من صحيفة الروح – ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾
10 مايو,2019
صوتي ومرئي متنوع, طرائف الحكم
1,121 زيارة
ثالثاً: الدُّعاء في حركة الأنبياء عليهم السلام
يفرد لنا القرآن الكريم شواهدَ كثيرةً من حياة الأنبياء العظام عليه السلام، تنبئنا عن أهميّة الدُّعاء في حياتهم الرّسالية والشّخصية، ومن هذه النّماذج:
1- آدم عليه السلام وحواء عليها السلام:
إنّ قصّة آدم وحواء عليها السلام التي انتهت بخروجهما من جنتهما، قد بيّنها القرآن الكريم وأوضح لنا حجم الأسى الذي ركب قلبيهما لارتكابهما مخالفة الأمر الإلهي
“الإرشادي“[1]، إذ قالا: ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[2]. وهذه الآية من آيات الأدعية التي دعا بها الأنبياء عليهم السلام.
نلاحظ في هذا الدُّعاء أموراً:
– وقف النّبي آدم عليه السلام وزوجه موقفَ الالتجاء إلى الله تعالى، ولم ييئسا من زوال النعمة، بل بادرا إلى التعلّق به تعلّق العبد بالمالك، والفقير بالغني المطلق.
– الدُّعاء يبدأ بنداء الله تعالى بصفة الرَّبوبية[3], لأنَّ صفة الرُّبوبية تشتمل على كلّ ما يدفع به الشرُّ ويُـجْلب به الخير.
– ويذكر الدُّعاء أنَّ السَّبب الذي دفعهما إلى الدُّعاء والالتجاء إلى الله تعالى، هو أنَّهما استشعرا الخسران الوشيك الذي أطلّ برأسه عليهما. وهذه الحالة من الشّعور بالخسارة ناجمةٌ عن الشّعور بالنَّقص والفقر الشّديد الذي لا يمكن أن يجبرَه أحدٌ سوى الله تعالى.
– والواضح أنَّ النَّبي آدم عليه السلام وحواء يُظهران أدَباً كبيراً مع الله في توبتهما وطلبهما العفو والغفران منه تعالى, فلم يقولا “ربّنا اغفر لنا”، بل قالا: ﴿وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا﴾، وكأنَّهُ طلبٌ غيرُ مباشرٍ للمغفرة، فيه الكثيرُ من الحياءِ والخجل.
– لم يبقَ بعد الإقرار بالذَّنب، والفقرِ والنَّقص، والإذعان بالربوبيَّة لله والعبوديَّة، إلا طلب المغفرة من الذَّنب الحاصل، وكذلك الرَّحمة الجابرة لما فاتَ والتي تفتح لهما بوَّابة القرب الإلهي مجدَّداً[4].
والذي يدّقق في هذا الدُّعاء المختصر، يجد أنَّه يتضمَّن كلّ العناصر التي سبق أنْ قدَّمناها في الرُّؤية القرآنية، والتي حقَّقت الإجابة الإلهية لدعائهما، إذ قال تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾[5].
2- دعاء النبي إبراهيم عليه السلام:
يقول تعالى حكاية عن النبي إبراهيم عليه السلام: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾[6].
يعدُّ هذا الدُّعاء من الأدعية الجميلة التي نقلت عن الأنبياء عليهم السلام، وبالخصوص عن أبيهم إبراهيم عليه السلام، والذي جاء القرآن بدعائه لنا من أجل أن نتعلَّم من أدب إبراهيم عليه السلام في مخاطبة الله ودعائه.
– أوّل ما نلاحظه في هذا الدُّعاء هو الأسلوب الذي بدأ به إبراهيم عليه السلام في الدُّعاء، إذ بدأ بثناء جامع أدرج فيه عناية ربّه به، من بدء خلقه إلى أن يعود إلى ربّه، وأقام فيه نفسه مقام الفقر والحاجة كلّها، ولم يذكر لربّه إلا الغنى والجود المحض.
– ومن جملة ذلك الأدب أنَّه راعى في بيانه نسبةَ المرض إلى نفسه في قوله: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ فنسب المرض إلى نفسه، والشفاء إلى ربّه، بدعوى أنَّه لا يصدر منه إلا الجميل.
– صُدِّر الدُّعاء بالإذعان بالربوبية، وهو مفتاح نجاح كلّ دعاء كما رأينا، ثمَّ يطلب إبراهيم عليه السلام من الله تعالى أنْ يعطيه (الحكم)، والذي هو عبارة عن “الحكمة” المقترنة بالاستعداد للتنفيذ والعمل. ولا شكّ أنّ إبراهيم عليه السلام كان يتمتَّع بمقام “الحكم“، لكنّه كان يطلب المزيد, لأنَّه ليس للحكمة حدٌّ معيّن. وقد يفهم من الآية أنّ إبراهيم عليه السلام يعلم أنّ “الحكم” نعمةٌ قد يسلبها الله في أيّ وقت, ولذلك هو يؤكّد على دوامها من الله تعالى.
– ثمّ لنلاحظ ما اختاره لنفسه من الطّلبات، “إذ اختار ما هو أعظم وأفخم، فسأل الحكم وهو الشَّريعة واللحوق بالصَّالحين، وسأل لسان صدق في الآخرين، وهو أن يبعث الله بعده من يقوم بدعوته، ويروّج شريعته، وهو في الحقيقة سؤالٌ أنْ يخصّه بشريعةٍ باقيةٍ إلى يوم القيامة، ثم سأل وراثة الجنّة ومغفرة أبيه وعدم الخزي يوم القيامة“[7].
– ثمّ لنلاحظ كلمة (تخزني)، وهي مأخوذة من مادّة (خزي) والذي “معناه الذلّ والانكسار الروحي الذي يظهر على
وجه الإنسان من الحياء المفرط“[8]، أو من جهة الآخرين حين يحرجونه ويخجلونه. وهذا التعبير من إبراهيم عليه السلام، بالإضافة إلى أنَّه درسٌ للآخرين، هو دليلٌ على منتهى الإحساس بالمسؤولية والاعتماد على لطف الله العظيم[9].
مفاهيم رئيسة
1- يعرَّف الدُّعاء في اللغة بكون الدَّاعي على حالةِ “أن تَميل الشيءَ إليك بصوتٍ وكلام يكون منك”.
2- يعرّف الدُّعاء في الاصطلاح بأنّه عبارة عن توجيه نظر المدعوّ إلى الدَّاعي، ويتأتَّى غالباً بلفظٍ أو إشارة.
3- تتلخّص النظرة القرآنية للدعاء بأنّه عبارة عن: “قيام الدَّاعي بنصب نفسه في مقام العبودية والمملكوية، والاتّصال بمولاه بالتَّبعية والذلّ، ليعطفه بمولويته وربوبيته إلى نفسه”.
4- تتشكّل الرؤية القرآنية للدعاء بعدد من المقدّمات أهمّها:
– يعيش الإنسان مملوكيةً كاملةً لله تعالى، فالإنسان ما دام إنساناً فإنَّه يحمل في جبلّته الفقر الذَّاتي إلى الله تعالى، وهو معنى العبودية الحقيقية لله تعالى.
– إنّ ملك الله تعالى لعباده ملكٌ حقيقي، وكونهم عبادَه موجبٌ لكونه تعالى قريباً منهم، وهذا يقضي أنَّ لله سبحانه أنْ يُجيب أيّ دعاءٍ دعا به أحدٌ من خلقه.
– الدُّعاء مشروط بأن يكون الدَّاعي صادقاً صدقاً قلبيا ولفظيا.
– الدُّعاء هو العبادة، والعبادة هي الدُّعاء، وبالتالي يعد الدُّعاء ميزاناً حقيقياً لقياس عبودية الإنسان لله تعالى، فالإنسان الذي يأتي بالدُّعاء على وجهه وشروطه وتتحقّق له الاستجابة هو إنسانٌ بلغ في العبودية مداها الأوسع.
5- نجد في القرآن الكريم نماذج جميلة من أدعية الأنبياء، كالدعاء الذي دعا به النبي آدم عليه السلام وحواء عليه السلام بعد إخراجهما من جنّتهما، ودعاء ابراهيم عليه السلام.
للمطالعة
الدعاء، طلب عون الخالق في العمل والبناء
لا يظنّنّ أحد أنْ لا دور للدعاء والمناجاة في حياة الشعب الذي يعيش نهضة إعمار! على العكس، إنّ شعباً يختار طريقاً صعباً، ويريد أن ينجز عملاً جبّاراً، عليه أن يفتح ـ إلى جانب العمل والجهد والسعي ـ باباً واسعاً للدعاء والإقبال على الله وطلب العون منه. عندما تنظرون إلى تاريخ الإسلام، ترون أنّ المعصومين عليهم السلام، ومنهم النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام، كانوا يرفعون أيديهم بالدعاء والتوسّل في ساحات الحرب، وفي الشدائد وعظائم الأمور. لا يحقّ لأحد أن يقول: إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في صدر الإسلام لم يعملوا أو يكدّوا، فليس هناك جهد أكبر ممّا بذلوه. لقد كانت تلك السنوات العشر التي كان الرسول فيها حاكماً للمجتمع الإسلامي، سنواتٍ ملؤها العمل والكدّ، ولكن في الوقت نفسه، إلى جانب العمل والكدّ، كان لدعاء ربّ العالمين والتضرّع والإنابة إليه واستغفاره والطلب منه والسؤال مكانة خاصّة. إذا أراد شعبٌ أن يكون موفّقاً في الطريق الذي يسلكه، فعليه إصلاح علاقته مع الله، وإذا أراد إنجاز أعمالٍ عظيمة، يجب أن يطلب المدد من الله. وإذا أراد الإنسان إزالة خوف الأعداء من قلبه، فعليه التخلّص من خوفه من القوى العظمى, فإنّ سبب تعاسة الشعوب خوفها من الأقوياء والمتعنّتين والسفّاحين الدوليّين…
إذا أراد الإنسان أن لا يخاف من القوى العظمى، فعليه أن يخاف الله. إنّ قلباً تملؤه مخافة الله ومحبّته، ويملؤه الإقبال على ربّه، سوف لن يخاف من أيّ قوة, ففائدة الدعاء هي هذه. إنّ السرّ الأكبر لنجاح إمامنا الخمينيّ العظيم ـ الذي كان كما رأيتم، واقفاً ثابتاً كالجبل ـ هو صموده تحديداً, وهو ما حصل عليه من خلال علاقته بالله تعالى, هذه هي فائدة العلاقة مع الله[1].
[1] الإمام القائد الخامنئي دام ظله، لقاء مع مختلف الفئات الشعبية من مختلف المدن، 18/5/1994.
2019-05-10