الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / أسرار الصلاة – الجليل الشيخ الجوادي الآملي 15

أسرار الصلاة – الجليل الشيخ الجوادي الآملي 15

وحيث إنّ بسم اللَّه في أوّل كلّ سورة له معنى خاصّ مطابق لما تحتويه تلك السورة ، وكانت سورة الحمد كافلة لمعارف جمّة فبسم اللَّه الواقع في أوّلها جامع لتلك المعارف ، ولمّا كان إدراك تلك المعارف مرقاة إلى شهود إسرارها فلنأتي بشيء منها ؛ لأنّ الحرّ تكفيه الإشارة عن العبارة .

إنّ الحمد إنّما هو تجاه النعمة ، والنظام الإمكانيّ من المعقول إلى المحسوس ، ومن الغيب إلى الشهادة نعمة إلهيّة أنعمها البارئ تعالى ، فهو تعالى مستحقّ للحمد ، ولا محمود سواه ، وحيث إنّه لا وجود حقيقيّ لغيره ، لأنّ كلّ ما سواه آيات ومظاهر له فهو مالك بالاستقلال لما يصدر عن ما عداه ، فالحمد المتمشّي من غيره إنّما هو مظهر للحمد الناشئ منه تعالى ، فلا حامد عداه ، فهو الحميد بالمعنى المطلق ، أي :
الحامد والمحمود .

وقد علَّل في هذه السورة استحقاقه تعالى للحمد بأمور خمسة ، بعضها جامع ومتن ، وبعضها الآخر شرح لذلك المتن :
الأوّل : – أي : ما هو بمنزلة المتن – هو عنوان « اللَّه » ؛ لأنّه جامع لجميع الكمالات ، وكلّ من جمع الكمال فهو محمود ، فاللَّه محمود فله الحمد ، وهذا القسم
بمنزلة المتن الذي تشرحه سائر العلل الأربع الآتية .

الثاني : – أي : ما هو بمنزلة الشرح وهكذا العناوين الأخر القادمة – هو عنوان الربوبيّة الَّتي هي من الصفات الخاصّة ، وحيث إنّ اللَّه سبحانه ربّ العالمين وكلّ ربّ محمود فهو محمود فله الحمد .

الثالث : هو عنوان الرحمانيّة الَّتي هي أيضا من الصفات الخاصّة ؛ لأنّها وإن كانت أعمّ من غيرها إلَّا أنّها بالقياس إلى عنوان « اللَّه » خاصّة ، وإن يظهر من بعض أهل المعرفة « 1 » كونها أيضا اسما أعظم نظير عنوان « اللَّه » حسبما يستفاد من قوله تعالى * ( قُلِ ادْعُوا ا للهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَه ُ الأَسْماءُ الْحُسْنى ) * « 2 » لدلالته على أنّ كلّ واحد من « اللَّه » و « الرّحمن » واجد للأسماء الحسنى ، إذ المستفاد منه : أنّ كلّ واحد من ذينك الاسمين فله – أي : لكلّ واحد منهما – الأسماء الحسنى ، إذ الضمير يرجع إلى أيّ ، لا إلى خصوص الذات المطلقة الواجبيّة ، ولكن لمّا لم يجعل عنوان « اللَّه » وصفا وتابعا ، ولكن يجعل عنوان « الرّحمن » وصفا وتابعا ، فيمكن الفرق بينهما بجعل « اللَّه » جامعا وجعل « الرّحمن » شارحا .

الرابع : هو عنوان الرحيميّة الَّتي هي أيضا من النعوت الخاصّة ؛ لعدم اتّساعها بالنسبة إلى غير المؤمن . وعلى أيّ تقدير لا تكون نظير عنوان « اللَّه » اسما أعظم ، وحيث إنّ اللَّه سبحانه رحيم وكلّ رحيم محمود فهو تعالى محمود فله الحمد .
الخامس : هو عنوان مالك الجزاء بالجنّة والنار ، وذلك من شؤون الحكمة والعدل ، كما أنّه من شؤون القدرة أيضا ، وكلّ حاكم عدل يملك الجزاء في قبال العمل ، إن كان خيرا فبالجنّة ، وإن كان شرّا فبالنار ، فهو محمود ، وحيث إنّ اللَّه سبحانه مالك له فهو محمود فله الحمد .

فهذا الجزء من الفاتحة حاو للمبدإ والمعاد وما بينهما . أمّا الأوّل والثاني – أي :
المبدأ والمعاد – فواضح بما قرّر ، وأمّا الذي يرجع إلى المبدإ والمعاد فهو الدين
والصراط والنبوّة والرسالة والوحي والولاية ، وما إلى ذلك ممّا يرجع إلى ربوبيّته تعالى ، حيث إنّ الربّ كما يربّ الحجر والمدر والشجر والبرّ والبحر والحيوان الأعجم كذلك يربّ الإنسان ، ومعلوم أنّ تربيبه وتربيته إنّما هو في ضوء الشريعة والصراط الذي بدونه يكون الناس كالأنعام بل هم أضل ، وبه يصير نبيّا ورسولا ووليّا ، أو عبدا صالحا ومؤمنا فالحا ونحو ذلك .

ومن المعلوم : أنّ لكلّ من المعارف المارّة سرّا عينيّا يختصّ به ، ولا ينال المصلَّي المناجي ربّه إيّاه إلَّا بمعرفة هذه المعارف والاعتقاد بها والسير نحوها حتّى يحصل له شهود مصاديقها ، ويصل إلى سرّها ، وما نقل من مآثر أهل البيت – عليهم السّلام – وآثار مقتفيهم من الخرور مغشيّا عند قراءة الفاتحة فإنّما هو باستناد شهود نبذ من إسرارها .

وحيث إنّ المصلَّي بعد معرفة استحقاق اللَّه سبحانه للعبادة بالبرهان الذي أقامه القرآن يريد أن يصل إلى معروفه بالعيان ، أي : العرفان ، ولا وسيلة لتلك الصلة إلَّا الصلاة ، كما قرّر من أنّها حجزة عن الرين وما يوجب البعد ، ووصلة بين العبد والمولى ، يتوسّل إليه تعالى بالعبادة ، ويناجيه بقوله * ( « إِيَّاكَ نَعْبُدُ » ) * بتقديم ما يفيد الحصر ، ولعلّ قصده في التعبير بالمتكلَّم مع الغير هو : أنّه في صفّ سائر الموجودات العابدة له تعالى ، إذ اللَّه ربّ للعالمين الَّذين يعبدون ربّهم الواحد ، أو هو أنّه في صفّ سائر المصلَّين الراكعين الساجدين الَّذين أمرنا اللَّه تعالى بأن نكون معهم ، كما قال تعالى * ( « وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ » ) * « 1 » ، أو هو أنّه مع قلبه وسائر جوانحه وجوارحه بائتمامهم بإمامهم ، أي : العقل القاهر على ما عداه يعبدونه تعالى ؛ لأنّ المؤمن وحده جماعة ، كما تفطَّن له المجلسيّ الأوّل قدّس سرّه « 2 » .

وعلى أيّ تقدير : يحتاج السالك في طيّ طريق العبادة الصالحة لأن توصل العبد إلى مولاه وتجعل معقولة مشهوده إلى الإعانة ، ولمّا انحصرت الربوبيّة في اللَّه
تعالى فلا معين إلَّا هو ، ولذلك يناجي ربّه بقوله * ( « إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ » ) * بتقديم ما تقدّمه يفيد الحصر ، وحيث إنّ اللَّه سبحانه معين من استعانة فيعينه بما استدعاه ، ويهديه إلى صراط الَّذين أنعم اللَّه عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا ، فهؤلاء الَّذين هم على الصراط المستقيم – وهم المنعم عليهم – هم الَّذين يعبدون اللَّه سبحانه ويناجونه ، والمصلَّي يرى نفسه معهم ، وهم الَّذين لم يخلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا ، بل هم الَّذين خلصوا من دم الإفراط ، وروث التفريط ، ونجوا من الغضب والضلالة ، وقالوا : ربّنا اللَّه واستقاموا ، فتتنزّل عليهم الملائكة المبشّرات .

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...