ولاء التصرف
4ـ ولاية التصرف، أو الولاء المعنوي، أعلى ضروب الولاية. فضروب الولاية الأخرى إما أن ترتبط برابط القرابة من رسول الله(ص) إضافة إلى مقام الطهارة والقداسة لأهل البيت، وإما أن ترتبط بالصلاحيات العلمية أو الإجتماعية التي يتمتعون بها. إنّ ما يطلق عليه إسم الولاية في الحالتين الأخيرتين لا تتعدى حدود التشريع والعهد، حتى يخال للمرء أن أصل هذا التعهد ومعناه وفلسفته هو الصلاح العلمي أو الاجتماعي. أما ولاية التصرف المعنوي، فهي ضرب من التسلط والإقتداء التكوينيين. فلابد من معرفة معنى ولاية التصرف وما هو القصد منها.
ترتبط نظرية الولاية التكوينية من جهة بالإمكانات الكامنة في هذا الذي ظهر على وجه الأرض باسم الإنسان، وبالكمالات الموجودة بالقوة في هذا الكائن العجيب، وهي الكمالات التي يمكن أن تنتقل من القوة إلى الفعل. وهي ترتبط من جهة أخرى بالعلاقة بين هذا الكائن والله. إنّ المقصود في الولاية التكوينية هو أن يقترب الإنسان، بسيره على صراط العبودية، من الله، فيكون من أثر ذلك ـ في مراتبه العليا طبعاً ـ أن تتركز فيه المعنوية الإنسانية التي هي بذاتها حقيقة من الحقائق، وهو بنيله تلك الدرجة من المعنوية، وهي رأس المعنويات، يصبح مسلطاً على الضمائر، وشاهداً على الأعمال، وحجة على زمانه، وإن الأرض لا تخلو من حجة بهذا المعنى.
إنّ الولاية بهذا المفهوم غير النبوة؟ غير الخلافة، وغير الوصاية، وغير الإمامة التي تعني المرجعية في الأحكام الدينية. إنّ اختلافها مع النبوة والخلافة والوصاية اختلاف حقيقي، ومع الإمامة اختلاف من حيث المفهوم والاعتبار.
إنّ المقصود باختلافها عن النبوة والخلافة والوصاية اختلافا حقيقياً ليس أن كل نبي أو خليفة أو وصي لا يمكن أن يكون ولياً، بل المقصود هو أن النبوة والخلافة والوصاية حقائق تختلف عن حقيقة الولاية، وإلا فإن الأنبياء العظام، وعلى الأخص خاتمهم، كانت لهم ولاية إلهية كلية.
أما القول بأن اختلافها عن الإمامة اختلاف اعتباري، فيعني إنها والإمامة مقام واحد، فمرة تعتبر إمامة ومرة تعتبر ولاية. إنّ تعبير (الإمامة) قد استعمل في المصطلحات الإسلامية بمعنى الولاية المعنوية، مفهوم الإمامة مفهوم واسع. فالإمامة تعني القيادة والمرجع الديني قائد، بمثل ما أن الزعيم السياسي والاجتماعي قائد أيضاً.
إنّ الشيعة يطرحون موضوع الولاية من جوانب ثلاثة، وفي كل تلك الجوانب الثلاثة تستعمل كلمة الإمامة:
الجانب الأول هو الجانب السياسي: فمن الذي كان أحق وأليق بالقيام مقام النبي بعده لزعامة المسلمين ولقيادتهم اجتماعيا وسياسياً؟ ومن ذا الذي كان يجب أن يخلف النبي(ص) في زعامة المسلمين؟ أما القول بأن النبي قد اختار علياً بأمر من الله لهذا المركز الاجتماعي، فإن له في الوقت الحاضر جانباً تاريخياً، وليس له جانب عملي.
وعلى الرغم من أن الله قد أقام الدنيا على نظام الأسباب والمسببات، وإن من يذكرهم القرآن باسم الملائكة { فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا}[39] و{ فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا}[40] إنما هم يأتمرون بأمر الله، فإن ذلك لا يتنافى مع وحدانية الله تعالى ولا مع مالكيته وخالقيته، كما أنه لا يتنافى أيضاً مع عدم وجود (ولي) بمعنى حبيب لله ومعين له، وحتى آلة من آلات الله:
{ وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}[41].
إنّ علاقة المخلوق بالخالق ليست بعد الخالقية والمربوبية، هي اللاشيئية المطلقة. فالقرآن الذي يقول: إن الله غني عن العالمين، وفي الوقت الذي يقول فيه:
{ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}[42].
يقول أيضاً في مكان آخر:
{ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}[43]
وكذلك:
{ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ}[44]
ويقول أيضاً: { إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}[45].
ويقول أيضاً:
{ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}[46].
وفي هذه الآية رسل وحفظة يقبضون الأرواح.
وعليه، فمن حيث النظرة التوحيدية، لا مانع من وجود وسائط وقيام غير الله بتدبير الأمور بإذن الله وبإرادته بحيث يكون منفذوا الأوامر قائمين بها بإرادة الله.
ولكن في الوقت نفسه يقتضيا الأدب الإسلامي ألا ننسب الخلق والرزق والإحياء والإماتة وأمثالها إلى غير الله، فالقرآن يريدنا أن نتخطى الأسباب والوسائط ونعبرها إلى المنبع الأصلي لكي يكون توجهنا إلى الفاعل الأول في الكون كله والذي خلق الوسائط من مخلوقاته ومن منفذي أوامره ومظاهر حكمته أيضاً.
ثم إنّ نظام العالم من حيث الوسائط نظام خاص خلقه الله، وليس بمقدور الإنسان في سيره التكاملي أن يقوم مقام أي من وسائط فيض الله، بل أنه نفسه يتلقى الفيض من تلك الوسائط نفسها فالملائكة توحي إليه، والملائكة تؤمر بالحفاظ عليه وبقبض روحه، على الرغم من أن مقام ذلك الإنسان وسعة وجوده يمكن أن تكون أرفع أحياناً من مقام ذلك الملك الموكل به.
ثم إننا لا نستطيع أن نعين تعييناً دقيقاً حدود ولاية التصرف أو الولاية التكوينية، لإنسان كامل أو قريب من الكمال. إنّ مجموع القرائن القرآنية والعلمية الذي بين أيدينا يؤيد إمكان وصول الإنسان إلى مرتبة تتحكم فيها إرادته في العلم. ولكن إلى أي حد؟ هل لذلك حد، أم لا حد له؟ إنّ الجواب على ذلك خارج عن طاقتنا.
الموضوع الثالث الذي يجب ذكره هو: إن ولاية التصرف من شؤون ذلك العبد الذي تنزه كلياً من أهواء نفسه فهذه القدرة ليست مما يتأتى على وفق الرغبة والهوى لأي إنسان.
بل إنّ الإنسان الذي ما يزال تحت سيطرة رغباته وأهوائه وميوله العشوائية محروم من أمثال هذه الكرامات. أما الإنسان الذي طهر إلى ذلك الحد، لا تتبع إرادته أبداً من النزاعات والغرائز التي تنبعث عنها إرادتنا بل تتحرك إرادته باطنياً وبإشارة غيبية، أما كيف يكون ذلك فلا علم لنا به. أما ما جاء في بعض آيات القرآن: { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا}[47] فإنه يعني أن الذي يملك أصلاً كل نفع وضر هو الله، وإن قدرتي على نفعي وضرري هي أيضا من الله, وليست من عندي. وإلا فكيف يمكن أن يملك الناس إلى حد ما نفعهم وضرهم، ثم يكون النبي(ص) أدنى من أولئك في ذلك.
هذه النقاط الثلاث كان من الضروري بحثها أولاً كمقدمة لبحث الولاية التكوينية، لأنها قلما تناولتها الأقلام بالبحث، يضاف إلى ذلك أن بعضهم قد اقترح علينا معالجة ذلك أيضاً.
https://chat.whatsapp.com/CaA0Mqm7HSuFs24NRCgSQ0