الدرس الثاني عشر:الجهاد استعداد دائم
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
“كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ”
(سورة البقرة, الآية: 216)
تمهيد
إنّ الآيات الواردة في الجهاد كثيرة جدّاً، فمنها ما هو ناظر إلى بيان وجوب الجهاد، ومنها ما هو ناظر إلى بيان فضل الجهاد وثواب المجاهدين، ومنها ما هو ناظر إلى عاقبة المتخاذلين عن هذه الفريضة العظيمة.
والآية الكريمة تتحدّث عن وجوب الجهاد على المسلمين كافّة. وننطلق من هذه الآية المباركة ليرى كلّ فرد منّا مدى استعداده وجهوزيّته والتزامه بأداء تكليفه بفريضة الجهاد، وليعرف ما هو موقعه من حالة الصراع الدائم بين الحقّ والباطل وهل هو مستعدّ لتلبية نداء الجهاد في أيّ وقت وهل هو على جهوزيّة تامّة، أم يعيش حالة التسليم للأمر الواقع. إذ إنّ العالم الإسلاميّ اليوم منقسم إلى مجموعتين, الأولى ملتزمة بأوامر الله ومستعدّة للتضحية والجهاد في أيّ وقت وأيّ زمان، والثانية لاهية مستسلمة وغير مستعدّة للفداء، وأقصى همّها الدنيا وما فيها. فأين نحن من هاتين المجموعتين؟
التهديد مستمرّ:
إنّ العدوّ يتربّص بنا ويعمل في الليل والنهار لينال من الإسلام وليقضي على دين الله عزّ وجلّ، فهو لا يوفّر أيّ وقت ولا أيّ فرصة حتّى ينقضّ علينا ليحقّق أهدافه الدنيويّة ومشاريعه الشيطانيّة, الّتي تتعارض مع مبادئنا الإسلاميّة، ومع قيمنا الإنسانيّة، وليهدم أركان الإسلام ويبني فوق الركام لنفسه كياناً شيطانيّاً هدّاماً للقيم والمبادئ الأخلاقيّة تحت شعار “فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ” 1.
وإزاء هذا التهديد الذي يطرق أبوابنا في كلّ لحظة ويزلزل كياننا، حريّ بنا أن نسأل أنفسنا ماذا أعددنا له وكيف سنواجهه؟ وقبل الحديث عن الإعداد وسبل المواجهة لا بدّ من التطرّق إلى أهمّيّة الجهاد وما هي موقعيّته في الشريعة الإسلاميّة.
الجهاد وموقعه في الشريعة الإسلاميّة:
لقد أولت الشريعة الإسلاميّة الجهاد أهمّيّة كبيرة، وتحدّثت عن أبعاده وآثاره على الإسلام والمسلمين، فالجهاد في الإسلام باب واسع للرحمة الإلهيّة يصل عبره الإنسان إلى جنان الله حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ومن أبرز أثار الجهاد أنّه سبيل الصالحين والأولياء وطريق السعادة الأبدية، وفرصة لتهذيب النفس وصقلها بالمعارف والصفات الأخلاقيّة العالية والتخلّق بأخلاق الله.
ومن فضائل الجهاد أنّه:
أ- باب لخاصّة الأولياء:
عن أمير المؤمنين عليه السلام “الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه الله لخاصّة أوليائه”2 .
1- سورة ص، الآية: 82.
2- نهج البلاغة، الخطبة:25.
فلا يوفّق للجهاد أيّ شخص كان، بل أيّ مؤمن، لأّنه درجة الأولياء، بل خاصّة الأولياء، “وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ”3 .
ب- سبيل الفلاح:
يقول عزّ من قائل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ “4 .
ج- طريق المحبّة الإلهيّة:
فالجهاد أسرع الطرق لنيل محبّة الله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ “5 .
د- سبب المفاضلة:
إنّ الله جعل الجهاد سبباً للمفاضلة بين المؤمنين بحيث ينال المجاهدون ثواباً عظيماً جزاء لهم بما تحمّلوا وقاسوا في سبيل الله يقول تعالى:
“لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا “6 .
وفي آية أخرى يقول تعالى: ” وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا” 7.
هـ- الخير كلّه:
والجهاد يجمع كلّ الخير فقد حصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخير كلّه تحت ظلّه فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
3- سورة فصلت، الآية: 35.
4- سورة المائدة، الآية: 35.
5- سورة الصف، الآية: 4.
6- سورة النساء، الآية:95.
7- سورة النساء، الآية:95.
“الخير كلّه في السيف وتحت ظلّ السيف”8 .
و- سياحة أمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
والجهاد سياحة أمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورهبانيّتها، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: “سياحة أمّتي ورهبانيّتها الجهاد”9 . فمن أراد خير الانعزال عن الناس والدنيا، فأين هو عن حياة المجاهدين المتعلّقين بأثواب الرحمة والسالكين سبيل الكمال الأسرع؟
ز- أفضل الأعمال:
والجهاد أفضل من عبادة كلّ البشر، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: “ما أعمال العباد كلّهم عند المجاهدين في سبيل الله إلّا كمثل خطّاف أخذ بمنقاره من ماء البحر”10 .
من هنا فإنّ الحديث عن الجهاد هو اختصار لحقيقة الإسلام وعرض لمنهجه في تربية الإنسان، لذا فإنّ من الضروريّ فهم حقيقة الجهاد وموقعه المتميّز من الشريعة الإسلاميّة.
آثار التكاسل عن الجهاد:
إنّ الاندفاع إلى ساحات الجهاد والامتثال لأوامر الله عزّ وجلّ وسدّ الأبواب أمام المتآمرين على الإسلام والمسلمين يفتح لنا باباً لندخل في عداد أولياء الله، ونحصّن أمتنا ومجتمعاتنا أمام كلّ التحدّيات، وتكون العاقبة هي الفوز بجنان الله. وبالمقابل فإنّ التكاسل عن تلبية الدعوة الإلهيّة بوجوب الجهاد على مختلف أنواعه يكون سبباً في هزيمة المجتمع والأمّة ماديّاً ومعنوّياً، حيث إنّ تكاسلنا يُلبسنا ثوب الذلّ والهوان، ويسلّط الله علينا حكام الجور والضلال، وتعمّنا المصائب والبلايا
8- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج97، ص9.
9- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج16، ص53.
10- كنز العمّال، المتقي الهندي، ح 10680.
وتعمى بصائرنا عن الحقّ وسبل الرشاد، وليس ذلك إلّا لتقصيرنا وانشغالنا عن أمر فيه خير الدنيا والآخرة. وهذا ما أشار إليه أمام المجاهدين عليّ عليه السلام حيث قال: “فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذلّ، وشملة البلاء، وديّث بالصغار والقماءة11 ، وضُرب على قلبه بالأسداد 12، وأديل الحقّ منه بتضييع الجهاد وسيم الخسف13 ومُنع النّصف”14 .
الاستعداد للحرب:
يقول تعالى”وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ “15.
إنّ الاستعداد للحرب على كافّة الأصعدة من المبادئ الإسلاميّة التي حثّ عليها القرآن الكريم والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام. وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: “خذوا للحرب أهبّتها. وأعدّوا لها عدّتها. فقد شبّ لظاها وعلا سناها. واستشعروا الصبر فإنّه أدعى إلى النصر”16 . فالكفر يتحيّن الفرص للانقضاض علينا والفتك بنا، ومن الواجب أن لا يغفل المسلمون لحظة واحدة عن ذلك، وأن يجهّزوا أنفسهم بكلّ الوسائل التي يحتاجون إليها، فإنّ عنصر المباغتة من أمضى الأسلحة وأخطرها، ومن الخطأ أن ننتظر حتّى نتعرّض للهجوم بمختلف أشكاله ثم من بعده نفكّر كيف سنواجهه، ففي الحديث “من نام لم يُنم عنه” 17، فالمطلوب
11- ديّث: مبني للمفعول من ديثه أي ذلله وقمؤ الرجل ككرم قمأة وقماءة أي ذل وصغر.
12- الأسداد: جمع سدّ يريد الحجب الّتي تحول دون بصيرته والرشاد.
13- أديل الحقّ منه: أي صارت الدولة للحقّ بدله، وسيم الخسف أي أولى الخسف وكلفه والخسف الذلّ والمشقّة أيضاً والنصف بالكسر العدل، ومنع مجهول أي حرم العدل بأن يسلّط الله عليه من يغلبه على أمره فيظلمه.
14- نهج البلاغة، ج1، ص 68.
15- سورة الأنفال، الآية:60.
16- نهج البلاغة، ج1، ص 67.
17- شرح نهج البلاغة، ج17، ص 226.
الاستعداد على كافّة الميادين، والاستعداد لا يكون فقط على المستوى المادّي بل علينا أن لا ننسى الجانب الأهمّ وهو الجانب المعنويّ والإيمانيّ والروحيّ بتقوية العلاقة مع الله جلّ وعلا.
أ- الاستعداد المعنويّ:
إنّ الجهاد على صعيد الجانب المعنويّ يعدّ الخطوة الأولى في طريق المواجهة وإعداد النفس، وذلك يبرز من خلال تهذيب النفس وتحليتها بالصفات الحميدة والأخلاق الحسنة، وعبر الاتّكال على الله والاعتماد عليه، وفي هذا الصدد يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: “إنّكم أقوى من أعدائكم. إنّنا من حيث المعنويّات أقوى من جميع حشود العدوّ وجموعه، طبعاً هم يمتلكون مالاً أكثر وتقنيّة أرفع وأشياء أخرى كثيرة نحن بحسب الظاهر لا نمتلكها، لكن نحن لدينا شيء هم محرومون منه وهو التوكّل على الله، الله الّذي هو كلّ شيء والّذي هو أقوى من التقنيّة وعلوم البشر وكلّ موجودات العالم قاطبة، فإشارة واحدة منه تقلب الدنيا كلّها رأساً على عقب بأمره وإرادته، إنّ لدينا من ذلك التوكّل ويجب أن نحفظه، إنّه كنز فإذا كنّا نمتلكه بين أيدينا انتفعنا منه وإن نحن فقدناه سنفقد القوّة.
إنّنا في مهب عواصف الأحداث وككثير من الدول والشعوب لسنا سوى ريشة ضعيفة، وما يجعلنا مستمرّين ولا ننهزم أبداً هو التوكّل على الله فاحفظوا ذلك بقوة” 18.
ب- الاستعداد المادّيّ:
الاستعداد المادّيّ هو الخطوة الثانية الّتي يجب أن نسلكها في سعينا لإعداد أنفسنا لتلبية نداء الجهاد وردّ كيد الأعداء، فالجانب المعنويّ وحده غير كاف لإعداد عناصر المواجهة، بل المطلوب إلى جانب تهذيب النفس وتطويعها لخدمة الله والإسلام أن
18- نقلاً عن الجهاد من وجهة نظر الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله.
نجهّز كلّ وسائل النصر والثورة، وهو مبدأ قرانيّ يجسده قوله تعالى: “وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ “19 ، فللجانب المادّيّ دور أساس في تحقيق النصر ولا يكفي الجلوس والدعاء والتهجّد والتوسّل لله لينصرنا بل علينا أن نسعى لكي نصل إلى تحقيق ما نريده.
أنواع الجهاد:
إنّ للجهاد أشكالاً وأبعاداً متعدّدة وليس محصوراً فقط بالجانب العسكريّ. وهذا ما أشار له سماحة السيّد القائد بقوله: وللجهاد ميادينه ومن ميادينه المشاركة في القتال المسلّح. وهناك الميدان السياسيّ وميدان العلم وكذلك الأخلاق، وليس الجهاد مجرّد قتال وتوجّه إلى سوح الحرب فالسعي في ميادين العلم والأخلاق والتعاون السياسيّ والبحث العلميّ يعدّ أيضاً جهاداً، وصنع الثقافة والأفكار السليمة في المجتمع هو أيضاً جهاد. فإذن ليس المعيار الجهاد بالسيف في ساحات القتال وإنّما المعيار هو الكفاح 20.
لذلك فللجهاد أشكال متعدّدة نذكر منها:
أ- الجهاد الثقافيّ:
يقول تعالى: “فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا”21 .
لا شكّ أنّ المقصود من الجهاد في هذا الموضع هو الجهاد الفكريّ والثقافيّ والتبليغيّ وليس الجهاد المسلّح، ذلك لأنّ هذه السورة مكيّة، والأمر بالجهاد المسلّح لم يكن قد نزل في مكّة. وعلى قول العلّامة الطبرسي في مجمع البيان: “إنّ هذه
19- سورة الأنفال، الآية: 60.
20- نقلاً عن الجهاد من وجهة نظر الإمام السيّد علي الخامنئي دام ظله.
21- سورة الفرقان، الآية:52.
الآية دليل واضح على أن الجهاد الفكريّ والتبليغيّ في مواجهة وساوس المضلّين وأعداء الحقّ من أكبر أنواع الجهاد”22 .
وهذه الآية تحمل خطاباً للنبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بمجاهدة الكافرين بالقرآن، حيث إنّ القرآن من أبرز مصاديق المواجهة الفكريّة، ويدعوه تعالى إلى مجاهدتهم به جهاداً كبيراً بعظمة رسالته، وبعظمة جهاد كلّ الأنبياء الماضين عليهم السلام، الجهاد الّذي يشمل جميع الأبعاد الروحيّة والفكريّة للناس، ويشمل كلّ الأصعدة الماديّة والمعنويّة.
ونحن أتباع النبيّ العظيم محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم علينا اتّباع سبيله في جهاد الكافرين والمنكرين جهاداً ثقافيّاً عمدته وأساسه القرآن الكريم.
ب- الجهاد السياسيّ والاقتصاديّ:
“وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً”23 .
إنّ الجهاد السياسيّ والاقتصاديّ هو أحد أوجه التصدّي للعدوّ ومواجهته، لأنّه حينما يفشل العدوّ في الجانب العسكريّ فإنّه لن يتوانى عن محاربتنا سياسيّاً ومحاصرتنا اقتصاديّاً وبتشكيل قوّة ضغط كبيرة قد تلحق بنا الأذيّة والوهن وتشوّه صورتنا، كما يمكن أن نكون شركاء في تقوية اقتصاده عبر الترويج لمنتجاته وشرائها فيتحوّل العدوّ إلى قوّة متسلّطة علينا ويصبح من الصعب إزالتها وهزيمتها، ولذا نجد الإمام الخمينيّ قدس سره ومن موقع مرجعيّته الدينيّة وببصيرته الثاقبة يشير إلى سبل تسلّط العدو على المجتمع الإسلاميّ، ويدعو إلى يقظة الأمّة الإسلاميّة ومشاركتها في الجهاد السياسيّ والاقتصاديّ قبل أن يتمكّن العدوّ من السيطرة علينا، فقد أفتى في هذا المجال بأنّه: “لو خيف على حوزة الإسلام من الاستيلاء السياسيّ والاقتصاديّ الذي يؤدّي إلى أسرهم السياسيّ والاقتصاديّ ووهن
22- مجمع البيان، الطبرسي، ج7، ص175.
23- سورة النساء، الآية:141.
الإسلام والمسلمين عندها يجب الدفاع بالوسائل عينها، كترك شراء أمتعتهم، وترك استعمالها، وترك المراودة والمعاملة معهم مطلقاً. ولو كان في المراودات التجاريّة وغيرها مخافة على حوزة الإسلام وبلاد المسلمين من استيلاء الأجانب عليها سياسيّاً أو غيرها الموجب لاستعمارهم أو استعمار بلادهم ولو معنويّاً يجب على كافّة المسلمين التجنّب عنها، وتحرم تلك المراودات وكذلك لو كانت الروابط السياسيّة بين الدول الإسلاميّة والأجانب موجبة لاستيلائهم على بلادهم أو نفوسهم أو أموالهم أو موجبة لأسرهم السياسيّ يحرم على رؤساء الدول تلك الروابط والمناسبات، وبطلت عقودها، ويجب على المسلمين إرشادهم وإلزامهم على تركها ولو بالمقاومات المنفية”24 .
ج- الجهاد الماليّ:
يقول تعالى: “الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ” 25.
إنّ الجهاد بالمال هو باب من أبواب التصدّي والمواجهة وطريق يسلكه الإنسان للوصول إلى ربّه راضياً مرضيّاً فيحوز المجاهد بماله أجر المجاهدين الماكثين على المحاور، وفي سوح الجهاد والفداء، وثوابه ومكانته لا تقلّ عن ثوابهم ومكانتهم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “من أعان غازياً بدرهم، فله مثل أجر سبعين دُرّاً من درر الجنّة وياقوتها، ليست منها حبّة إلّا وهي أفضل من الدنيا” 26.
وقد أوصى الإمام عليّ عليه السلام بالبذل والعطاء في سبيل حماية الإسلام والمسلمين فقال عليه السلام: “الله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله،
24- تحرير الوسيلة، الإمام الخمينيّ، ج1، ص485.
25- سورة التوبة، الآية:20.
26- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج11، ص24
وعليكم بالتواصل والتباذل”27 .
وإذا استطلعنا الآيات القرآنيّة نجد أنّ هناك عشر آيات في القرآن الكريم ورد فيها ذكر الجهاد بالمال جنباً إلى جنب الجهاد بالنفس، وليس ذلك إلّا إشارة إلى أهميّة وأثر الجهاد بالمال على المسيرة الجهاديّة للأمّة الإسلاميّة ما تلبث أن تظهر آثاره في الدنيا ومن ثمّ في الآخرة حيث الفوز العظيم.
إحدى الحسنيين:
ينبغي أن نلتفت إلى أمر مهمّ جدّاً وهو أنّ الله تبارك وتعالى مسدّد لخطى المجاهدين وهو معهم أينما حلّوا ووعدهم بالنصر المحتّم الّذي لا لُبس فيه حيث يقول جلّ اسمه: ” كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ”28 . وعن تسديد المجاهدين يقول تعالى:”الَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ” 29.
فالمجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ أمام أمرين لا ثالث لهما إمّا النصر وإمّا الشهادة وبالاثنين يحقّق سعادة الدنيا والآخرة.
27- نهج البلاغة، ج 3، ص 77.
28- سورة الروم، الآية: 47.
29- سورة العنكبوت، الآية:69.
مطالعة
تزكية النفس الجهاد الأكبر
جاء الإسلام أساساً لبناء الحياة، ونظره لبناء الإنسان. الجهاد من أجل الحياة حياة الإنسان نفسه، وهو مقدّم على كلّ جهاد. لذا سمّاه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الجهاد الأكبر. فالجهاد عظيمٌ إذن، وكلّ الفضائل تأتي بعده.
الجهاد الأكبر هو جهاد الإنسان لنفسه الطاغوتيّة. وعليكم أيّها الشبّان أن تشرعوا من الآن بهذا الجهاد. لا تدعوا قوى شبابكم تتبدّد. فكلّما ذهبت قوى الشباب من الإنسان زادت جذور الأخلاق الفاسدة في الإنسان وتعقّدت، وصعب الجهاد.
والشاب يستطيع أن ينتصر في هذا الجهاد سريعاً، ولا يستطيع الشيخ بلوغ هذا النصر بسرعة. لا تَدَعوا إصلاح أحوالكم يتدحرج من الشباب إلى الشيخوخة، فهذا في مكايد النفس التي تكيدها لصاحبها، وهو ما يقترحه الشيطان على الإنسان أن دَع إصلاح نفسك إلى آخر العمر، وتمتّع بشبابك الآن وتُب في آخر العمر. هذا طرح شيطانيّ تقدّمه النفس بتعليم الشيطان الأكبر.
فالإنسان يستطيع إصلاح نفسه ما دامت قوى شبابه وروحه اللطيف في منأىً عن جذور الفساد. أمّا إذا ضربت جذور الفساد في نفسه واشتدّتْ، فلا إمكان للإصلاح في ذلك الوقت. أنتم الآن مهيّأون أيّها الشباب لمجاهدة النفس وبنائها، وهذا الجهاد هو الجهاد الأكبر، لأنّه مبذول في بناء أنفسكم وهو مفيد لبلادكم، فكونوا خَدَمها، ويجب أن تبدأوا من هذه السنين بصناعة رجال ينقذون البلاد بكمالهم.
إذا صنعتم أنفسكم هكذا، وجذَّرتم الفضائل الإنسانيّة فيها، فإنّكم منتصرون في ذلك الوقت في كلّ المراحل، وتستطيعون أن تُنقذوا بلادكم، وأولئك الذين قادوا بلادنا إلى البَوار، قادوها لأنّ بناء أنفسهم كان مُتداعياً، فقد كانوا ذوي أخلاق فاسدة وعقائد فاسدة وأعمال فاسدة. ولو كانوا قد طهّروا أنفسهم، لَما خانوا الشعب ولا الإسلام .30
30- صحيفة الإمام (ترجمة عربية)، ج8, ص 237.