مصطفى قطبي
في خضم الأحداث التي تدور في الوطن العربي، وأمام الدعوات الطائفية التي تعلو هنا وهناك، كان لا بدَّ أن نسلط الضوء على الفكر الصحيح، من القيم الاجتماعية والأسس الدينية التي تُشكل المنطلق في التعامل مع الآخر كائناً من كان، وترسي قواعد العيش المشترك.
بداية، أود التوضيح أنني لست عالماً فقهياً، لكنني وبتواضع شديد أقول: أنا مسلم وأفهم الإسلام كأي آخر، فهو دين العملية والإقناع، البعيد عن تحويله إلى طقوس، إنه دين العدل والمساواة والمنطق، دين التآخي والعفو عند المقدرة. ولذا أتحدى من يخالف ما ورد من مواضيع وهي بالنسبة لي حقائق أستند إليها بالحجج الإسلامية، والمنطقية العقلية أيضاً، والتي أثبتت صحتها معظم الكتب الفقهية.
إن دافعي للكتابة هو حب الحقيقة التي هي السبيل الوحيد لتحريرنا مسيحيين ومسلمين من الجهل والتعصب، والمعرفة هي طريق التواصل مع الآخرين بحوار بنّاء لأن الإنسان عدو ما يجهل، وهنا لابدّ من التذكير بقول الكاتب الكبير برنارد شو حيث قال: لقد قرأت محمداً باعتباره رجلاً مدهشاً، فرأيته بعيداً عن مخاصمة المسيح، يجب أن يدعى بحق منقذ الإنسانية، والدين الإسلامي سيجد له مكاناً مرموقاً في العالم، وإذا أراد العالم النجاة من الشرور فعليه بهذا الدين لأنه دين الحق والعدل والمساواة، وليعلم العالم أن الله سبحانه وتعالى قد أرسل الرسول الأعظم محمد بن عبد الله للبشرية جمعاء بقوله تعالى في القرآن الشريف: ”وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون”. ”وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”. وقد امتدحه ربه بقوله: ”وإنك لعلى خلق عظيم”.
فالإسلام شريعة سماوية اكتمل بها مثلث القداسة، حيث كانت اليهودية والمسيحية كالخطين المتوازيين لا يلتقيان أبداً، لكن المشيئة الإلهية أرادت أن تكتمل الحياة، فوجد الإسلام، وبظهوره تحول إلى أضلاع، بعد أن انضم إليهما، ليظهر بها مثلث القداسة، هذا المثلث الذي أحدثه التحول الكبير من الثنائيات التي تجسدت في أبرام ولوط، وموسى وهارون، ويوحنا ويسوع، ومحمد، إلى الفهم الكوني الكبير والواسع، هذا التحول الذي أدى إلى الاعتراف بالإله الواحد الأحد والفرض الصمد والكلي المحيط الأزلي السرمدي، وأن الكل مؤمن إيمانه بما آمن، وأن الإيمان وحدة وجود، أي إن الله جوهر، والإنسان مظهر، ولذلك وكما بدأت أنه صورته وعلى شاكلته كان وجوده، وأن كل شيء يشهد على المشهد، والمشهد هو الإنسان، ومن ثمَّ خلقت به إضافة لوحدة الوجود وحدة الشهود.
منذ بزوغ شمس الإسلام كانت العلاقة بين المسلمين والمسيحيين علاقة رحمة وتعاطف فإن أول هجرة للمسلمين بدينهم كانت إلى الحبشة حيث لاذوا بالنجاشي ملك الحبشة فراراً بدينهم من المشركين، وكان النجاشي يدين بالمسيحية، فأكرم المسلمين وأحسن وفادتهم، وقال عندما سمع آيات من سورة مريم: (إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة)، وقد بيّن لنا الله تعالى هذا المعنى فقال سبحانه: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى*ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)… ومما قاله نبينا صلى الله عليه وسلم في احترام أهل الكتاب ممن دخل في عهد المسلمين فعاش معهم: (من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ شيئاً منه بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة).
وقال تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
ورأى عمر بن الخطاب يهودياً ضريراً يتسوّل ويسأل الناس، فجعل له من بيت المال ما يكفيه، وكتب للولاة بمعونة الذميين الفقراء. وكانت هذه المعاملة لغير المسلمين من منطلق أن الإسلام دين السلام، لا يبدأ أحداً بحرب ما دام مسالماً. وقد اشتهر عهد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أهل إيلياء، حيث جعل لهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وعدم إكراههم على الدين وعدم الإضرار بهم. وكان ذلك في العشرين من ربيع الأول للسنة الخامسة عشر للهجرة النبوية الموافق لعام (637) لميلاد السيد المسيح عليه السلام وقد جاء في العهد العمري ما نصه: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله أمير المؤمنين عمر، أهل إيليا من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم ولصلبانهم ومقيمها وبريئها وسائر ملتها، إنها لا تسكن كنائسهم ولا تُهدم ولا يُنتقص منها ولا من حدّها ولا من صلبانهم، ولا شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم، …. إلى أن قال: وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين، وقد شهد على ذلك العهد من الصحابة كل من: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم. وكُتِبَ في آخر العهد: وكلّ من قرأ مرسومنا هذا من المؤمنين وخالفه من الآن وإلى يوم الدين فليكن لعهد الله ناكثاً ولرسوله الحبيب باغضاً).
واليوم، ثمة من يقول هناك في العالم يهوديتان ومسيحيتان وإسلامان، وإن الصراعات القادمة ستكون بين الدين والدين داخل المذهب الواحد والطائفة الواحدة… وثمة من يقول هناك مشاريع جاهزة لأمركة الإسلام وفرنسة المسيحية وتهويد الأرض، وفي الوقت الذي يجري فيه تغيير الخرائط السياسية والجغرافية لأمتنا، ثمة من يقول يجب أن تنطلق ثورة التغيير من تغيير الفكر اليهودي ـ والمسيحي ـ والإسلامي ولا معنى لأي حديث عن تحرير الأرض قبل تحرير العقل وتحرير المرأة وتحرير الثقافة والسياسة من سلطة الدين. وما من شك في الرغبة الإنسانية المشتركة في البحث عن تنظيم العلاقات الدينية والاهتمام الصادق بإيجاد الحلول المقترحة لأزماتها سيحدد للجميع الإطار المرجعي لتكريس ثقافة الحوار استناداً إلى المعايير الثابتة في العقل والوجدان التي لا يختلف حول قيمها، وفي سياق ذلك فإن مشروع الدولة المدنية العادلة في الشرق الأوسط هو مشروع ينادي به المسيحيون والمسلمون مع استثناءات تفرضها طبيعة اختلاف الوعي بتفسير النصوص الأولى للدين وما يعنيني من تجربتي الخاصة في الحوار المسيحي ـ الإسلامي هو أن خطر التطرف لا يقتصر اليوم على المسيحيين بل على كل مسلم يختلف معه في الرأي والمعتقد…
ومن هنا كانت مناداتي في الماضي والحاضر إلى ضرورة أن تعي حركات الإسلام السياسي فاعلية الحضور الإيجابي للمسيحية العربية فلا يجوز التشكيك بولاء المسيحيين العرب لأوطانهم ولا ينبغي عزل المسيحيين عن حركة النهوض العربي التي ساهموا بإطلاقها وتصدروا ريادتها، وتالياً لا يجدر بعربي ومسلم الاستهانة بدور المسيحيين في تشكيل النظام العربي الجديد ولا يمكن تصحيح النظر إلى المسيحيين كأقلية في الشرق إلا بتقنين معنى المواطنة في دساتيرنا… فالسيد المسيح الحق عليه السلام، مازال يتردد في داخلنا ولا يمكننا تمييز ذلك الصوت المقدّس عن أصداء الأصوات الأخرى، إلا بمعرفة جوهر المسيحية القديمة، وحالما يدرك الإنسان ما علمه إياه السيد المسيح عليه السلام ويدرك هذا الصوت، ويقدر أن يعمل بناء لإدراكه هذا، تصبح حياته نعمة له ولكل المحيطين به.
ليس هناك اختلاف بين المسيحية والإسلام، ومهما اختلف المسيحيون والمسلمون في مناهجهم عند تحليلهم لمعنى التوحيد في الذات الإلهية، فهم يتفقون على وحدة الإنسان في عمارة الأرض بالتعاون على البر والتقوى من أجل سلام عادل وشامل على وجه الكرة الأرضية. هذا هو الرباط الأخوي المجدول بنسيج التسامح والمحبة والعدل، وبه نمسح ذلك الغبار الذي رماه التاريخ السيئ على الأديان، أو رمته القراءات المغلوطة الناقصة، أو التأويلات الغامضة، أو رمته كما نشاهد العولمة…
إن الثقافة المسيحية ـ الإسلامية قائمة على فلسفة أخلاقية، والتفسير الصحيح لمعنى الإنسان والإنسانية، هذا هو توحد الرؤية… مثلاً: قد تطابقت الرؤية في الاتفاقات الدولية بخصوص وقف إبادة الجنس البشري عام 1948، وتطابقت الرؤية في القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري عام 1973 والقضاء على أشكال التمييز ضد المرأة عام 1979، والقضاء على أشكال التعصب القائم على أساس الدين عام 1981، وعلى مناهضة التعذيب عام 1984، وتطابقت الرؤية على حماية حقوق الطفل عام 1985… هذا ما فعلناه معاً مسيحيون ومسلمون على مدى القرن العشرين، فهل ما نسمعه وما يجري اليوم هو نقض للمسيرة الإنسانية التي مشيناها معاً؟
إذا كان ذلك كذلك، فإننا نقول: إن أميركا و”إسرائيل” ومن معهما قد قضوا فعلاً على ثقافة التسامح والعيش المشترك وعلى مرأى من العالم، وهم الآن يدفعون بعالمنا الإنساني إلى جحيم العنف والعنف المضاد، الناتج عن إرهاب العولمة التي تريد اجتياح العالم لفرض أهدافها بقوة السلاح والاحتلال، والقتل والدمار والنهب والتشريد، وأدخلوا العالم في دوامة من الضباب الأسود والفوضى، التي لا تفصل بين المقاومة والإرهاب، وبين صاحب الأرض والمغتصب المحتل. إن الأمركة المفروضة علينا هي من أخطر عمليات السطو على الأوطان ومن أخطر عمليات التزوير لهويات الأمم والشعوب، والمرتسم الجديد في أوسطية هذا الشرق هو الاغتيال العلني لعنصر الوسطية فيه، أي تمزيق نسيجه المتعدد، لغزله مجدداً بنسيج ثقافة أحادية مضادة ونقيضة.
وإذا كان الغرب من ”فوكوياما” إلى صدام الحضارات يبحث عن عدو جديد، فنحن كمسلمين ومسيحيين في الشرق نبحث عن صديق جديد، وإذا كانت السياسة العولمية العالمية تنزع إلى جعل الأرض كوكباً من جحيم الحروب والفتن، فنحن كمسيحيين ومسلمين نريد أن نجعل الأرض كوكباً من صلاة وسلام. فحيث تمشي المحبة تنبلج قناديل الرحمة والتواصل، ”الذِينَ يَنقضونَ عهدَ الله مِن بَعدِ ميثاقه ويَقطَعون ما أَمرَ الله بِهِ أَن يُوصلَ وَيفسدون في الأَرضِ أولَئِك همُ الخاسِرونَ” (البقرة/27).
فإما اتصلت هذه الآية في بيئتها وتاريخها بناس من الناس، قطعوا ما أمر الله به أن يوصل، فإن الآية في مجرى الشمس والقمر ليست منغلقة على أسباب النزول، والآية ليست منحصرة في النهي عن قطع الرحم لأنها مفتوحة على كل ما أمر الله به أن يوصل. ومن أعظم القطع قطع الدين بالدين.
كذلك حيث يخطو الحوار بالوصل ستنبت من تحت أقدامه سنبلة الحقيقة… وإذاً لا بد من فاصلة بين صوت يوقظ ضمير التاريخ من أجل المحبة والحوار، وبين حنجرة تنفخ في رماد التاريخ لتوقظ ضفادع الفتنة النائمة في المستنقعات… وما من شيء يحطم معنويات الحوار في الراهن المعاصر أكثر من شعوره بأنه مجرد أداة لتجميل بشاعة الواقع البائس الذي يتعاطى مع الحوار ورسالته كهامش على متون لا تكاد تعترف بجدوى الحوار وإنتاجه، وما نرجوه من مؤسساتنا الدينية هو أن تحظى برامج الحوار بالأهمية التي تستحقها… ومهما كانت الصعوبات والتحديات المعقدة التي تحول دون توفير أفضل فرص النجاح لحوار منتج ودائم، فقد آن الأوان أن نخرج الحوار الديني من دوائر الانغلاق على التعصب المذهبي إلى أفق التعاون على البر والتقوى باعتباره فريضة قرآنية لا تسقط بذريعة الاختلاف الفقهي حول هذه المسألة أو تلك من أحكام الإسلام وشريعته.
لقد أعطى الحوار المنتج في بيئته صورة فريدة عن الوئام بين الأديان وعيشها المشترك، ولا يزال الحوار، وهو في قلب الخطر، يواجه التحديات ويدافع عن نقطة الضوء الأخيرة… وليس مصادفةً أن يكون عدوه هو النقيض المباشر لمشروعه، عنيت به الإرهاب الديني الذي تم اختلاقه ضمن مخططات الفتنة وتمزيق الشرق الأوسط، وهذا ما يفسر لنا ظاهرة استخدام الإرهاب المتوحش سياسات التهجير والقتل العبثي وتفجير الكنائس والمساجد. وأراني تجرحني أشواك القطيعة وأكتب: إن إشكال القطيعة يتعدد بأشكالها لكنه يبتدئ من إشكال الأخلاق بوصفها التجلي الأجمل والأكمل لروح الدين وجوهر المعرفة… وبصدد كل ذلك… إذا كانت الأرض كلها مسجداً لله، وإذا كان الكون كله كنيسة لله، فإن أخطر أشكال الإرهاب الذي يتهدد الأرض والكون، هو الإرهاب الديني الذي يقتل بالقلب البارد بإسم موسى وعيسى ومحمد.
إن المناداة المسيحية ـ الإسلامية التي انطلقت من أوروبا قبل عقد ونيف من السنوات بالدعوة إلى العمل المشترك ضد الظلم والتمييز العنصري وقتل الأبرياء والفسوق الأخلاقي والاجتماعي والعناية بقيم العائلة والأسرة والسلام وإنماء الشعوب الفقيرة وحماية البيئة يكاد يؤسس لميثاق خلاصي يؤكد أولوية الإنسان على الأشياء. إننا نعتقد أن الحوار مع الآخر وبالأخص الحوار الإسلامي المسيحي مطلب لا محيد عنه لإيجاد علاقة صحيحة وسلمية مع الغرب بقواه الفاعلة ومنها المؤسسات الدينية. فمن خلال الحوار والمصارحة والمكاشفة، وطرح الآراء القيمة، فإنها ستسهم في التعاون والتفاعل والتواصل بين الديانتين والحضارتين.
والواقع أن الإعلام يلعب دوراً هاماً في هذه العلاقات ودفع خطوات الحوار والتفاهم والتسامح إلى مرتبة مناسبة تنمو فيها مجالات التعاون بصورة مضطردة بعيداً عن الأحكام المسبقة والذهنية المغلوطة، وهذا دور الإعلام المنصف والعادل، مع استجابة وتوجيه من المؤسسات الفاعلة في الغرب، فالإعلام مهما كان موضوعياً فإنه يتأثر بنظرة المعلم، لأن للإنسان دور فاعل وإدارة فاعلة. والمعلن له أفكاره وله معتقداته… أتأمل أيضاً أن الإعلام من وجهة نظر روحية خلقية ونحن من الذين نولي وجهة النظر هذه أهميتها يمكن أن نميز فيه بين إعلام الكلمة وبين إعلام الكلمة الخبيثة. الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها تؤلف بين الناس تحقق هدف التعارف الأصيل والتعاون على البر والتقوى. فالحوار الإسلامي المسيحي يبتغي فقط النظرة العادلة والرغبة الصادقة بين الطرفين، لتجاوز الحساسيات والقضايا التي مضت عبر قرون كنتاج لسياسات قديمة، مع أهمية الاعتراف بخطئها وسلبيتها، ومن هنا نعتقد أن الحوار من هذا المنطلق سوف يحقق خطوات إيجابية إذا ما تأكدت الرغبة الصادقة في إنجاح الحوار.
فالفرصة سانحة اليوم لحوار مسيحي ـ إسلامي ينطلق من الشرق بثقافة المحبة والرحمة والتسامح وفق نموذج التعايش السلمي الذي امتد لقرون حتى الألفية الثالثة للميلاد. وبذلك ننتقل من مراحل الحوار إلى مرحلة التعاون من أجل المستقبل. وما نحتاجه في الراهن المعاصر وتحدياته هو تأصيل هذه الأفكار وصياغتها في مستوى إطلاقها كمبادرة واعدة من أجل السلام العالمي وهذا هو الوقت الملائم ليصبح لرسالة الحوار برامج ومؤسسات بعيداً عن هبوط البشرية إلى مستنقع القطيعة والصدام. وغداً أو بعد غد ستكشف الوثائق أن الأيادي التي فجرت كنائس العراق وسورية… هي نفسها التي فجرت مساجده، وأن الأيادي التي دمرت تمثال بوذا في أفغانستان هي نفسها التي أحرقت المصاحف القرآنية بشهادة جنود الاحتلال الأمريكي.
وبمعزل عن الحلول السحرية لإنجاح رسالة الحوار الإسلامي ـ المسيحي، فإن تحقيق عصمة الإنسانية من الفوضى والفساد وسفك الدماء سيلازم ترتيب معارج الخلاص في النظر التجريبي لمكابدات ـ الكدح ـ والتزكية ومجاهدة النفس الأمارة بالسوء والنفس اللوامة وصولاً إلى النفس المطمئنة بحسب المصطلح القرآني، إلى أن التغيير الخلاصي يجب أن ينطلق من مبتدأ تنقية الذاكرة وتطهير القلوب وتغيير الأنفس: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ).
كلمة أخيرة: أمام المسلمين والمسيحيين مشتركات كثيرة وفيرة، أهمها الإيمان بالله فلننطلق منه، فالديانات السماوية كلها تنادي بالوفاء والتسامح وأي تابع لديانة من هذه الديانات لا يقول بذلك فقد أعظم الفِرية على دينه. تعالوا ننتصر للإيمان الحق… نحن المارين من كل ذلك لا نريد أن نكون مارقين، ولا متسلقين، ولا منافقين فيها، ولا تجار أديان أو طوائف أو مذاهب، فلنكن مؤمنين بمكونها وخالقها وخلقها، فتبارك الله أحسن الخالقين في الحياة الروحية والمادية، وهو أحسننا، ولنكن مؤمنين نصلْ إلى بعضنا، وتنتهِ الفوارق.
كاتب صحفي وباحث في العلاقات الدولية.المغرب