الرئيسية / بحوث اسلامية / شرح رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين زين العابدين27

شرح رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين زين العابدين27

( من عرف نفسه فقد عرف ربه )
قال صاحبي وهو يتحدث إلي : ( إن أصحاب الإمام السجاد علي بن
الحسين ، أو الإمام محمد بن علي ( عليهما السلام ) سألوه : أليس الله يقول :
يا عبادي ادعوني أستجب لكم . قال : صدق الله العظيم بل هو قائل ذلك . قالوا
فما بالنا ندعوه ليل نهار فلا يستجيب لنا ؟ ؟ قال : لأنكم تدعون من لا تعرفون
قالوا : وكيف نعرفه . قال : إعرفوا نفوسكم تعرفوه ثم ادعوه يستجب لكم
قالوا : وكيف نعرف نفوسنا . قال : فكروا في أعينكم كيف تبصر ؟
وفي آذانكم كيف تسمع ؟ ثم في قلوبكم كيف تفكر ؟ ؟ فإذا عرفتم ذلك
شعرتم بعظمة الله في نفوسكم فدعوتموه فاستجاب لكم ) .

وينقل علماء الطب : أن المجهر الحديث كشف للعين ، أن تلافيف
الدماغ تشتمل على أربعة ملايين سلك من العصب ، ويقولون : لا يبعد أن
تتضاعف هذه الأسلاك بتعزيز المجهر ، لأن العلم لم يقف في صناعة المكبرات من
مجاهر ومراصد عند حد ، ففي كل جبل نرى هذه الآلات تتعزز فتأتينا بجديد
مما لم نشعر به لولا تعزيزها .

ويقول بعض آخر من علماء التشريح في الطب : إن العلم لم يثبت فرقا
بين أذني السميع والأصم ، ولا بين لساني الناطق والأبكم من حيث الظاهر ،
ذلك مما يدل على أن وراء ما تحس العين بالمجهر من عصبيهما المتصل بجمهور
الأعصاب في الدماغ المسيطر على الحواس ، اختلالا في عصب لم تتبينه مجاهر
الطب الحديث ، ولو كان عصب التلافيف محدودا بالملايين الأربعة التي نتبينها
بالمجهر لسهل الوقوف على الخلل الذي ينشأ منه الصم والبكم ، على أن البعض
يحقق أن في ألمانيا مصحات لمجموعة الرأس يطمئن الطب إلى التشريح فيها ،
ثم إلى تبين العلل القائمة في خرس الألسن وصم الأذن .

* * *
ومعجزة العين أن جوها الواصل بين الروح وبين مرئيات الوجود ، هذا
الجوهر هو عبارة عن شبكة من العروق الدقيقة تتصل تعصب الدماغ ، ثم يتصل
بها إنسان العين المسمى بالجؤجؤ : وهو كرة صغيرة الحجم قائمة في حدقة لا
يمسكها إلا محجر يفرز ماءا لزجا تندى به تلك الكرة ما دامت تعمل على
التقاط الصور المرئية التي تتكسر عليها أشعة الشمس ، ثم نرى هذه الكرة مغلفة
بغشاء شفاف يسمى قرنية ترسم عليها تلك الصور فهي من الجؤجؤ بمنزلة
اللوحة الحساسة من عدسة الفنان ، فما هي تلك الشبكة ؟ وما هو هذا الجؤجؤ
وما هي هذه القرنية ؟ ثم ما هو ذلك الماء الذي تفرزه عروق المحجر فتؤهل
القرنية لالتقاط هذه الصور ؟ ؟

إن الطب ليدهش من عظمة المواد الكيمياوية التي يتركب منها ذلك الماء
المحدق بتلك الكرة ، ويدهش أكثر لقوة هذا الماء على صقل ذلك الغلاف
الشفاف المسمى بالقرنية . ثم يدهش الطب أكثر عندما يحار في قوة ذلك الماء
لدى استحالته إلى دموع وقدرته على تضميد جراح القرنية إذ يخدشها عرض من
خارج أو يقرحها تأثر من داخل ، ويكاد يكون هذا الماء أقوى علاج لصقل
تلك اللوحة الحساسة وإعطائها مناعة لا يتوفر عليها تواطؤ الملايين من أطباء
العالم في ملايين من عصور الإنسان . فمن أين ينبع هذا الماء ؟ ؟ وما هي
المواد التي يتركب منها ؟ ؟ ثم من هو الطبيب المشرف على ذلك التركيب
الكيمياوي العجيب ؟ ؟ ؟

أما معجزة المعجزات في هذا الكائن الأعجب الذي نطلق عليه لفظ الإنسان
وهو مجهول لدينا بكل ما يتقوم به ، ثم نزعم تحليله وتعليله ، أما هذه المعجزة
فهي دماغه وقلبه .

هذا القلب الذي يتولى توزيع الدم بعد تنقيته ، على كل خلية يتقوم بها
كل عضو ، وعلى كل ذرة تتألف منها كل خلية . ثم نرى إذ نحكم التشريح
عجبا في الوسائل التي تنقي هذا الدم بين الكبد والقلب ، وتحول دون تسرب
الفاسد منه إلى النزيه ، وانكفاء النزيه إلى الفاسد
وهذا الدماغ الجبار الذي يقوم في تفكيره على حرارة ذلك الدم الصاعد
إليه من تلك الجوارح ، والذي يتقوم بأسلاك عصبية دقيقة أكثرها لا يقع تحت
مجهر العين ، وقد أنهاها بعض علماء التشريح إلى أربعة ملايين سلك ، كلها
يعمل على التقاط الأفكار من عالم الروح ، كما تلتقط أسلاك الواحي ( الراديو )
ألفاظ المذيع من عالم الأثير ؟

إن بين دماغ الإنسان وبين جهاز الواحي لشبها دقيقا يكاد يكون عبرة لمن
يؤت حظا من سعة التفكير في خلق الإنسان ، فالواحي جهاز يتقوم بأسلاك
دقيقة من الصلب تلتقط الصوت مما يتصل بتيار الجاذبية العام المسمى بالكهرباء
وهو التيار المحيط بكل جرم كوني متحرك ، والدماغ جهاز يتقوم بأسلاك
دقيقة من العصب المرهف تلتقط الأفكار مما يتصل بتيار الروح المهيمن على الكون
فكلما دقت وانتظمت أسلاك الواحي كان أقوى على أداء رسالته التي هي التقاط
الصوت ولفظه ، وكلما دقت وانتظمت أعصاب الدماغ كان أقوى على أداء
رسالته التي هي اقتباس الفكر ولفظه . وكما أن حرارة الكهرباء شرط أول في
أداء رسالة الواحي ، كذلك نجد أن حرارة الدم شرط أول في أداء رسالة الدماغ
وهكذا نجد الشبه جليا بين المهيمن على الواحي – وهو الإنسان – وبين المهيمن
على الدماغ وهو العقل .

قرأت وشيكا في الصحف أن مرصدا فلكيا في شمال أمريكا بدأ منذ أيام
يتلقى إشارات لا سلكية متزنة من كوكب الزهرة في عدة مناسبات . وقد
عكف الراصدون على تبين هذه الحركات الصوتية واكتناه جوهرها ثم قياسها
على أصواتنا .
وقرأت قبل أشهر أن بعض علماء الموسيقى يعملون على التقاط الموسيقى
الكونية الناشئة عن تموجات الأثير ، لما قر في أذهان الألباء من قادة الفكر
الحديث والقديم ، من أن كل حركة طبيعية تتصل بعظمة الكون القائم على
نظام أزلي ، يصدر عنها من فنون الموسيقى ما لا عهد لأرباب الفنون بالتحسس
منه .

والموسيقى الأثيرية ليست وقفا على السمع فقط وإنما تتجاوزها إلى العين
والفكر فهي نظام عام يستهوي السمع بصوته ، والعين بشكله ، والفكر بإيحائه
فإذا سال كان لحنا ، باعثا في السمع حنينه إلى مصدره الأزلي ، وإذا جمد كان
شكلا كاشفا للعين أن تبصر من وراء طبعها النور الذي صدرت عنه ، ثم إذا لطف
شف للعقل عما يتقوم به الكون من أسرار تلهمه أن كل ذرة في الكون تقوم على
الموسيقى فيما نسمع ونرى ونفكر .

ويقول أحد أساتذة العلوم الكونية في جامعة برلين . وقد ترجم قوله
هذا ( الدكتور أحمد زكي المصري ) في مجلة الرسالة ، يقول ما مضمونه : ( إن
عجائب ما يتقوم به الأثير المسمى بالفضاء أو الهواء ، لا تقف عند اكتشاف
الكهرباء من تجاذب الأجرام السابحة فيه ، وإنما تتجاوزه إلى أعجب من
ذلك ، وهو أن التيار الكهربائي العام يتقوم بتيار روحي يهيمن عليه في صميم
الأثير ، وهو مصدر التفكير والإلهامات ، فإذا كان التيار الكهربائي مصدر هذه
العجائب التي هي بين سمعنا وبصرنا ، فمصدر أي العجائب سيكون التيار
الروحي في مستقبل عقل الإنسان ، يوم يتحكم به كما يتحكم اليوم بتيار
الكهرباء ؟ ؟ ثم يختم هذا وهو يملي على تلاميذه بقوله : إذن صدقوا يا أبنائي
ما يرويه لنا تاريخ الأديان من أن الأنبياء والرسل كانوا يمشون على الماء
ويصعدون في الهواء ) .

ويقول ( أنشتين ) : – صاحب نظرية النسبية – : ( لا يدخل في روع
من يفكر أن الفضاء لا شئ ، فمما لا ريب فيه أن هذا الخلاء ممتلئ صلب
ولعله أصلب من الفولاذ ) .

فليعجب الإنسان لعظمة القوة في نفسه التي يخترق بها هذا الفضاء
الصلب عن طريق العين والفم والقلب بنظرته ونبراته وتفكيره ، وليعجب أكثر
من أن صلابة هذا الأثير قائمة على ما يختزنه في صميمه من قوة الفكر والصوت
والنظر الحائر فيه من كلى الروح المنبث في جزئيات هذا الكائن الإنساني الذي
يعمر الكون .

من هذا كله نصل إلى عظمة قول الله تعالى : ( سنريهم آياتنا في الآفاق
وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) . ( 1 )
يكفي هذا العرض الموجز من مبحث النفس الخارج عن مقدورنا وأفق
تفكيرنا ، إذ هو أمر عجيب رباني تعجز العقول والأفهام عن إدراك كنهه .
فإذا كانت النفس بهذا السمو والرفعة ، وقد خصها الله تعالى – تشريفا
لها – بالخطاب بقوله : ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية
مرضية ) كان الجدير أن تعصم من الرذائل المزرية بها .

ولعل العجب يأخذك إذا قلت لك إن الإنسان يظلم نفسه أكثر مما يظلم
غيره ، لأن كل إنسان يحس ويحسب أن نفسه أحب إليه من غيره ، ولا أرى
أحدا يقر بأنه عدو نفسه ، لكنك إذا تدبرت هذا الأمر قليلا تبينت لك حقيقته
من أبرز مواطن الضعف التي فطر عليها الإنسان أنه إذا غلبته شهوة من
الشهوات انقاد لها كل الانقياد ، لا يبالي بما يصاب لأجلها من الضرر في نفسه
سواء أكان يشعر بذلك أو لا يشعر .

ترى رجلا قد افتتن بالسكر يعمى في سبيله ويتحمل لأجله المضرات
الفادحة في صحته ونفسه وماله وعرضه . وترى رجلا غيره قد أولع بلذة الطعام
يأكل كل ما يجد من نافع أو غير نافع ، ويعرض نفسه للهلاك في سبيله . وترى
رجلا ثالثا صار عبدا لشهواته النفسية ، يأتي بأعمال تجره إلى الهلاك جرا .
وترى رجلا رابعا قد أهمته نجاة نفسه ، فانقطع إلى تزكيتها وترقيتها يناصب
نفسه العداء ، ويريد أن يدرس كل ما تتطلع إليه من اللذائذ والشهوات ويأبى
أن يحقق حاجاتها ، ويجتنب الزواج ، ويأنف الأكل والشراب ، ويجانف
اللباس ويبغضه ، حتى أنه لا يكاد يرضى بالتنفس في هذه الدنيا المليئة بالمآثم
في نظره ، فيأوي إلى الغابات والكهوف ، ويظن أن هذه الدنيا ما بنيت له .
هذه أمثلة قليلة لتطرف الإنسان في هذه الدنيا ، وإلا ففي حياته صور
عديدة لهذا التطرف نشاهدها بين كل آونة وأخرى .

وبما أن الشريعة الإسلامية تريد فلاح الإنسان وسعادته ، فهي تنبهه إلى
الحقيقة الثابتة . وتنبهه بأن للنفس حقا كما جاء في قول الإمام عليه السلام : ( إن
لنفسك عليك حقا ) . فهي تمنعه عن كل شئ يضره ، كالخمر والحشيش
والأفيون وغيرها من الأشياء المسكرة . وعن الميتة والدم ولحم الخنزير وغيره
من الوحوش الضارية والحيوانات النجسة . فإن لهذه الأشياء كلها تأثيرا سيئا في
صحة الإنسان وأخلاقه وقواه العقلية والروحية . وتحل له بدلا منها الأشياء
المفيدة الطيبة ، وتقول له لا تحرم نفسك من التمتع بها فإن لجسدك عليك حقا
وهي تنهاه عن العري ، وتأمره أن يتمتع بما قد أنزل الله له من الزينة في هذه
الدنيا ، ويستر من جسده الأعضاء التي يعد من الوقاحة الكشف عنها .

وهي تأمره بالجد في كسب الرزق ، وتقول له لا تقبع في بيتك عاطلا ،
ولا تمدن يدك إلى الناس مستجديا جدواهم ، ولا تلفظ نفسك جوعا ، واستخدم
ما قد أنعم الله عليك من القوى ، واسع بالطرق المشروعة لنيل ما قد خلق الله
في الأرض والسماء من الوسائل والأسباب لراحتك وتربيتك .

وهي تمنعه عن تذليل النفس وحرمانها من رغد العيش ومتعة الحياة ،
وتقول له : إنك إن كنت تريد الرقي الروحاني والتقرب إلى الله والنجاة في
الآخرة ، فلا حاجة لك ولا داعي إلى ترك الدنيا فإن ذكر الله تعالى في هذه
الدنيا ، مع التمتع بلذاتها ومنافعها ، واجتناب معصيته ، واتباع قانونه
وشريعته ، لهو أكبر وسيلة وأنجعها إلى الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة .
وهي تحرم عليه الانتحار ، وتقول له : إن هذه النفس التي قد أوتيتها
إن هي إلا ملك لله ، قد أودعها أمانة عندك ، لتستخدمها إلى أجل مسمى ، وما
أوتيتها لتعبث بها وتقضي عليها بيدك .

 

https://t.me/wilayahinfo

 

شاهد أيضاً

قيادي في الحرس الثوري: إعادة النظر في الاعتبارات النووية في حال وجود تهديدات اسرائيلية

قال قائد قوات حماية المراكز النووية التابعة للحرس الثوري العميد احمد حق طلب: إذا كانت ...