مصدر النفس
نقصد من هذه الكلمة أن ننظر إلى النفس من حيث مصدرها . أو بالأصح من
حيث هي نظرة إجمالية لا تبتني على الأقيسة ومقدماتها ، بل على شئ أدل وأقوى منها
ومن الحواس والتجربة في أي شئ آخر . وذلك بإلقاء أسئلة تكمن في أعماق النفس ،
ويتطلب الجواب عنها كل من يملك الاحساس والإدراك ، وهذا طرف منها :
أين كانت الروح قبل اتصالها بالبدن ؟ وإلى أين تذهب بعد
انحلاله ؟ ومن الذي أعطاها له ، ثم سلبها منه ؟ وكيف حوت طاقات
جبارة تستوعب إدراك الكون ، وترقى بها إلى أقصى الكواكب ،
وتكتشف المجهول ، وتتذكر الماضي ، وتضع تصميم المستقبل ؟ وكيف اتصلت
بالطبيعة وانفصلت عنها في آن واحد ، إلى عشرات الأسئلة التي لا تجد لها .
جوابا ولا حلا ، إذ لم يفترض وجود خالق مدبر لهذا الكون ، قادر على
ما لا يقدر عليه أحد سواه ، تماما كما تفترض وجود كاتب لرسالة أرسلها إليك
مجهول لا تعرف هويته ، ولا شيئا عنه من قبل .
قال صدر المتألهين : ( إن الله قد جمع في الإنسان قوى العالم ، وأوجده
بعد وجود الأشياء التي جمعت فيه : ( الذي أحسن كل شئ خلقه وبدأ خلق
الإنسان من طين ) فلقد أوجد الله فيه بسائط العالم ومركباته وروحانيته
ومبدعاته ومكوناته ، فالإنسان من حيث جمع فيه قوى العالم كالمختصر من
الكتاب الذي لفظه قليل ومعناه كاف واف ، كالزبدة من المخيض ، والدهن من
السمسم ، والزيت من الزيتون . )
ونحن مع الماديين إذا استطاعوا أن يجيبوا عن هذه الأسئلة ، أو عن
واحد منها جوابا صحيحا معقولا ، دون أن يفترضوا وجود الله سبحانه ، وكيف
يفترضون وجوده وهم يتوجسون خيفة لمجرد ذكره ، لا لشئ إلا لأنه
اسم سحيق عريق في القدم يردده الإنسان مند وجد على ظهر هذه الكواكب ،
وكفى بهذا مبررا للجحود والإنكار في منطقهم .
إن جميع الحلول والتفاسير لمصدر النفس والكون لا تزودنا بنظرية
صحيحة إذا لم نفترض وجود سبب أول ينبثق عنه كل موجود ، ويرجع إليه
كل شئ ، وحيثما وجد النقص والخلل في التفسير والتعليل لمصدر النفس يوجد
التمام والكمال في هذا السبب .
واحتار بعض الباحثين في أمر النفس وواقعها ، ولم يدر ماذا يصنع ،
فقد رأى إن أرجعها إلى المادة وحتميتها المحضة ازداد الأمر غموضا وتعقيدا ،
وإن أرجعها إلى الله ناقض نفسه ، لأنه لا يؤمن بغير المادة ، على الرغم من
أنها لا تقدم الحلول ، ولا تكتفي بذاتها ، وأنها في حاجة إلى الحل والتفسير ، .
فكان من نتيجة إلحاده أن تخبط في ظلمات الشك والحيرة .
وقال آخرون : ( الخير في أن لا نفكر في نفوسنا إطلاقا تفاديا للاصطدامات ) .
أجل ، ونحن مع هذا القائل لو أن نفوسنا هي غيرنا لا تتصل بنا من
قريب أو بعيد . وهذي حال من حاد عن الحق ، يناقض نفسه بنفسه من
حيث لا يحس ولا يشعر . ولعل قائلا : إذا كان الحل لمشكلة الروح يحتم الإيمان
بوجود مبدأ أول مغاير للمادة ، فلماذا – إذن – كل هذا التطويل والقال
والقيل ؟ .
الجواب :
إن التطويل أتى من الماديين الذين افترضوا عدم وجود الخالق سلفا
دون أن يقدموا دليلا ، أو أثارة من علم ، وقد رأينا لهم – في هذا العصر –
أشياعا وأتباعا ، فاضطررنا إلى نقاشهم ورد شبهاتهم ، وبيان ما في أقوالهم من
مفاسد وأخطاء . . وإن ردودنا على الماديين وإن تكن سلبية في ظاهرها فإنها
تؤلف في واقعها دليلا إيجابيا يوقفنا على الحقيقة ، وينتقل بنا من المعلوم إلى
المجهول ، لأن الاختلاف بيننا وبين الماديين يدور بين السلب والإيجاب ، وبين
الوجود واللاوجود ، فإذا أبطلنا قول الماديين ثبت قهرا القول الثاني ، بناء
على بطلان التناقض الذي هو خير وسيلة لفصل الخصومات . إذن لا فرق بين
أن نتجه إلى مزاعم الماديين فنبطلها ، أو نتجاهلهم بالمرة ، ونثبت ما نقول
ابتداءا ، لا فرق إلا في الخطة والأسلوب ، هذا إلى ما ذكرنا من البراهين
الإيجابية على تجريد النفس وبقائها بعد فساد البدن .