مواعظ شافية

4-  برّ الوالدين


يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه:

﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا1

 

1- سورة الإسراء، الآيتان: 23 24.

 

تمهيد

 

يقول أمير المؤمنين عليه السلام في إحدى خُطبه: “فما خُلقتُ ليشغلني أكلُ الطيّبات كالبهيمة المربوطة همُّها علفُها، أو المرسلة شغلها تقمّمها تكترش من أعلافها وتلهو عمَّا يُراد بها”2 وهو الذبح.

 

إنَّ الله تعالى لم يخلق السماوات والأرض عبثاً ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ3، وكذلك الإنسان، بمعنى أنَّ هذا الإنسان غير متروك ليحيا حياته بطريقة عبثيّة، بل هو مسؤول ويُسأل عن أفعاله.

 

يقول تعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ4. كلّ الناس مسؤولون عن أفعالهم، نعم، هناك استثناءات كالصبيّ والصبيّة غير المكلَّفين، والمجنون. أمّا الكلام هنا فعمّن تتوفّر فيهم الصفات الّتي حدّدها الإسلام للإنسان المسؤول؛ البالغ العاقل، الّذي وقع عليه قول ربّ العزّة سبحانه وتعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ* عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ5، أي عن عملهم بالتكاليف الإلهيّة، و﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ

 

2- نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج 3، كتاب رقم 45،ص 72.

3- سورة الأنبياء، الآية: 16.

4- سورة الصافات، الآية: 24.

5- سورة الحجر، الآيتان: 92 93.

وُسْعَهَا6 و﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ7.

 

وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: “كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيَّته”8. فالأمير على الناس راعٍ وهو مسؤول عن رعيّته. وربّ الأسرة راعٍ ومسؤول عن أهل بيته. والمرأة راعية أولادها، وهي مسؤولة عنهم، وهكذا كلّ منّا مسؤول بحسب موقعه من هذه الحياة.

 

وفي كلام آخر لأمير المؤمنين عليه السلام: “اتقوا الله في بلاده وعباده، فإنَّكم مسؤولون عن البقاع والبهائم”9. وهذا ما نسمّيه اليوم: الثروات الطبيعيّة والحيوانيّة.

 

ومسؤوليّة الإنسان متعدّدة الاتجاهات: فهناك مسؤوليّات تجاه نفسه وبدنه وحاجاته الجسديّة، وتجاه روحه وحاجاته الروحيّة والنفسيّة. وهناك مسؤوليّة تجاه عائلته والأقرباء، وأهل قريته ووطنه، ومسؤوليّة تجاه البشريّة. وهناك مسؤوليّة تجاه الدِّين والقيَم.. ويجب أن يتحمّل الإنسان مسؤوليّته بقدر ما يستطيع، لأنّ الله لا يُكلّف نفساً إلّا وسعها، أي لا يأمرها بشيء إلّا دون طاقتها وإمكاناتها وقدرتها على الامتثال، وهذا من لطف الله تعالى على العباد.

 

مسؤلية الإنسان:

 

1ـ أن يعرف الإنسان تكليفه والمسؤوليّات الملقاة على عاتقه.

2ـ أن يعرف شكل وروح المسؤوليّة ليبادر ويعمل ويتحمَّل ويجاهد في تحمّلها.

3ـ أن يعمل ما تقتضيه هذه المسؤوليّة، حتّى إذا سُئل يوم القيامة تكون أجوبته كفيلة بأن تُدخله الجنّة، يقول سبحانه: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾10.

6- سورة البقرة، الآية: 286.

7- سورة البقرة، الآية: 185.

8- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 72، ص 38.

9- نهج البلاغة، ج 2، خطبة رقم 167، ص 80.

10- سورة آل عمران، الآية: 185.

 

المسؤوليّة تجاه العائلة

 

أمّا موضوع حديثنا فهو المسؤوليّة تجاه العائلة. وهذا الموضوع ينبع من باب الحاجة إلى التوجيه النبويِّ الرساليّ، نتيجة ابتعاد مجتمعاتنا عن القيم الدينيّة والإلهيّة، ونتيجة تطوّر عالم الاتصالات وغزو التقاليد الغربيّة لمجتمعاتنا وتقاليدنا، فالوارد إلينا خطِر ومدمّر، وإن لم نكن على جهوزيّة للتصدّي له أو لم تكن لدينا المناعة المستمدّة من روح الدين والعلاقة مع الله تعالى، فإنّ السقوط في وادي الجهالة والضلالة حتميّ ومؤكّد إلا من رحم ربّي.

تتضمّن العائلة أو الأسرة، الّتي يسمّيها الإسلام بالحلقة الأضيق، الأب والأمّ والزوجة والأولاد. وهناك شبهة عند الناس في هذا الموضوع، فهم يفترضون أنّ الحلقة الأضيق هي الزوجة والأولاد. وبعضهم يفترض أنّهم عندما يستقلّون في حياتهم، فالوالد والوالدة أصبحا خارج الدائرة الأضيق، وهذا فهم خاطئ.

 

نأتي إلى النظرة الإسلاميّة في الموضوع الاجتماعيّ، إن على صعيد الفرد أو على صعيد العائلة، فرؤية الإسلام ترتكز إليهما بلحاظ:

 

1ـ أنّ الفرد هو أصل المجتمع، لذلك نجد كلّ تعاليم الإسلام وتشريعاته، وتعاليم الأنبياء عليهم السلام ، كلّها تركّز على تربيته وتنشئته.

 

2ـ أنّ العائلة هي في نظر رسالات السماء أساس تكوين أيّ مجتمع إنسانيّ، وفي أيّ مدينة أو أيّ وطن، أمّا في حالة أفراد مفكّكين، فيفقد المجتمع البشريّ طبيعته وينتج بدلاً عنه مجتمع منحرف لا يستطيع الاستمرار والبقاء.

 

فالعائلة، ولو في إطارها الضيّق، عندما تكون متعاونة متراحمة، فهي تشكّل خلايا البيئة الاجتماعيّة السويّة، وهذا ينعكس على المجتمع كلّه.

 

من هنا تأتي التعاليم والرسالات لتؤكِّد على الزواج، الّذي هو مستحبّ، بل واجب في بعض الأحيان. الإسلام يتحدّث عن انتقاء الزوج والزوجة، وتسهيلات الزواج،

 

 وتقديمات الزواج، والحفاظ على الأسرة وبقائها، وتوزيع المسؤوليّات داخل الأسرة، كما يذكر تعقيدات موضوع الطلاق.

 

أزمة العائلة في الغرب

 

ابتلاءاتنا في المجتمع، هي فيما يأتينا من الغرب؛ ففي الغرب هناك مأساة على المستوى النفسيّ، برغم التطوّر العلميّ الهائل، وسنشهد خلال السنوات المقبلة، أزمات حادّة جدّاً في هذه الدول. إنّ ما نقرؤه من تقارير ودراسات حول مجتمعاتهم، والّذي يعكسونه في الأفلام السينمائية الّتي يصدّرونها إلى العالم العربيّ والإسلاميّ، كلّه يتحدّث عن تفكّك الأسرة، وارتفاع هائل في نسبة العزوبيّة. فلا توجد أسرة وعائلة طالما يظنّ الرجل والمرأة أنّهما يستطيعان تلبية حاجاتهما الجسديّة خارج إطار الأسرة، نتيجة الإباحيّة الّتي تنتشر في تلك المجتمعات. وهناك ارتفاع في نسبة الطلاق، ونسبة المولودين خارج الزواج الشرعيّ، حتّى خارج الزواج المدنيّ المتداول عندهم. وهذا ما يؤدّي إلى آثار روحيّة واجتماعيّة وأمنيّة سيّئة جدّاً.

 

هناك، عندما يكبر الوالدان، لا يسأل الأولاد عنهما، وإن سألوا يرمونهما في دور العجزة، وعندما يموتان تتكفّل البلديّة بدفنهما، وهذا ما يُريدون نقله إلى مجتمعنا!

 

وإذا دخلنا إلى الدائرة الأضيق (الأسرة) عندنا، ومن خلال بعض التوجيهات النبويّة والإسلاميّة، يمكن تجزئة هذه الدائرة الصغرى إلى ثلاثة أجزاء:

  • الزوج والزوجة.

  • الوالدان.

  • الأولاد.

 

الوالدان والعناية الإلهيّة

 

وسيقتصر حديثنا عن الوالدين اللّذين نالا عناية إلهيّة خاصّة؛ يقول الله عزّ

 

 

 وجلّ: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا11.

 

إنّ الله تعالى، انتقل وبشكل مباشر من الدعوة إلى عبادته وحده وعدم الشرك به إلى الأمر بالإحسان للوالدين، وهذا ما نراه متكرّراً قبل وفي كلّ آية ذكر فيها البرّ بالوالدين، وذلك لنرى المرتبة العظيمة لهما، فالبِرّ بالوالدين يرقى إلى مستوى توحيد الله سبحانه، ويضاف إلى هذا الفهم في إدراك أهميّة العلاقة بالوالدين أمور عديدة أيضاً منها:

 

1- الإرشاد والتوجيه الإلهيّ

 

إنّ الإرشاد والتوجيه الإلهيّ للإحسان بالوالدين، له مساحته الإنسانيّة، فلا يُشترط في الوالدين أن يكونا مسلمَين، حتّى إن كانا مشركَيْن فالمسؤوليّة لا تسقط؛ البِرّ والإحسان فرض واجب على كلّ مؤمن تجاه أبويه مؤمنين كانا أم مشركين من نفس المذهب أم من غيره، ملتزمين أم لا، من نفس الانتماء السياسيّ أو مخالفَين. فلا تجوز مقاطعة الأبوين على أيّ حال، حتّى ولو كانا مرتكبَين لذنب يوجب الخلود في النار ألا وهو الشرك بالله تعالى، يقول سبحانه: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا12.

 

روي عن معمّر بن خلاد قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: أدعو لوالدي إذا كانا لا يعرفان الحقّ؟ قال: “ادعُ لهما وتصدّق عنهما، وإن كانا حيّين لا يعرفان الحقّ فدارهما، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنّ الله بعثني بالرحمة لا بالعقوق”13.

 

11- سورة الإسراء، الآيتان: 23 24.

12- سورة لقمان، الآية: 15.

13- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص159.

2– مسؤوليّة حتّى آخر العمر

 

لا بدّ من التأكيد على المسؤوليّة تجاه الوالدين، وبالأخصّ عندما يعجزان وتنطوي سِنيّ شبابهما. فعندما يكبران في السنِّ تصبح المسؤوليّة أكبر، بل إنّ استمراريّة هذه المسؤوليّة تتأكّد حتّى بعد وفاتهما، من خلال التصدّق عنهما بالمال وإهدائهما ثواب العمل الصالح، أو على الأقلّ بالدعاء لهما بالرحمة، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا14.

 

جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: أوصني، يا رسول الله.

 

فمن جملة الوصيّة قال له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: “ووالديك فأطعهما وبِرَّهما حيَّيْن كانا أو ميتين”15.

 

وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: “ما يمنع الرجل منكم أن يبرَّ والديه حيَّيْن وميتين، يصلّي عنهما، ويتصدّق ويصوم ويحجّ عنهما، فيكون الّذي صنع لهما، وله مثل ذلك فيزيده الله ببرّه وصلته أجراً كثيراً”16. فالأب والأمّ هما نعمة، حيَّيْن أو ميّتيْن.

 

3- حقّ أمّك وحقّ أبيك

 

لقد أكّد الدِّين الإسلاميّ على مقام الوالدين، خصوصاً الأمّ الّتي أُعطيت مكانة مميّزة. فعن الإمام زين العابدين عليه السلام ، في رسالة الحقوق: “أمّا حقُّ أبيك فأن تعلم أنّه أصلك، وأنّك لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك ممّا يعجبك، فاعلم أنّ أباك أصلُ النعمة عليك فيه، فاحمد الله واشكره على ذلك، ولا قوّة إلّا بالله”.

 

“أمّا حقّ أُمّك فأن تعلم أنّها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يُعطي أحد أحداً، ووقتْك بجميع جوارحها ولم تُبالِ أن تجوع

 

14- سورة الإسراء، الآية:24.

15- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 158.

16- م. ن، ص 159.

.
وتُطعمك وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتضحى وتُظللك، وتهجر النوم لأجلك، ووقتك الحرّ والبرد لتكون لها، وأنّك لا تطيق شكرها إلّا بعون الله وتوفيقه”17. وقد روي ما مضمونه أنّ شخصاً حمل والدته على كتفيه وراح يطوف بها الكعبة، وعندما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأله: هل أدَّيت حقَّها، يا رسول الله؟

 

فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “لا ولا بزفرة واحدة”18، ويقصد بالزفرة الواحدة الوجعة الواحدة، أو الطلقة الواحدة ، الّتي تغشى الأمّ حين الولادة والوضع.

 

ومن الأحاديث المعروفة في حقّ الأمّ: “الجنّة تحت أقدام الأمهات..”19. و “أُمُّك ثمّ أُمُّك، ثمّ أبوك”20.

 

كما ورد أنّه جاء عن النبيّ موسى بن عمران عليه السلام: قال: “يا ربّ، أوصني. قال: أُوصيك بأُمِّك. قال: أوصني. قال: أُوصيك بأُمِّك. قال: أوصني. قال: أُوصيك بأُمِّك. قال: أوصني. قال: أُوصيك بأبيك”21.

 

وسأل أحدهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن حقّ الوالدين على ولدهما فقال صلى الله عليه وآله وسلم: “هما جنَّتُك ونارُك”22.

 

كيفيّة برّ الوالدين

 

تأسيساً على هذا الفهم على مستوى الآيات والروايات، نخلص إلى أنَّ ما هو مطلوب من الأبناء تجاه الوالدين أمور عديدة أهمّها:

 

1ـ الحدّ الأدنى عدم إيذائهما وهذا أضعف الإيمان. ﴿َلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ﴾23. ولو

 

17- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 453.

18- شرح رسالة الحقوق، حسن القبانجي، ص 547.

19- جامع أحاديث الشيعة، السيد البروجردي، ج 21، ص 428.

20- بحار الأنوار، المجلسي، ج 71، ص 49.

21- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 601.

22- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 4، ص 3674.

23- سورة الإسراء، الآية: 23.

 

 أنَّ الله وجد في الوقائع واللغة، أخفّ من كلمة ﴿أُفٍّ﴾ لاستخدمها في الآية.﴿ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا24: لا ترفع صوتك فوق صوتهما. لا تنظر إليهما نظر ماقت؛ ففي الحديث عن الصادق عليه السلام: “من نظر إلى أبويه نظرة ماقت لهما وهما ظالمان له لم يقبل الله له صلاة”25.

 

2ـ إطاعتهما وعدم معصيتهما في شيء إلا إذا كان تركاً لواجب أو فعلاً لحرام؛ فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولو كان هذا المخلوق أمّاً أو أباً. أمّا موضوع الجهاد وهذا موضوع كبير وخطير فالجهاد الواجب لا يحتاج إلى إذن الوالدين، ومع ذلك فللوالدين مكانة عظيمة عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد ورد أنّه قد جاء أحدهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: إنّي رجل شابٌ نشيط وأحبّ الجهاد ولي والدةٌ تكره ذلك. فماذا أفعل، يا رسول الله؟

فأجابه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “ارجع فكن مع والدتك، فوالّذي بعثني بالحقِّ، لأنسُها بك ليلةً خير من جهادك في سبيل الله سنة”26.

طبعاً هذا بالنسبة للجهاد المستحبّ، ولا يتعلّق بالجهاد الواجب عيناً.

 

3ـ الشكر والدعاء والاستغفار لهما.

 

4ـ احترامهما والإحسان إليهما: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾27, كتقبيل يَدَيهما إذ هي من العادات الطيّبة. روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: “إيّاك وعقوق الوالدين، فإنّ ريح الجنّة توجد من مسيرة ألف عام”28. لكنّ العاقّ لوالديه لا يشمّ هذه الريح الطيّبة، فهو بعيد عن الجنّة مسيرة ألف عام.

 

يقول الحديث الشريف: “برُّوا آباءكم يبرُّكم أبناؤكم”29.

 

24- سورة الإسراء، الآية: 23.

25- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 21، ص 501.

26- الكافي، الكليني، ج 2، ص 163.

27- سورة البقرة، الآية: 83.

28- الكافي، الكليني، ج 22.

29- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 364.

للمطالعة

قصّة بقرة بني إسرائيل

 

في تفسير العياشي: عن البزنطي قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: “إنّ رجلاً من بني إسرائيل قتل قرابة له ثمّ أخذه وطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ثمّ جاء يطلب بدمه فقالوا لموسى إنّ سبط آل فلان قتلوا فلاناً فأخبرنا من قتله قال: إيتوني ببقرة ﴿قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ30 ولو أنّهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم، ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم ﴿قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ31 يعني لا صغيرة ولا كبيرة، ولو أنّهم عمدوا إلى أيّ بقرة أجزأتهم ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم ﴿قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ32 ولو أنّهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم ﴿قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ* قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ33

 

فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل، فقال: لا أبيع إلا بملء مسك34 ذهباً فجاؤوا إلى موسى عليه السلام ، وقالوا له ذلك، فقال اشتروها فاشتروها، وجاؤوا بها فأمر بذبحها ثمّ أمر أن يضربوا الميت بذنبها، فلمّا فعلوا ذلك حيي المقتول، وقال: يا رسول الله إنّ ابن عمّي قتلني دون من يدّعي عليه قتلي، فعلموا بذلك قاتله فقال لرسول الله موسى بعض أصحابه: إنّ هذه البقرة لها نبأ، فقال موسى: ما هو؟

 

30- سورة البقرة، الآية: 67.

31- سورة البقرة، الآية: 68.

32- سورة البقرة، الآية: 69.

33- سورة البقرة، الآيتان: 70 71.

34- المسك: يعني الجلد، ومسك البقرة يعني جلدها.


قالوا إنّ فتى من بني إسرائيل كان بارّاً بأبيه، وإنّه اشترى بيعا، فجاؤوا إلى أبيه والأقاليد (مقاليد) تحت رأسه فكره أن يوقظه فترك ذلك البيع، فاستيقظ أبوه، فأخبره، فقال له: أحسنت هذه البقرة هي لك عوض لما فاتك، قال: فقال له رسول الله موسى: “انظر إلى البرّ ما بلغ بأهله”35.

 

35- تفسير الميزان، ج1، ص204

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...