الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / 4 جدال في شهر العسل – السيد حسين الحيدري

4 جدال في شهر العسل – السيد حسين الحيدري

الفصل الثالث

تنتبه هدى على صوت أذان الفجر، فتنادي علياً وتوقظه، فيقومان معاً لأداء فريضة الصبح، وبعد السلام آخر الصلاة مباشرةً، طلبتْ مِنْ زوجها إكمالَ موضوعِ ليلةِ أمس، لكنّ علياً اعتذر منها وأخبرها بأنّ هذا الوقت حتى بزوغ الشمس، هو للدعاء والمناجاة وتلاوة القرآن، وإنّ لدينا أوقاتاً كافيةً للحديث فيها عما نشاء.

استسلمتْ هدى لرغبةِ زوجها، وجلستْ قريبةً منه تصغي إليه وهو يتلو دعاء الصباح: (اللهم يا مَنْ دَلعَ لِسانَ الصباحِ بنطقِ تبلجهِ، وسرَّحَ قِطعَ الليلِ المُظلمِ بغياهبِ تـَلجْلجِهِ ….)  فاستمعتْ لكلماتهِ الرائعات، واستمتعتْ بعباراتهِ الجميلات، حتى اغرورقتْ عيناها بالدموع الهاطلات، وهي تتابعُ فقراتِهِ العجيبات، التي تشبَهُ في سياقها ونظمها آياتِ القرآن الكريمات، فهزَّتْ وجدانها ونوّرتْ روحَها ولامستْ فِطرتها، ثمّ رتَلَ سورةَ يس وكانتْ تُردِّدُ معه آياتِها، وتنشُجُ معه نشيجاً خفيّاً كلما مرّ بآياتِ الوعدِ والوعيد أو الجنةِ والنار، وعند اقترابِ شروقِ الشمس، سجدَ سجدتي الشكر فأطالَ فيهما.

لمّا جلس التفتَ إليها بوجهٍ مستبشرٍ باسم، بادَرَتـْهُ هدى تسأله عن هذا الدعاء اللطيف العجيب الغريب، الذي لم تسمعْ مثلهُ طولَ حياتِها، فأخبرَها بأنَّهُ دُعاءُ الصباحِ لأمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام.

هدى: كرم الله وجهه، ما أعذبه في ألفاظه ومعانيه، وكأنِّي أستمعُ لآياتِ القرآن.

علي: إنه تلميذُ القرآن الأوّل وربيبُهُ، وعنه أخذ كثيرٌ من الصحابة تفسيرَهُ، فلا عَجَبَ إذا اقتبس مِنَ القرآن أدعيته.

هدى: صحيحٌ، والآن نرجعُ للأسئلةِ التي تدورُ في ذهني.

علي: تفضَّلي يا عزيزتي، هل نُكمِلُ بحثَ أمس؟

هدى: رغمَ أنّ موضوعَ افتراقِ الأمّةِ مُهمٌ جداً وأخافني كثيراً، إلا أنّني لاحظتُك خِلالَ صلواتِك، تأتي بأفعالٍ تختلفُ عن باقي المسلمين، في أمورٍ تتعلقُ بالصلوة.

علي: أتقصدينَ فِرَقَ المسلمين المختلفة فيما بينها؟

هدى: (تبتسمُ وتتذكـَّر ما جرى بينهما بالأمس مِنْ حوار، حول اختلاف فِرق المسلمين) عفواً لا أقصد ذلك، بل أسألك عن دليلِكم فيما تأتونه مِنْ أفعال.

علي: أحسنتِ، فالأحرى السؤالَ في كلِّ عملٍ نأتيه، أينَ هذا في كتاب اللهِ أو السنةِ؟

هدى: نِعْمَت الفكرة، ولكنْ لو أمكنكَ أنْ تنقلَ السنةَ النبوية الموجودة في كتبنا، كي تكونَ حُجّةً عليَّ لا أنكرُها ولا أردُّها.

علي: طلبُك هذا هو مِنْ حقِّكِ، لأنّ كتبَنا ليستْ حجةً عليكِ.

هدى: أعتذرُ منك لِصراحتي وأشكرُك كثيراً لِرحابة صدرك، لقد رأيتـُكَ بالأمس وقد جمعتَ بينَ صلاتَي الظهر والعصر، وكذلك بينَ المغربِ والعِشاء.

علي: وماذا فيه؟

هدى: أليسَ اللهُ يقول: (إنّ الصلاةَ كانتْ على المؤمنين كتاباً موقوتاً)؟

علي: صحيح.

هدى: ثمّ أليستْ الصلواتُ المفروضاتُ علينا في كلِّ يومٍ خمسة؟

علي: وهذا صحيحٌ أيضاً.

هدى: فلماذا جمعتَ بين الصلواتِ؟

علي: وهل ذكرتْ آية (إنّ الصلاةَ كانتْ على المؤمنين كتاباً موقوتاً) بأنّ أوقاتَها خمسُ أوقاتٍ في اليوم؟

هدى: كلا.

علي: وهل توجدُ آية تقولُ: صلوا الصلواتِ الخمس في خمسةِ أوقات؟

هدى: لا أعلم، ولكنْ دَعْنِي أعيدُ عليكَ نفسَ هذا السؤالِ ولنْ تجيبَ عليه أيضاً، فهل توجدُ آيةٌ تقولُ: صلوا الصلواتِ الخمس في ثلاثةِ أوقات؟

علي: نعم توجد.

هدى: (يُصيبُها الذهول مِنْ جوابهِ) عجيبٌ، فأنا أختمُ القرآنَ في السنةِ عِدّةَ مَرّاتٍ، ولكنْ لا أتذكَّرُ وجودَ هكذا آية، فهلا تلوتَها عليَّ؟

علي: هناك آيتانِ تـُشيرانِ لأوقاتِ الصلوات، وقد ذكرتا ثلاثةَ أوقاتٍ وليستْ خمسة.

هدى: أحقاً ما تقوله يا علي؟ اُذكرْهُما لي مِنْ فضلِكَ.

علي: الأولى: (أقِمْ الصلاةَ لِدُلوكِ الشمسِ إلى غَسَقِ الليلِ وقرآنَ الفجرِ إنّ قرآنَ الفجرِ كانَ مسئولا)، والثانية: (أقِمْ الصلاةَ طرَفيْ النهار وزُلفاً مِنَ الليلِ إنّ الحسناتِ يُذهبنَ السيئاتِ).

هدى: أوضحْ لي الأوقات الثلاثة فيهما.

علي: في الأولى: ذكرتْ 1 – دلوك الشمس 2 – غسق الليل 3 – قرآن الفجر.

وفي الثانية: ذكرتْ 1 – و 2 ــ طرفي النهار (وهما وقتان) 3 ــ زُلفاً مِنَ الليل (وهو وقتٌ ثالثٌ).

هدى: (تُدقـِّقُ في الحساب مرّةً وثانيةً وثالثةً ورابعة) رُبّما يبدو مِنْ ظاهر هاتين الآيتين، أنّ أوقاتَ الصلواتِ هي ثلاثةٌ كما تفضّلتَ، ولكنا لا نُعَوِّلُ على فهْمِنا لهما، فيجب أنْ ننظرَ لِما يقوله المفسرون عنهما.

علي: هلْ ظاهرُ القرآنِ حُجّةٌ علينا أم لا؟

هدى: نعم الظاهرُ هو حُجّة، إلا إذا كان التفسيرُ لهما بالمأثور يُخَالِفُ ظاهرَهما.

علي: أحسنتِ، فظاهرُ القرآنِ حُجّة، وقد بَيّنتْ هذه الآياتُ أنّ أوقاتَها ثلاثةٌ، يبقى أنْ نراجع علماءَ التفسير فيهما.

هدى: علماءُ التفسيرِ مِنْ أهلِ السنة؟

علي: نعم، علماء التفسير عندكم كما اتفقنا، وقد فسّروها بثلاثةِ أوقاتٍ أيضاً.

هدى: ومَنْ مِنْهم فسّرَها بثلاثةِ أوقات؟

علي: أما الآية الأولى:

فأولا: تفسيرُ الجلالين (المحلي والسيوطي) ص180 طبع مصر سنة 1370 هـ قالا: [(أقم الصلاة طرفي النهار): الغداة والعشي، أي الصبح والظهر والعصر، (وزُلـَفاً) جمع زُلفة أيْ طائفة (من الليل) أي المغرب والعشاء].

ثانياً: يقولُ الفخرُ الرازي في تفسير الآية: (كثرتْ المذاهب في تفسير (طرفي النهار) والأقربُ أنّ الصلاةَ التي تُقام في طرفي النهار هي الفجرُ والعصرُ، وذلك لأنّ أحدَ طرفي النهار هو طلوع الشمس، والطرفُ الثاني لا يجوز أنْ يكونَ صلاة المغرب، لأنها داخلة تحتَ قولِهِ: (زُلفاً من الليل) فوجبَ حَمْلُ الثاني على صلاة العصر)، تفسير مفاتيح الغيب ج5 ص95.

هدى: ولكنْ أينَ صلاة الظهر وصلاة العشاء؟

علي: لقد صرّحَ الرازي ص96 بدخولِ المغربِ والعشاءِ تحتَ قولِهِ تعالى (وزُلفاً مِنَ الليل)، فأصبحَ لدينا وقتان: صلاة الصبح وصلاتي المغرب والعشاء، ويبقى الوقتُ الثالث وهو لصلاتي الظهر والعصر.

هدى: ولكنه ذكرَ صلاةَ العصرِ ولم يذكرْ الظهرَ؟

علي: لو رجعنا إلى تفسير الفخر الرازي لوجدناه فسّرَ آخر الآية (إنّ الحسناتِ يُذهبْنَ السيئاتِ) برواية عن ابن عباس قال فيها: والمعنى أنّ الصلواتِ الخمس كفاراتٌ لِسائر الذنوب، وهو صريحٌ بأنّ الصلوات الخمس داخلة في هذه الآية الكريمة، ولمّا ذكرَ وقتاً لِصلاةِ الصبحِ ووقتاً لصلاتي المغربِ والعشاءِ ووقتاً لصلاةِ العصرِ، فقد بَقِيَتْ صلاة الظهر، فأينَ يجبُ أنْ تكون في نظركِ؟

هدى: لابُدّ أنْ تكونَ الظهرُ معَ العصر، لِعدَم إمكان دخولها في صلاة الصبح، ولا في صلاتي المغرب والعشاء.

علي: أحسنتِ، فهنا توجد عدة احتمالات، إمّا قد نسي ذكرها هو، أو سقطتْ من النسّاخ، أو سقطتْ عِندَ الطباعة.

وأما الآية الثانية: (أقِمْ الصلاةَ لِدُلوكِ الشمسِ): فيقولُ الزرقانيُّ في شرحه على الموطأ ص29: (هذه الآية إحدى الآيات التي جمعتْ الصلواتِ الخمس، فدُلوكُ الشمسِ إشارةً للظهرين، وغَسَقُ الليلِ للعشائين، وقرآنُ الفجرِ إلى الصبح)، إذن فالقرآنُ قد ذكرَ ثلاثةَ أوقاتٍ للصلواتِ اليوميّة.

هدى: ما نقلتَه عنهم في كون الأوقات ثلاثة صحيحٌ، ولكنْ لا يُوجَدُ تصريحٌ منهم على جواز الجمع بين صلاتي الظهر والعصر والمغرب والعشاء.

علي: إذا كانتْ الأوقاتُ ثلاثةً، فمعناه منطقياً هو جواز الجمع بينها، ورغم ذلك فإليكِ تصريحُهم بجواز الجمع، يقولُ الفخرُ الرازي ج5 ص422 في تفسير (أقم الصلاة لدلوك الشمس): (وهذا يقتضي أنْ يكونَ الزوالُ وقتاً للظهر والعصر، فيكونُ هذا الوقتُ مشتركاً بين هاتين الصلاتين، فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء).

هدى: (يثير كلامُ الرازي استغرابَها الشديد) إنّه لأمرٌ محيّرٌ للعقولِ، فإذا كان القرآنُ يَدُلُّ على الجمع، فلماذا لا يفتون بجوازه؟

علي: قد تستغربين أكثر إذا سَمِعْتِ تعليلَ الرازي، في السبب لِعَدم جواز الجمع، رغمَ أنّ القرآن يدلُّ عليه، حيثُ يقول الرازي: (لأنّ السنة النبوية دلَّتْ على عدم جواز الجمع بين الصلاتين).

هدى: كلامه هذا ليس صحيحاً بل غيرُ معقولٍ أبداً، كيفَ تكونُ السنة مخالفةً للقرآن؟

علي: صدقتِ يا عزيزتي، فالنبيُّ جاءَ ليُفسِّرَ ويبيّنَ آياتِ القرآنِ لا لِيُخالِفها، قال تعالى: (وأنزلنا الذكرَ لِتـُبَيِّنَ للناس ما نُزِّلَ إليهم) النحل: 44، فكيف يزعمُ بأنّ القرآنَ يدلُّ على شيءٍ والسُنة تدلُّ على خِلافِهِ؟

هدى: ورغم ذلك أقول: ما دامتْ السنة قد دلـَّتْ على عدم جواز الجمع، فلابُدّ أنْ يكونَ تفسيرُهُ للآية خطأ.

علي: ولكنّ السنة دلـَّتْ على جواز الجمع.

هدى: السنة التي عندنا أم عندكم؟

علي: بل التي عندكم أيضاً، فقد رووا عن النبي ص، أنه جمعَ بين الصلاتين مِنْ غير سفر ولا مطر ولا خوف.

هدى: أتريدُني أنْ أصَدِّقَ بأنّ مِثلَ الرازي يَجْهَلُ السنة التي عندنا؟

علي: هناك بابٌ في صحيح مسلم بعنوان: (الجمع بين الصلاتين في الحضر) ذكرَ فيه عدة روايات في ذلك.

هدى: يكادُ رأسي يتفطر أو ينفجر، بابٌ في أصحّ الكتبِ عندَنا بهذا العنوان؟

علي: نعم، فقد روى مسلم في صحيحه ج2 ص151 طبع دار الفكر: (عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: صلى رسولُ الله الظهرَ والعصرَ جميعاً، والمغربَ والعشاءَ جميعاً في غير خوفٍ ولا سفر).

هدى: سبحان الله، ما أوضَحَها وما أصرَحَها؟

علي: وروى البخاري في صحيحه ج1 ص141 طبع دار الفكر باب مواقيت الصلاة حديث 529: (حدثنا آدم قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا عمرو بن دينار قال: سمعتُ جابرَ بن يزيد عن ابن عباس قال: صلى النبيُّ سبعاً جميعاً وثمانيةً جميعاً).

هدى: وما معنى سبعا جميعاً وثمانية جميعاً؟

علي: إنّ عددَ ركعات المغرب والعشاء سبعة، وعددَ ركعاتِ الظهر والعصر ثمانية، ومعنى جميعاً أي صلاهما جامعاً بينهما في وقتٍ واحد.

هدى: أفهمُ مِنْ كلامكَ بأنّ الصحابة التزموا بالجمع بينها.

علي: روى مسلمٌ في صحيحِهِ ج1 ص285، وابنُ حنبل في مسندِهِ ج1 ص251: (خطبنا ابنُ عباس يوماً بعدَ العصر حتى غربتْ الشمسُ وبَدَتْ النجومُ وجعل الناسُ يقولون: الصلاة الصلاة، قال فجاءَ رجلٌ مِنْ بني تميم لا يفتـُر ولا ينثني: الصلاة الصلاة، فقال ابنُ عباس: أتـُعَلِّمُني بالسنة لا أمَّ لك؟ ثمّ قال: رأيتُ رسولَ اللهِ ص جمعَ بينَ الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قال عبد الله بن شقيق: فأتيتُ أبا هريرة فسألتُهُ فـَصَدّقَ مقالتَهُ).

هدى: الآن أرفع لك الرايات البيضاء استسلاماً وتسليماً، ولكنْ قل لي: ما هي الحكمة مِنَ الجمع بينها؟

علي: عزيزتي هدى، نحنُ في الكلية قد يستمرُّ الدرسُ لِعدَّةِ ساعات، ولقد لاحظتُ بعضَ إخواني مِنْ أهلِ السنة، يتركُ الصلاة لِعَدَمِ إمكانه الصلاة في وقتِها، وطلبتُ من صديقٍ لي أنْ يجمعَ ولا يتركها، فأجابني: لا أريدُ أنْ أصبحَ شيعياً.

هدى: صحيح، نحنُ نعاني كثيراً أثناءَ الدوام، ونـَقـَعُ دائماً في حرج كبير، لكنّ سؤالي كان عن الأحاديثِ النبوية، هل أشارتْ للحكمة في ذلك؟

علي: نعم، فقد روى ابنُ عباس قال: (صلى رسولُ الله ص الظهرَ والعصرَ جمعاً بالمدينة في غير خوفٍ ولا سفر، قالَ أبو الزبير: فسألتُ سعيداً، لِمَ فعلَ ذلك؟ فقالَ: سألتُ ابنَ عباس كما سألتني فقال: أرادَ أنْ لا يُحْرِج أحداً مِنْ أمّتِهِ).

هدى: لكنكَ لم تذكرْ مصدرَهُ.

علي: عفواً، راجعيه في صحيح مسلم باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، الحديثين رقم 1147 و1148.

هدى: سبحان الله، إذا كان الله قد وسّعَ على الأمّة لئلا تقعَ في الحرج، فما بالـُنا نُضَـيِّقُ على أنفسنا؟ ودَعني أصارحكَ يا علي، فإني كنتُ أتصورُ سابقاً بأنّ جمعَكم بين الصلواتِ مُخالِفٌ للقرآن وللسنةِ، فتبيَّنَ لي الآن عكسَ ذلك تماماً.

علي: الحمد لله أولاً والشكرُ لكِ ثانياً، على إنصافكِ وصراحتكِ وحُسن جدالكِ، وتسليمك للحقائق حين تتـَّضِحُ لكِ.

هدى: قلتُ لكَ بأني أسألُ لكي أفهم، خصوصاً وأنّ أحبّ إنسانٍ إليّ يَختلفُ معي، وأريدُ أنْ نَصِلَ معاً لِوئامٍ ووفاقٍ وسلام.

علي: إذا كنتُ عالماً بما تسأليني عنه أجبتُك، وإلا سألتُ العلماءَ وأتيتـُكِ بالجواب.

هدى: بعدَ هذا الحوار، لا أتصوّرُ احتياجك للسؤال.

علي: أشكرُ حسنَ ظنك بهذا العبد الضعيف.

هدى: ضعيفٌ !!! وقد هزَمَنِي في أوّلِ مباراةٍ جرتْ بيننا.

علي: هي مباراةٌ ودّية، ووصولنا للحقيقة انتصارٌ لنا معاً.

هدى: صحيحٌ يا عزيزي كنتُ أمزح، والآن ننتقل للوضوء، فقد رأيتـُكَ مَسَحْتَ قدمَيْكَ بَدَلاً مِنْ غسلهما.

علي: دليلـُنا القرآن، حيثُ يقولُ: (يا أيّها الذين آمنوا إذا قـُمتـُم إلى الصلاةِ فاغسلوا وجوهَكم وأيديَكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسِكم وأرجلكم إلى الكعبين).

هدى: (تتوسَّعُ حدقتا عينيها، كأنـَّها رأتْ شبَحاً مخيفاً) وهل هذه آيةٌ في القرآن؟

علي: نعم، إنها الآية 6 من سورة المائدة، ثمّ يفتحُ القرآنَ ويُريْها الآية.

هدى: (يُصيبها إحباطٌ نفسيّ) الآن علمتُ أنّه لا فائدةَ مِنْ تِلاوتِي للقرآنِ الكريم، لِعَدم تدبُّري في معانيهِ، فكم مرّةٍ تمُرُّ عليَّ هذه الآية في السنة، ولكنْ دونَ التفاتٍ لِمعناها.

علي: والآن أخبريني، كم غسلةٍ ومسحةٍ في الآية؟ وما حُكمُ الأرجلِ فيها؟

هدى: (تُدقِّق فيها) غسلتان ومسحتان، والأرجلُ حكمُها المسحُ فيها.

علي: وكمْ غسلةٍ ومسحةٍ في وضوئِكِ اليوميّ؟

هدى: ثلاثة غسلاتٍ ومسحةٍ واحدة، إذنْ فوضوؤك يا علي هو الموافقُ للقرآن، لكنْ ماذا يقولُ علماؤنا عن هذه الآية؟

علي: يقولون بأنّ حكمَ الرجلِ الغَسلُ لأنّها مَعطوفةٌ على الوجوهِ والأيدي.

هدى: ولكنّ القرآن كلامٌ عربيٌ مُبين، وواضحٌ بأنّ هناك أمرين في الآية، الأول: اغسلوا، والثاني: امسحوا، وهما جملتان منفصلتان:

 الأولى: اغسلوا وجوهكم وأيديكم. والثانية: امسحوا رؤوسكم وأرجلكم.

علي: ألم أقلْ لكِ بأنّ إنصافكِ يُعجبني يا وردةَ الورودِ، فهي كما تفضلتِ مِثلما لو قال شخصٌ: (أكرمْ محمداً وعلياً، وأهِنْ زيداً ومالكاً)، فهل يُمكنُ أنْ يفهمَ واحدٌ مِنَ العرب، بأنّ مالكاً يجبُ إكرامه عطفاً على أكرم محمداً وعلياً؟!

هدى: كلا ليس ممكناً، ولكنْ ماذا عن السُـنـَّةِ النبوية؟

علي: قبلَ الذهابِ للسنة، استمعي لتفسير الفخر الرازي للآية في تفسيره ج4 ص165 حيث يقول: (إنّ العامِلـَيْنِ إذا اجتمعا على مَعْمُولٍ واحدٍ، كان إعْمَالُ الأقرب أولى، فوجبَ أنْ يكونَ عاملُ النصبِ في قولِهِ (وأرجلكم) هو قوله (وامسحوا)، فثبتَ أنّ قراءةَ (وأرجلكم) بنصبِ اللام، توجبُ المسحَ أيضاً)، فالرازي يرى بأنّ الأرجلَ تُمسحُ على كلِّ حالٍ، سواء كانت (وأرجلكم) مكسورة أو منصوبة.

هدى: رغمَ أنّ المصطلحاتِ صعبةٌ، إلا أنّ المعنى العام مفهومٌ، ولكنْ هل ذهبَ لهذا الرأي أحدٌ من علمائِنا غير الفخر الرازي؟

علي: نعم، هناك آخرين ذهبوا لنفس رأيه، كابن العربي في (الفتوحات المكية) ج1 ص448، وابن حزم في (المحلى) ج2 ص57، وأبي حيان في (البحر المحيط) ج3 ص438 وغيرهم.

هدى: اسمح لي الآن بالهجوم عليك، كي أسجِّلَ هَدَفَ التعادُلِ في هذه المباراة.

علي: وسأكونُ أنا أوّلَ المشجِّعينَ لكِ.

هدى: في آية الوضوء حُكمٌ واضحٌ جداً وأنتم تخالفونه، يقول تعالى: (وأيديكم إلى المرافق) وهو واضحٌ في وجوب الغسل من أطرافِ الأصابعِ إلى المرافق، بينما تغسلونَ مِنْ المرافق إلى أطراف الأصابع.

علي: دَقـِّقي فيما سأقوله لكِ: لو قالتْ الآية: (وأيديكم مِنْ أطراف الأصابع إلى المرافق) لكان الحقُّ معكِ.

هدى: لا فرق بين العبارتين، فهما تدلان على الغسل مِنَ الأصابع للمرافق.

علي: فلو قلتُ لكِ: اغسلي رجليكِ إلى الرُكـْبَةِ، فهل سترفعين رجليك إلى الأعلى، وتصبّين الماءَ على أطرافِ الأصابع، ثم تنزلين تدريجاً للركبة؟

هدى: (تفكر في كلامه مَلِـيّاً، ثمّ تنفجرُ بالضحكِ بشكلٍ هستيري) كلا كلا، بلْ أفهمُ بأنْ أغسلَ مِنَ الركبةِ نزولاً لأطراف الأصابع، ولولا سؤالك الجميلُ هذا، لما توضّحَ الأمرُ لي أبداً، ولكنْ لماذا قالتْ إلى المرافق؟

علي: لغرضِ تحديد المقدار الممسوح مِنَ اليدين، لأنّ اليدَ قد تُطلق على الأصابع في العربية، تقولين: أخذتُ القلمَ بيدي، وإنما تأخذينه بأصابعك، وقد تُطلق على الكفَّين كما في التيمم، وقد تطلق على جميع اليد مع العضد والساعد والكفين، أمّا في الوضوء فأمرَ بغَسلِ اليدِ وحدَّدهُ إلى المرافق.

هدى: نعودُ إلى مسح الرجلين في السنَّةِ النبوية، فلا تظنـَّني سوف أنسى ذلك.

علي: هناكَ مجموعتان من الروايات، بعضُها تُبَيِّنُ مسحَ الرجلِ، وبعضُها غَسلها.

هدى: وما هو التقييم لكلٍّ منهما؟

علي: أمّا رواياتُ المسح للرجلين، فهي كثيرةٌ جداً وصحيحةٌ سنداً، بينما رواياتُ الغسلِ، فهي قليلةٌ جداً وضعيفةٌ سنداً؟

هدى: اُذكرْ لي بعضَ رواياتِ الغسلِ لِلرجل.

علي: كرواية ربيع بنت معوذ، ويكفي هذه الرواية من الوَهْنِ والسقوط، أنّ ابن عباس لما بَلغَهُ روايتُها لحديثِ غسلِ الرجلين، ذهبَ إليها وسألها ثم قال متعجباً: (أبَى الناسُ إلا الغَسل، ولا أجدُ في كتابِ اللهِ إلا المسح) رواه أحمد في مسنده ج6 ص358، وسنن ابن ماجة ج1 ص146، وسنن الدارقطني ج1 ص96، علماً بأنّ هناك ما يُسقط رواية ربيع بنت معوذ عن الاعتبار من جهاتٍ أخرى.

هدى: وهل توجد غيرها؟

علي: نعم، كرواية ابن مسعود، وفي سندها قيس بن الربيع، قال البيهقي: (ضعيفٌ عندَ أهلِ العلم والحديث) راجعي الجوهر السنيّ على سُنن البيهقيّ ج1 ص70.

كما روي عن ابن عباس روايتان، إحداهما تـَدُلُّ على المسح، والأخرى على الغسل.

هدى: فما العمل في هذه الحالة؟

علي: ذكرَ العينيُّ شارحُ البخاري في (عمدة القاري) ج2 ص239، بأنّ ما دلّ على المسح إسنادُهُ صحيحٌ، وما دلّ على الغسل فإسنادُهُ ضعيفٌ.

هدى: ماذا لو فرضنا بأنّ روايتا الغسل والمسح كِلاهما صحيحة؟

علي: عندها ستتساقطان، فنرجعُ للقرآن، لأنـَّه هو الأساسُ والأصلُ، وهو يَدُلُّ على المسح كما وضّحْناهُ، ومع ذلك فلو صحّتْ روايات الغسل، فيُمكنُ توجيهها بأنْ نفرضَ أنهُ ص كان يَصُبُّ باقي ماء وضوئِهِ على رجليه بعدَ إكمال الوضوء لِغرض التبريد، لأنّ جوَّ الحجاز حارٌ جداً، فظنّ المشاهدُ بأنّ النبي ص يغسلُ رجليه.

هدى: ولماذا نـُوَجِّهُ مِثلَ هذه الرواية هكذا توجيه؟

علي: لأنّ رواياتِ المسح كثيرةٌ جداً وصحيحة وموافقة للقرآن، أمّا رواياتُ الغسلِ فقليلةٌ وضعيفةٌ سنداً ومخالفةٌ للقرآن الكريم.

هدى: والآن اِشرحْ لي شيئاً عن رواياتِ المسح.

علي: رواها علماؤكم عن علي ع وعمر وعثمان وعبد الله بن زيد وجابر بن عبد الله ورفاعة بن رافع وأوس بن أبي أوس وعباد بن تميم وعبد الله بن عمر وجابر بن زيد وابن عباس وأنس بن مالك وأبي مالك الأشعري.

هدى: كلُّ هؤلاء رَوَوا أحاديثَ مَسْحِ الرجلين، ولكنْ كيفَ أتأكَّد مِنْ صِحّةِ ذلك؟

علي: راجعي عُمدةَ القاري ج2 ص238 و240، والمصنف لابن أبي شيبة ج1 ص8 و18 و19، والمصنف لعبد الرزاق ج1 ص162 و201 و202، وجامع البيان ج6 ص129 و14، والدر المنثور للسيوطي ج2 ص164 و165.

هدى: وهل كلُّ هؤلاء رَوَوا عن النبي ص أنه مسح؟

علي: توجدُ ثلاثةُ طوائفٍ في مَنْ رَوَى روايات المسح:

الأولى: رَوَتـْهُ عن النبي ص ومَسَحَتْ رجليها.

الثانية: رَوَتـْهُ عن النبي ص فقط.

الثالثة: مَسَحَتْ رجليْها مِنْ دونِ رواية عن النبي ص.

هدى: اذكر لي نموذجاً من روايات المسح.

علي:  رُوي عن علي بن أبي طالب ع أنه قال: (ما كنتُ أرى أنّ أعلى القدم أحقُّ بالمسح، حتى رأيتُ رسولَ الله ص يَمْسَحُ أعلى قدميه)، رواها الذهبي في سير أعلام النبلاء ج13 ص300، وقال المُحَشِّي: رجالـُهُ ثقات، وسنن أبي داود ج1 ص42 حديث 164، والمصنف لعبد الرزاق ج1 ص19، وتأويل مختلف الحديث ص56، والبناية في شرح الهداية ج1 ص578.

هدى: هل مِنْ مزيدٍ لكي يَطمَئِنَّ قلبي.

علي: وروي عن عثمان أنه توضّأ ثمّ قال: (رأيتُ رسولَ الله توضّأ كما توضأتُ …. ومَسَحَ برأسه وظهرَ قدميه)، راجعي المصنف لابن أبي شيبة ج1 ص8، وكنز العمال ج9 ص436 حديث 26863، ومجمع الزوائد للهيثمي ج1 ص224 وصحّحه، وبلوغ الأماني ج1 ص305 حديث 190، ومسند أحمد بن حنبل ج1 ص58، وجامع المسانيد والسنن ج17 ص178 حديث 759، وعمدة القاري ج2 ص240 وصحّحه.

وكذلك رووا عن ابن عباس قوله: (الوضوء غسلتان ومسحتان)، رواه الطبري في تفسيره ج6 ص128، وابن كثير في تفسيره ج2 ص27، وعبد الرزاق في المصنف ج1 ص19 حديث 55، والمتقي في كنز العمال ج9 ص433 حديث 26840.

هدى: أظنُّ بأنّ هذا كافي ووافي، ولقد كنتُ منَّيْتُ نفسي بأنْ يكونَ شوط المباراتِ الثاني التعادلَ بهدفٍ واحدٍ مقابلَ واحد، ولكنّ النتيجة أصبحت اثنين مقابل صفر.

علي: كانتْ مباراة ودية لا يُوجد فيها خسران، بل الجميعُ فائزون رابحون.

هدى: بَقِيَ سؤالٌ آخر، لا يتعلقٌ بمسح الرجلين، لكنه يتعلق بالصلاة.

علي: أشعرُ بتعبٍ شديدٍ، لِنؤجِّلهُ لِوقتٍ آخر، وقد اقتربَ وقتُ صلاة الظهر.

هدى: حسنا كما تحب.


 

شاهد أيضاً

قصيدةُ [ ضَرَبَتْ إِيرانُ صُهْيُونَ اللَّعِينْ ]

قصيدةُ [ ضَرَبَتْ إِيرانُ صُهْيُونَ اللَّعِينْ ] إقرأ المزيد .. الإمام الخامنئي: القضية الأساسية في ...