تماما. وهناك من أبعدَهم مستنقع الدنيا عن فكرة الإصلاح كلياً، وسيطر عليهم غرور الدنيا بشكل تام، وقد رأيت أمثال أولئك بين أهل العلوم وما زال بعضهم على قيد الحياة، وهم يرون أن الأديان ليست سوى خرافة وترهات.

بني: 

إنتبه جيداً، إلى أن أيّ أحد منا لا يمكنه أن يكون مطمئنا إلى عدم وقوعه في حبائل هذه المكيدة الشيطانية.

عزيزي إقرأ أدعية الأئمة المعصومين عليهم السلام وانظر كيف أنهم يعتبرون حسناتهم سيئات، وكيف يرون أنهم يستحقون العذاب الإلهي، ولا يفكرون سوى برحمة الحق تعالى. وأهل الدنيا -وتلك الفئة من المعمّمين اللاهثين وراء بطونهم، إنما يُؤولون هذه الأدعية، لأنهم لم يعرفوا الله جل وعلا.

بني:

والأمر في ذلك فوق ما نتصوره، فهم بين يدي عظمة الله، فانون من أنفسهم، لا يرون غيره تعالى، وفي تلك الحال ليس هناك كلام أو ذكر أو فكر، وليس هناك ذات. وهذه

الأدعية الكريمة والمناجات إنما صدرت منهم في حال الصحو قبل المحو أو بعد المحو، حيث أنهم حينها كانوا يرون أنفسهم في محضر الحاضر. ونحن والجميع -عدا أولياء الله الخلص- قاصرون عن ذلك.. إذن فسأبدأ الحديث عن تلك الأمور -التى لا تليق بأمثالي وإنما الأمل بفضل الله وإمداد أوليائه عليهم السلام أن يعينك أنت يا ولدي، لعلك تصل إلى تلك الحال- وهي “فطرة التوحيد” الأمر الموجود في {..فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا..}(الروم/30). فهو أمرٌ فُطر عليه جميع الناس، بل جميع الموجودات، فما يُبحث عنه ويجرى وراءه الجميع سواء في العلوم والفضائل والفواضل، أو في المعارف وأمثالها، أو في الشهوات والأهواء النفسانية، أو في التوجّه إلى كل شيء وأي شخص من قبيل أصنام المعابد والمحبوبات الدنيوية الأخروية الظاهرة والخيالية المعنوية والشكلية، كحب النساء والبنين والقبيلة والقادة الدنيونيين كالسلاطين والأمراء وقادة الجيوش، أو القادة الأخرويين كالعلماء المفكّرين والعرفاء والأنبياء عليه السلام كل ذلك هو ذات التوجّه إلى الواحد الكامل المطلق. فليس من حركة تقع إلا له تعالى، وفي سبيل الوصول إليه جل وعلا، وليس من قدم تخطو إلا نحو ذلك الكمال المطلق، ونحن وأمثالنا -ممن حجبتنا الحجب الظلمانية المتراكمة بعضها فوق بعض- إنما نعاني ونتعذب نتيجة هذا الاحتجاب، وأول خطوة تكون مقدمة لرفع الحجب هي أن نعتقد أننا محجوبون، وأن علينا أن نصحو تدريجيا من خَدرَ الطبيعة الذي شمل كامل وجودنا من السر والعلن والباطن والظاهر وهي اليقظة التي

 عدها بعض أهل السلوك” المنزل الأول” من منازل السالكين، إلا أنها ليست كذلك، فهي حالة عودة الوعي والاستيقاظ، وهي مقدمة للبدء في السير ورفع جميع الحجب الظلمانية، ثم الحجب النورانية والوصول إلى أول منزل التوحيد.

والأمر سيان إذا التزمنا إطار العقل، أو الأطر الأخرى بأسرها، فجميعها تفصح عن أن الكمال المطلق هو جميع الكمالات، وإلا فهو ليس بمطلق، ولا إمكان لظهور أي كمال أو جمال في غير الله، لأن الغيرية هي عين الشرك أن لم نقل أنها إلحاد.

عزيزي: 

ينبغي -أولا- أن تخطو بقدم العلم رويدا رويدا، فإنّ أي علم هو الحجاب الأكبر، وبالدخول بهذا الحجاب ستتعلم رفع الحجب. تعال إذن ننطلق معا نحو الوجدان، لعل ذلك يفتح الطريق أمامنا.

إن أي إنسان، بل أي موجود عاشقٌ للكمال بالفطرة ومتنفرٌ من النقص، فأنت إنما تطلب العلم لأنك تطلب الكمال. وبذا فأنت ترى أن فطرتك لا تقنع أبداً بأي علم تناله، وهي بمجرد أن تدرك وجود مراتب أرقى وأعلى في هذا العلم، فإنها ستبحث عنها وتطالب بها، وسوف تتنفّر مما لديها من العلم الذي نالته لما سترى من محدودية ونقص. فما تعشقه الفطرة هو كمال العلم لا نقصه، ولو إن مقتدرا اهتم بقدرته فهو إنما يسعى إلى كمال القدرة لا إلى نقصها، لذا نرى المقتدرين يسعون دوماً لقدرة أعظم وأعلى،

غافلين عن أن القدرة المطلقة إنما هي الموجود المطلق. وأن جميع “دار التحقق” إنما هي مظهر من ذلك الموجود المطلق. وأينما تولِّ وجهك إنما تولَّ وجهك إليه، إلا أنك محجوبٌ ولا تعلم، وإذا أدركت هذا المقدار وفهمته بالوجدان فلا يمكن أن تتوجّه إلى غير الموجود المطلق، وذلك هو الكنز الذي يغني الإنسان عن الحاجة إلى غيره تعالى، ويصبح كلُّ ما يصل إليه من المحبوب المطلق، وكل ما سُلِبَه إنما سَلَبَه إياه المحبوب المطلق. حينها ستستشعر اللذة حينما ترى من يبحثون عن سقطاتك وعيوبك، لأن ذلك كله من المحبوب وليس منهم، وحينها أيضا لن تعلق القلب بأيِّ مقام غير مقام الكمال المطلق.

ولدي العزيز:

دعني أتحدث إليك الآن بقلمي ولساني العاجزين:

أنت والجميع تعلمون بأنكم تحت ظل نظام وقف بوجه القوى الشيطانية بيُمن القدرة والتوفيق الإلهيين، وبدعاء وتأييد بقية الله (5- مر ذكره سابقا.) -أرواحنا لتراب مقدمة الفداء- وبتضحيات الشعب الإيراني الثوري -روحي فداهم واحداً واحداً- نظامٌ مرغ بالتراب أنف نظام الفوضى الملكية الذي لم يُحسن -خلال آلاف السنين- غير الظلم وإلحاق الأذى بأبناء الشعب والقتل والنهب. وفي هذا الخضمّ تعرض أولئك الطفيليون -أتباع النظام الفاسد الذين مارسوا أنواع الظلم والتعدي والسلب- إلى السقوط من أوج قدرتهم إلى أسفل السافلين -كما حصل لتك القوى الشيطانية وشبكات

إعلامها المضلل- وتفرق الكثير منهم الآن في مختلف البلدان الأجنبية، عدا من بقي منهم في داخل البلاد وقلبه متعلق بالأجانب، وقد عقدوا مع الغرب عقد الوئام، فهم جميعاً قد تعرضوا إلى فقدان مصالحهم على المستوى الدولي، وأصبحوا حديث الناس بما أصابهم من الخزي والعار، واليوم فإن لهؤلاء -خصوصا أمريكا الناهبة- مؤيدين في العالم، وبين الشعوب المستضعفة والغافلة عن حقيقة القدرة التي يمتلكها الإسلام، وفي مجتمعنا نحن أيضا، العديد من المأسورين بأمريكا يعيشون بيننا وقد امتشقوا سيوفهم بوجه هذه الجمهورية المباركه والمسؤولين فيها، ينتظرون زوالها لما يرون من خطر يُهدّد منافع الغرب، بسبب الإسلام العظيم -القدرة الوحيدة التي تسببت في تعرضهم لهذا الخطر.

كذلك فإن الشرق الملحد -الذي يقف بوجه أيّة محاولة تمسّ قدرته، وبعد أن سيطر هو الآخر على نصف العالم- يحس أنه وأصدقاءه في معرض الخطر أيضاً من هذا الإسلام المتنامي القدرة، هذا الشرق الملحد له في داخل البلاد وخارجها مؤيدون أيضاً يقفون تبعا لمعبودهم الكبير بوجه الإسلام العظيم والجمهورية الإسلامية ومسؤولي النظام، ويسعون جاهدين للقضاء عليها وعلى أيّ أثر لها.

في مثل هذا المحيط، وفي مثل هذه الأوضاع، هل تتوقع أن يُشدّ على يد الجمهورية الإسلامية، وينبري المادحون لمدحها، والترحيب بها وبالمسؤولين فيها؟

إن طبيعة التفكير البشري الفاسد تقتضي إزالة ما يُعتبر عوائق من الطريق، واستخدام أية وسيلة لتحقيق ذلك،

وأحد أساليبهم التي يلجأون إليها -علاوة على الأسلوب العسكري والاقتصادي والقضائي- “الأسلوب الثقافي” فالثقافة المنحطة للغرب والشرق تقتضي استخدام كل الإمكانات الإعلامية المتاحة لهم لنشر الأكاذيب على مدار الساعة، وإلصاق الاتهامات والافتراء على الثقافة الإسلامية الإلهية، واستغلال كل فرصة للقضاء على القوانين الإلهية للجمهورية الإسلامية وعلى أصل الإسلام، واعتبار المرتبطين بالإسلام رجعيين وفاقدين للحسّ السياسي. إلى غير ذلك، من القول بعدم مناسبة القوانين الإسلامية لعصرنا الحاضر، على أساس أنها قوانين مضى عليها ألف وأربعمائة عام، فلا تنفع في إدارة الأمور في وقتنا الحاضر الذي يمتلىء بالمستجدات التي لم تكن موجودة في تلك العصور، وقد كرر بعض مدّعي الإسلام هذه الأمور أيضاً، وما زالوا.

في مثل هذا المحيط ينبغي الوقوف بوجه هذه المؤامرات الواسعة -استناداً إلى الثقافة الإلهية الإسلامية- والثبات بوجهها، فينبري لذلك الكتاب الملتزمون والخطباء والفنانون للاستفادة من هذه الفرصة العظيمة، وباستمداد من الروحانيين العارفين بالفقه الإسلامي والقرآن الكريم، ممن يستنبطون الأحكام الإلهية المناسبة لكل عصر بالاجتهاد الصحيح من القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة والأخبار الفياضة بالمعارف الإلهية والفقه الأصيل(6- الفقه التقليدي هو أسلوب في استنباط واستخراج الأحكام الشرعية من مصادرها الفقهية المعتبرة، وقد التزم علماء المسلمين الشيعة بهذا الأسلوب منذ عهد الائمة عليهم السلام وحتى يومنا هذا، البعض كان يظن أن هذا الأسلوب يتعارض مع الفقه المتحرك، لكن الإمام الخميني(قده) اعتبر أن الفقه الحركي أو المتحرك -الذي يشكل أثر دور الزمان والمكان في الاجتهاد- يسير بموازاة الفقه التقليدي ومكمل له.) وعرضها للعالم أجمع. ولا تخشوا أولئك الذين لا همَّ لهم سوى البحث عن عيوب الآخرين، والمنحرفين، ووعاظ السلاطين، والمعمّمين المرتبطين ببلاط الملوك، وفهِّموا أولئك القشريين من

الروحانيين أو غيرهم ممن يقفون بوجه الحكومة الإسلامية جهلا أو عمدا، أو بباعث الحسد أو عدم الفهم -بما اتبعه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه وسائر الأئمة من أساليب، وبالموعظة الحسنة- بأن هذه الانحرافات إذا أدّت إلى إلحاق ضرر ما -لا سمح الله- بالجمهورية الإسلامية التي تهدف إلى إحياء الإسلام الذي تعرض للظلم على مدى التاريخ، فإن الإسلام سيتعرض إلى ضربة من الغرب والشرق، ومن المرتبطين بهما مما يؤدي إلى أن نواجه قروناً من الفساد تفوق عصر الملكية المقبور الظالم ظلمةً وفساداً.

والآن جاء دور تقديم النصيحة الأبوية إلى ولدي أحمد:

بني:

رغم أنك لم تتصد لأية مسؤولية مما تصدى له القادة الإسلاميون المسؤولون -أيدهم الله تعالى- إلا أنك تتعرض للكثير من الصدمات، وما ذلك إلا لأنك إبني، فبناءاً على فهم الغرب والشرق، ينبغي أن أصبح أنا وكل من هو قريبٌ مني -خصوصا أنت لما تمثله من القرب الشديد مني- موضعاً للتهمة والأذى والافتراء. فجريرتك الحقيقية هي أنك ابني، وهذا ليس بالجرم القليل في نظرهم، ولاشك أ،هم سيعرضونك إلى أشدّ من هذا، وعليك أن تستعد لتحمّل المزيد، ولكنك إذا تمسكت بالإيمان وبالاعتقاد بالله تعالى، واطمأننت إلى حكمه الباري ورحمته الواسعة، فإنك سترى هذه التهم والافتراءات والمتاعب المتزايدة هدايا من محب يريد إعانتك على ترويض نفسك، وابتلاءً وامتحاناً

إلهياً لتنقية نفوس عبيده. تحمّل الصدمات إذن، واشكر الله تعالى على رعايته لك واسأله المزيد.

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...