آيات الأحكام للعلامة السيد الأسترآبادي 08
14 مارس,2020
القرآن الكريم, صوتي ومرئي متنوع
681 زيارة
سورة البيّنة : « وما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ ويُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكاةَ وذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ » المأمورون أما أهل الكتاب ، أو يعمّ المشركين ويحتمل مطلق المكلفين أي ما أمروا في التورية والإنجيل كما روى عن ابن عباس ، وذهب إليه كثير ، أو في القرآن .
« إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ » أي العبادة أو ما يوجب الدين ، أي الجزاء والأجر ، فهي العبادة أيضا ، بأن لا يعبدوا إلَّا اللَّه ولا يشركوا في عبادته شيئا ، وفيه إشارة إلى أنّ الرياء نوع شرك فافهم .
فان قلنا إنّ اللام في ليعبدوا زائدة أي ( 1 )
« إلَّا أن يعبدوا » دل على أن كل مأمور به عبادة ، وأنه يجب إيقاعها مخلصا فمثل قضاء الدين ودفع الظلم والنوم عند الضرورة إليه إذا لم يقع على وجه الإخلاص لم يحصل به الامتثال ، وكان المكلَّف به آثما بتركه ، وإن حصل براءة الذمة من حق الناس وبعض المصالح المتعلَّقة بالمأمور فيسقط التكليف لعدم بقاء المحل لا لوقوع الامتثال فلا يكون الإخلاص في مثله شرطا لحصول الثواب فقط ، بل لعدم العقاب أيضا فتأمل .
وإن قلنا اللام للتعليل كما في الكشاف ( 2 )
والبيضاوي : احتمل ذلك أيضا أي ما أمروا بما أمروا إلَّا لأجل أن يعبدوا اللَّه بذلك حال كونهم مخلصين له تلك العبادة ولا يبعد أن لا يعتبر كون تعبّدهم بذلك المأمور به ، أي ما أمروا بما أمروا إلَّا لأجل أن يعبدوا اللَّه مخلصين له العبادة ، فالأمر حينئذ إمّا بالعبادة مخلصين ، أو بما يؤدّى العمل به إليها .
ويحتمل على الوجوه كلَّها أن يكون الحصر إضافيّا كما لا يخفى ، فلا يأتي بعض ما قلنا . نعم لا ريب في كون العبادة على وجه الإخلاص مأمورا بها على الوجوه كلَّها .
« حُنَفاءَ » حال آخر ، أي مستقيمين على طريق الحق والصواب أو مائلين إليه عن الاعتقادات الزائفة والطرق الباطلة ، فهو تأكيد لحصر العبادة في اللَّه ، المفهوم من قوله إلَّا إلخ بعد تأكيده بالإخلاص ، وعطف « يقيموا ويؤتوا » يدلّ على زيادة الاهتمام
بالصلاة والزكاة « وذلِكَ » أي عبادة اللَّه على الوجه المذكور ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة دين الملَّة القيّمة ، أي عبادة الملَّة المستقيمة الحقّة ، وهي شريعة نبينا عليه السّلام الآن .
أو المراد بالدين الملَّة كما في قراءة : « وذلك الدين القيمة » ( 1 )
فتكون من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة ، وتأنيث القيّمة إما للردّ إلى الملَّة أو الهاء للمبالغة ( 2 )
وهذه الإضافة قد جوّزها الكوفيّون ( 3 )
ومن لم يجوّز فإنّما لم يجوّز مع إفادة الصفة لا مطلقا ، وهو مصرّح ، ولهذا يجوز الإضافة البيانيّة بالاتفاق ، أو صفة للكتب الَّتي جرى ذكرها كذلك أي ذلك ملَّة الكتب القيّمة أو ملَّة أصحابها كما قيل فتأمل .
وعلى الوجهين يمكن أن يراد به العبادة كما لا يخفى ، بل في القراءة أيضا .
[ وقد يتأمّل في دلالة الآية على اعتبار الإخلاص في العبادة لاحتمال أن يراد بإخلاص الدين له اختيار دين الإسلام مثلا خالصا للَّه ، وفيه أنه خلاف أقوال العلماء لم ينقل من أحدهم ذلك ، وأيضا الأظهر في إخلاص الدين للَّه أن يوقع الأعمال الدينية خالصا للَّه ، ولم سلَّم فحنفاء ، فيه ما يكفي في هذا المعنى كما قدّمنا ] .
وبالجملة لا ريب في دلالة الآية على اعتبار الإخلاص في العبادة ، وأشراطه فيها ، ولو من قوله : « وذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ » ولعلّ إخلاصها هو أن توقعها للَّه وحده ، فلا ترجو بها إلَّا من عنده ، وإن كان الكمال التام أن يكون معرفتك بجلال ربّك وكرمه واعتقادك بفيّاض فيض جوده وفضله ، فوق أن ترجو ما عنده بامتثاله ، ورسوخك في محبّته وطريق مودّته وشوقك إلى متابعة مراده وتحصيل مرضاته أكثر من أن يكون شيء من ذلك ملحوظا لك في عبادته ، كما هو المفهوم من قول مقتداك وهاديك ، وباب علم نبيّك عليه السّلام : « ما عبدتك خوفا من نارك ، ولا طمعا في جنّتك ، بل وجدتك أهلا
للعبادة فعبدتك ( 1 )
» .
ولا يخفى أنّ الفعل لا تقع هكذا إلَّا باعتبار قصده كذلك ، وهو النيّة الَّتي يستدلّ الأصحاب بالآية عليها ، والإخلاص هو المراد بالقربة الَّتي يذكرونها في النيّات لتلازمهما في العبادة الصحيحة ، وترتّبها عليه ، ولاعتبار صفة القربة في الآيات والروايات كثيرا .
إذا تقرّر ذلك ، فلا تصحّ مع قصد الرياء أو التبرّد أو إزالة الكسل أو الوسخ أو نحوها ، لكونه منافيا للإخلاص فيكون مفسدا لها ، وتصحّ مع رجاء الفوز بالجنّة ، والخلود فيها ، والخلاص من النار والأمن منها بالامتثال بها ، فان هذا غير مناف بل مؤيّد ومؤكَّد إلَّا لنادر ، ولذلك تضمّن بعض الآيات والأخبار الأمر به ، والمدح عليه فافهم .
ثم لا يخفى أنّ قوله : « حُنَفاءَ » ظاهره على ما تقدّم عدم صحّة عبادة الفاسق سيّما مع إصراره على الكبائر لأنّه غير مستقيم على طرق الحقّ والصواب ، وغير مائل إليه عن الاعتقادات الزائفة والطرق الباطلة ، اللهم إلَّا أن يراد بهم المائلون إلى الإسلام عن الأديان كلَّها ، كما في اللباب ( 2 )
أو المتّبعون لملَّة إبراهيم عليه السّلام ، وقيل حنفاء أي حجّاجا وإنما قدّمه على الصلاة والزكاة لأنّ فيه صلاة ، وإنفاق مال ، وهو غير مناسب كما لا يخفى .
2020-03-14