الرئيسية / القرآن الكريم / صيانة الآثار من منظار القرآن الكريم

صيانة الآثار من منظار القرآن الكريم

( 28 )

المبحث الثاني :

صيانة الآثار من منظار القواعد الفقهيّة

الأصل في الأشياء الإباحة والحلّية

إنّ الأصل في الأشياء هو الإباحة ما لم يرد فيها نهي في الشريعة ،
وهذه هي القاعدة المحكمة الّتي اعتمد عليها الفقهاء عبر القرون إلاّ المتزمّتين
غير الواعين .

حتّى أنّ الذكر الحكيم يصرّح بأنّ وظيفة النبيّ الأكرم هو بيان المحرّمات دون المحلّلات ، وأنّ الأصل هو حلّية كلّ عمل وفعل ، إلاّ أن يجد النبيّ حرمته في شريعته ، وأنّ وظيفة الأُمّة هو استفراغ الوسع في استنباط الحكم من أدلّته ، فإذا لم تجد دليلا على الحرمة تحكم عليه بالجواز .

ونكتفي في هذا المقام بالإشارة إلى مجموعة من الآيات ، وإن كان في السنّة الغرّاء أيضاً كفاية :

1 ـ قال سبحانه : ( وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْم إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ)(1) .

فإنّ هذه الآية تكشف عن أنّ الّذي يحتاج إلى البيان إنّما هو المحرّمات لا المباحات ، ولأجل ذلك لا وجه للتوقّف في العمل ، بعدما لم يكن مبيّناً في جدول المحرّمات .

وبعبارة أُخرى : أنّ المسلم إذا لم يجد شيئاً في جدول المحرّمات لم يكن له تبرير لتوقّفه وعدم الحكم عليه بالإباحة والجواز والحلّية .

2 ـ قال سبحانه : ( قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِم يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِير فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً اُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الأنعام : 119 .


( 29 )

بِهِ)(1) .

إنّها تكشف عن أنّ ما يلزم بيانه إنّما هو المحرّمات لا المباحات ، ولذلك يستدلّ مبلغ الوحي ـ ونعني به النبيّ الكريم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ـ بأنّه لا يجد فيما أُوحي إليه محرّماً على طاعم يطعمه سوى الأُمور المذكورة ، فإذا لم يكن هناك منها شيء فهو محكوم بالحلّية والإباحة .

3 ـ قال سبحانه : ( مَنِ اهْتَدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا)(2) .

4 ـ قال سبحانه أيضاً : ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ)(3) .

إنّ دلالة هاتين الآيتين على المقام واضحة ، فإنّ جملة «وما كان» تارة تستعمل في نفي الشأن والصلاحية ، وأُخرى في نفي كون الشيء أمراً ممكناً .

أمّا الأوّل ، فمثل قوله : ( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ
رَحِيمٌ
)(4) وغيرها كسورة آل عمران(5) ، أي ليس من شأن الله سبحانه وهو العادل الرؤوف أن يضيع إيمانكم .

وأمّا الثاني ، فمثل قوله : ( مَا كَانَ لِنَفْس أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُؤَجَّلا)(6) ، أي لا يمكن لنفس أن تموت بدون إذنه سبحانه .

فيكون معنى الآيتين بناءً على الاستعمال الأوّل : هو ليس من شأن الله تعالى أن يعذّب الناس أو يهلكهم قبل أن يبعث إليهم رسولا .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الأنعام : 145 .

(2) الإسراء : 15 .

(3) القصص : 59 .

(4) البقرة : 143 .

(5) الآيات 79 و 161 .

(6) آل عمران : 145 .


( 30 )

وعلى الاستعمال الثاني : هو ليس من الممكن أن يعذّب الله الناس أو يهلكهم قبل أن يبعث إليهم رسولا .

وعلى كلّ تقدير ، فدلالة الآيتين على الإباحة واضحة; إذ ليست لبعث الرسل خصوصية وموضوعية ، ولو أُنيط جواز العذاب ببعثهم فإنّما هو لأجل كونهم وسائط للبيان والإبلاغ ، والملاك هو عدم جواز التعذيب بلا بيان وإبلاغ ، وأنّ التعذيب بلا بيان وإبلاغ ليس من شأنه سبحانه ، أو أنّه ليس أمراً ممكناً حسب حكمته .

5 ـ قال سبحانه : ( وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَة إِلاَّ وَلَهَا مُنْذِرُونَ)(1) .

فإنّ هذه الآية مشعرة بأنّ الهلاك كان بعد الإنذار والتخويف ، وأنّ اشتراط الإنذار كناية عن البيان وإتمام الحجّة .

6 ـ قوله سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَاب مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى)(2) .

فإنّ هذه الآية تدلّ على أنّ التعذيب قبل بعث الرسول مردود بحجّة المعذّبين وهي قولهم : ( لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ) ، فلا يصحّ التعذيب إلاّ بعد إتمام الحجّة عليهم ببعث الرسل .

وهذا يعني أنّ الأشياء مباحة جائزة الارتكاب خالية عن العقوبة أصلا ، إلاّ إذا ردع عنها الشارع بشكل من الأشكال الّتي منها إرسال الأنبياء .

7 ـ قوله سبحانه : ( يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَة مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِير وَلاَ نَذِير فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِير)(3) .

فإنّ ظاهر قوله : ( مَا جاءَنَا مِنْ بَشِير وَلاَ نَذِير) أنّه حجّة تامّة صحيحة ، ويحتجّ به على

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الشعراء : 208 .

(2) طه : 134 .

(3) المائدة : 19 .


( 31 )

كلّ من عذّب قبل البيان ، ولأجل ذلك قام سبحانه بإرسال الرسل حتّى لا يُحتج عليه ، بل تكون الحجة لله سبحانه .

وهذا يدلّ على أنّه لا يحكم على حرمة شيء ، ولا يجوز التعذيب على ارتكابه قبل بيان حكمه; وذلك لأنّ بعث البشير والنذير كناية عن بيان الأحكام .


( 32 )

المبحث الثالث :

المشاهد والمقابر من خلال سيرة المسلمين في خير القرون

قد تعرّفت على قضاء الكتاب في تكريم الأنبياء والأولياء ، وأنّ البناء على قبورهم أو بناء المساجد حول مراقدهم أمر محبّذ; ندبت إليه الشريعة الإلهيّة ، ولم ترَ أيّ أثر فيها للتحريم ، وعلى ذلك درج السلف الصالح عبر القرون ، ولم يزل الإلهيّون من أهل الكتاب والمسلمين على مدى العصور يهتمّون بمقابر الأنبياء والأولياء بالبناء والتعمير ثمّ التطهير والتنظيف لها ، حتّى أنّ كثيراً من المتمكّنين يُخصّصُون شيئاً من أموالهم لهذه الغاية .

فهذه القباب الشاهقة والمنائر الرفيعة والساحات الوسيعة حول مراقد الأنبياء والأولياء وحول مراقد صحابتهم في مختلف الديار شرقها وغربها ، لهي دليل قاطع على أنّ هذه السيرة سيرة مشروعة ، وإلاّ كان على الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان رفضها وردّها بالبيان والبنان والسلطة والقوّة ، وإلاّ فالسكوت عليها إلى عصر إثارة هذه الشكوك ، عصر ابن تيمية ، أدلّ دليل على كونها سيرة مشروعة .

وعندما قام ابن تيمية بوجه هذه السيرة أثار ثائرة المسلمين ضدّه شرقاً وغرباً ، وقد بيّنوا ضلالة تلك الفكرة وانحرافها عن الشرع .

وقد وقف السلف الصالح ـ بعد فتح الشام ـ على قبور الأنبياء ذوات البناء الشامخ ، فتركوها على حالها من دون أن يخطر ببال أحدهم ـ وعلى رأسهم عمر بن الخطاب ـ بأنّ البناء على القبور أمر محرّم يجب هدمه .

وهكذا الحال في سائر القبور المشيّدة عليها الأبنية في أطراف العالم ، وإن كنت في ريب فاقرأ تواريخهم .

ولو قام باحث بوصف الأبنية الشاهقة الّتي كانت مشيّدة على قبور الأنبياء والصالحين قبل ظهور الإسلام ، وما بناه المسلمون في عصر الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يومنا هذا في مختلف


( 33 )

البلدان ، لجاء بكتاب فخم ضخم ، يعرب عن أنّ السنّة الرائجة في تلك الأعصار قبل الإسلام وبعده ، من عصر الرسول والصحابة والتابعين لهم إلى يومنا هذا ، هي مشروعيّة البناء على القبور والعناية بحفظ آثار علماء الدين ، ولم ينبس أي ابن أُنثى حول ذلك ببنت شفة ، وما اعتُرض عليها ، بل تلقّوها إظهاراً للمحبّة والودّ لأصحاب الرسالات والنبوّات وأصحاب العلم والفضل ، ومن خالف تلك السنّة وعدّها شركاً أو أمراً محرّماً فقد اتّبع غير سبيل المؤمنين ، قال سبحانه :

( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً)(1) .

وقد وارى المسلمون جسد النبيّ الأكرم في بيته المسقّف ، ولم يزل المسلمون منذ واروا جثمانه ، على العناية بحجرته الشريفة بشتّى الأساليب .

وقد بنى عمر بن الخطاب حول حجرته جداراً ، حيث جاء تفصيل كلّ ذلك مع ذكر وصف الأبنية الّتي توالت عليها عبر القرون في الكتب المتعلّقة بتاريخ المدينة ، لا سيّما وفاء الوفا للإمام السمهودي المتوفّى عام 911 هـ(2) ، والبناء الأخير
الّذي شيّد عام 1270هـ قائم لم يمسّه سوء ، وسوف يبقى بفضل الله تبارك وتعالى محفوظاً عن الاجتراء .

وأمّا المشاهد والقباب المبنيّة في المدينة منذ العصور الأُولى فحدّث عنها ولا حرج ، لا سيّما في بقيع الغرقد ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتب التاريخ وأخبار المدينة .

وقد ذكر كثير من المؤرّخين والسيّاح شيئاً كثيراً من أبنية شاهقة على قبور الأنبياء والصالحين في خير القرون .

وبدورنا نذكر شيئاً يسيراً ممّا جاء في كتبهم ، ونكتفي بذكر كلمات ثلاثة من المؤرّخين

المعروفين بالتثبّت والضبط ، ثمّ نذكر ما ذكره الرحّالة المعروف ابن جبير في رحلته على وجه التفصيل :

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) النساء : 115 .

(2) وفاء الوفا 2  : 458 الفصل التاسع .

( 34 )

1 ـ كلمة المسعودي في حقّ قبور أئمة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ

هذا هو المسعودي الّذي توفّي عام (345هـ ) ، وقد أدرك خير القرون ، وولد في أواخره ـ إذا كان خير القرون هو القرون الثلاثة الأُولى ـ يقول :

وعلى قبورهم في هذا الموضع من البقيع رخامة مكتوب عليها : بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله مبيد الأُمم ومحيي الرمم ، هذا قبر فاطمة بنت رسول الله ـ عليهما السلام ـ سيّدة نساء العالمين، وقبر الحسن بن عليّ بن أبي طالب ، وعليّ بن الحسين بن أبي طالب ، ومحمّد بن علي، وجعفر بن محمد(1) .

 

2 ـ كلمة ابن الجوزي :

 

يقول ابن الجوزي : وهذا هو محمد بن أبي بكر التلمساني يصف المدينة الطيّبة وبقيع الغرقد في القرن الرابع بقوله : وقبر الحسن بن علي عن يمينك إذا خرجت من الدرب ترفع إليه قليلا ، عليه مكتوب : هذا قبر الحسن بن علي ، دفن إلى جنب أُمّه فاطمة رضي الله عنها وعنه(2) .

3 ـ كلمة الحافظ محمد بن محمود بن النجّار :

يقول : والقبران (أي قبر العباس بن عبد المطلب، وقبر الحسن بن علي ومعه السجّاد والباقر والصادق ـ عليهم السلام ـ ) في قبّة كبيرة عالية قديمة البناء في أوّل البقيع ، وعليها بابان يفتح أحدهما في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مروج الذهب ومعادن الجوهر 2  : 288 .

(2) مجلة العربي  : العدد السادس سنة 1393هـ .


( 35 )
كلّ يوم للزيارة رضي الله عنهم(1) .

4 ـ الرحّالة ابن جبير والأبنية على المشاهد :

هذا هو أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الأندلسي الشاطبي ، أحد علماء الأندلس الأكابر في الفقه والحديث ، يحكي لنا في رحلته عن الأبنية الرفيعة والقباب العالية في المشاهد والمزارات المعروفة يومذاك للأنبياء والصالحين والنبيّ الأكرم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وأهل بيته وصحابته والتابعين لهم بإحسان .

فقد قام برحلات ثلاث ، أهمّها استغرقت أكثر من ثلاث سنوات ، حيث بدأها يوم الاثنين في التاسع عشر من شهر شوال سنة 578 هـ ، و ختمها في يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر محرم سنة 581 هـ ، وقد وصف في هذه الرحلة ما مرّ به من مدن وما شاهد من عجائب البلدان .

كما وعنى عناية خاصة بوصف النواحي الدينية والمساجد والمشاهد وقبور الأنبياء والأولياء وأهل البيت والصحابة والتابعين ، وصفاً دقيقاً ، يعرب عن أنّ هذه القباب والأبنية الرفيعة شُيّدت من قبل قرون تتّصل إلى عصر الصحابة والتابعين .

ولم يكن يومذاك أيُّ معترض على بنائها فوق قبور هؤلاء ، ولم يدر بِخَلَدِ أحد أنّ هذه القباب والأبنية ستبعدنا عن التوحيد ، بل كانوا يتبرّكون بهذا العمل ويبدون ما في مشاعرهم من ودّ وحبّ لأصحابها .

وكان التبرّك والتقبيل سنّة رائجة بين المسلمين ، وهم لم يكونوا يقبّلون باباً ويتبرّكون بجدار ، بل يتبرّكون بمن حوتهم ، على حدّ قول مجنون بني عامر :

 

أمرُّ على الديار ديار ليلى * أُقبِّل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حبّ الديار شغفن قلبي * ولكن حبّ من سكن الديارا

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أخبار مدينة الرسول : 153 تحقيق صالح محمد جمال ـ ط . مكة المكرمة سنة 1401هـ .


( 36 )
 

وفيما يلي نشير بشكل مقتضب إلى مجمل كلامه :

مشهد رأس الحسين بالقاهرة :

يقول ابن جبير في ذكر مصر والقاهرة وبعض آثارها العجيبة : فأوّل ما نبدأ بذكره منها الآثار والمشاهد المباركة الّتي ببركتها يمسكها الله عزّ وجلّ ، فمن ذلك المشهد العظيم الشأن الّذي بمدينة القاهرة حيث رأس الحسين بن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهما ، وهو في تابوت فضّة مدفون تحت الأرض قد بُنيَ عليه بنيان حفيل يقصر الوصف عنه ولا يحيط الإدراك به . . . .

إلى أن يقول : ومن أعجب ما شاهدناه في دخولنا إلى هذا المسجد المبارك حجر موضوع في الجدار الّذي يستقبله الداخل ، شديد السواد والبصيص ، يصف الأشخاص كلّها ، كأنّه المرآة الهندية الحديثة الصقل .

وشاهدنا من استلام الناس للقبر المبارك ، وإحداقهم به ، وانكبابهم عليه ، وتمسّحهم بالكسوة الّتي عليه ، وطوافهم حوله ، مزدحمين داعين باكين متوسّلين إلى الله سبحانه وتعالى ببركة التربة المقدّسة ، ومتضرّعين ما يذيب الأكباد ويصدع الجماد ، والأمر فيه أعظم ، ومرأى الحال أهول ، نفعنا الله ببركة ذلك المشهد الكريم(1) .

مشاهد الأنبياء وأهل البيت في مصر :

يقول ابن جبير عن الجبّانة المعروفة بالقرافة : هي أيضاً إحدى عجائب الدنيا ، لِما تحتوي عليه من مشاهد الأنبياء صلوات الله عليهم ، وأهل البيت رضوان الله عليهم ، والصحابة والتابعين والعلماء والزهّاد والأولياء . . . فمنها قبر ابن النبي صالح ، وقبر روبيل بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليهم أجمعين ، وقبر آسية امرأة فرعون رضي الله عنها ، ومشاهد أهل البيت رضي الله عنهم أجمعين; مشاهد أربعة عشر من الرجال ، وخمس من النساء(2) .

إلى أن يقول : مشهد عليّ بن الحسين بن عليّ..  ، ومشهدان لابنَي جعفر بن محمد الصادق رضي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رحلة ابن جبير : ص18 ـ 19 ، ط . بيروت 1986 .

(2) المصدر السابق .


( 37 )
الله عنهم ، والقاسم بن محمد بن جعفر الصادق بن محمد بن علي زين العابدين المذكور ، رضي الله عنهم ، ومشهدان لابنيه الحسن والحسين رضي الله عنهما ، ومشهد ابنه عبد الله بن القاسم .. ، ومشهد ابنه يحيى بن القاسم ، ومشهد عليّ بن عبد الله بن القاسم ، رضي الله عنهم ، ومشهد أخيه عيسى بن عبد الله ، رضي الله عنهما ، ومشهد يحيى بن الحسن بن زيد بن الحسن ، رضي الله عنهم ، ومشهد محمد بن عبد الله بن محمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي ، رضي الله عنهم ، ومشهد جعفر بن محمد من ذريّة عليّ بن الحسين ، رضي الله عنهم .

وأمّا عن النساء فيقول ابن جبير : مشهد السيّدة اُمّ كلثوم ابنة القاسم بن محمد ابن جعفر ، رضي الله عنهم ، ومشهد السيّدة زينب ابنة يحيى بن زيد بن علي بن الحسين ، رضي الله عنهم ، ومشهد أُمّ كلثوم ابنة محمد بن جعفر الصادق رضي الله عنهم ، ومشهد السيّدة أُمّ عبد الله بن القاسم بن محمد ، رضي الله عنهم(1) .

مشاهد الصحابة في مصر :

ويذكر أيضاً من المشاهد في قوله : مشهد معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ  ، مشهد عقبة بن عامر الجهني حامل راية رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  ، مشهد صاحب بردة الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  ، مشهد أبي الحسن صائغ رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  ، مشهد سارية الجبل ـ رضي الله عنه ـ  ، مشهد محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ، مشهد أولاده رضي الله عنهم ، مشهد أحمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ، مشهد أسماء ابنة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ، مشهد ابن الزبير بن العوام رضي الله عنهما ، مشهد عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، مشهد ابن حليمة رضيع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ (2) .

 

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رحلة ابن جبير : 20 ، ط . بيروت 1986 .

(2) المصدر السابق : ص21 .


( 38 )
مشاهد الفقهاء الكبار في مصر :

وعن مشاهد الأئمة العلماء الزهّاد يقول : مشهد الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ  ، وهو من المشاهد العظيمة احتفالا واتّساعاً ، وبُني بإزائه مدرسة لم يُعْمَر بهذه البلاد مثلها ، يخيّل لمن يطوف عليها أنّها بلد مستقل بذاته ، بإزائها الحمّام ، إلى غير ذلك من
مرافقها ، والبناء فيها حتّى الساعة ، والنفقة عليها لا تُحصى ، تولّى ذلك بنفسه الشيخ الإمام الزاهد العالم المعروف بنجم الدين الحُبوشاني .

وسلطان هذه الجهات صلاح الدين ، يسمح له بذلك كلّه ويقول : زد احتفالا وتأنّقاً وعلينا القيام بمؤونة ذلك كله ، فسبحان الّذي جعله صلاح دينه كاسمه(1) .

ثمّ يذكر مشاهد أُخرى ويقول :

مشهد المُزَنيّ صاحب الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ  ، مشهد أشهب صاحب مالك ـ رضي الله عنه ـ  ، مشهد عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك رضي الله عنهما ، مشهد أصبغ صاحب مالك رضي الله عنهما ، مشهد القاضي عبد الوهاب ـ رضي الله عنه ـ  ، مشهد عبد الله بن عبد الحكم ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم رضي الله عنهما ، مشهد الفقيه الواعظ الزاهد أبي الحسن الدينوري ـ رضي الله عنه ـ  ، مشهد بُنان العابد ـ رضي الله عنه ـ  ، مشهد الرجل الصالح العابد الزاهد المعروف بصاحب الإبريق ، وقصّته عجيبة في الكرامة ، مشهد أبي مُسلم الخَوْلاني ـ رضي الله عنه ـ  ، مشهد المرأة الصالحة المعروفة بالعيناء رضي الله عنها ، مشهد الروذباريّ ـ رضي الله عنه ـ  ، مشهد محمد بن مسعود بن محمد بن هارون الرّشيد المعروف بالسّبتي ـ رضي الله عنه ـ  ، مشهد الرجل الصالح مُقبل الحبشيّ ـ رضي الله عنه ـ  ، مشهد ذي النون ابن إبراهيم المصري ـ رضي الله عنه ـ  ، مشهد القاضي الأنباري ، قبر الناطق الّذي سُمع عند وضعه في لحده يقول : اللّهمّ أنزلني مُنزلا مباركاً وأنت خيرُ المنزلين ـ رضي الله عنه ـ  ، مشهد العروس ولها أثر من الكرامة في حال جَلْوَتها على زوجها لم يُسمع أعجب منه ، مشهد الصامت الّذي يُحكى عنه أنّه لم يتكلّم أربعين سنة ، مشهد العصافيري ، مشهد عبد العزيز بن أحمد بن علي بن الحسن الخوارزمي ، مشهد الفقيه الواعظ الأفضل الجوهريّ ومشاهد أصحابه بإزائه رضي الله عنهم أجمعين ، مشهد شُقْران شيخ ذي النّون المصري ، مشهد الرجل الصالح المعروف بالأقطع المغربيّ ، مشهد المقرئ وَرْش ، مشهد الطبري ، مشهد شيبان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رحلة ابن جبير : ص18 ـ 19 ، ط . بيروت 1986 .


( 39 )
الراعي .

والمشاهد الكريمة بها أكثر من أن تُضبَط بالتقييد أو تتحصّل بالإحصاء ، وإنّما ذكرنا منها ما أمكنَتْنا مشاهدتهُ .

وبقبلة القرافة المذكورة بسيط متّسع يُعرف بموضع قبور الشهداء ، وهم الذين استُشهدوا مع سارية رضي الله عن جميعهم ، والبسيط المذكور مُسنّم كلّه للعيان على مثال أسنِمة القبور دون بناء(1) .

القباب الرفيعة لأهل البيت في مكّة المكرّمة :

وعن مشاهد مكّة المكرّمة يقول ابن جبير : فمن مشاهدها الّتي عاينّاها قبّة الوحي; وهي في دار خديجة أُمّ المؤمنين رضي الله عنها ، وبها كان ابتناء النبيّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بها ، وقبّة صغيرة أيضاً في الدار المذكورة فيها كان مولد فاطمة الزهراء رضي الله عنها ، وفيها أيضاً ولدت سيديّ شباب أهل الجنّة; الحسن والحسين رضي الله عنهما ، وهذه المواضع المقدّسة المذكورة مغلقة مصونة قد بنيت بناءً يليق بمثلها .

ومن مشاهدها الكريمة أيضاً مولد النبيّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  ، والتربة الطاهرة الّتي هي أوّل تربة مسّت جسمه الطاهر بُني عليها مسجد لم يُر أحفل بناءً منه ، أكثره ذهب منزّل به ، والموضع المقدّس الّذي سقط فيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ساعة الولادة السعيدة المباركة الّتي جعلها الله رحمةً للأُمّة أجمعين محفوف بالفضة .

ثمّ يعد بعض المشاهد فيقول : دار الخيزران; وهي الدار الّتي كان النبيّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يعبد الله فيها سراً مع الطائفة الكريمة المبادرة للإسلام من أصحابه رضي الله عنهم… دار أبي بكر الصديق . . . قبّة بين الصفا والمروة تنسب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رحلة ابن جبير : ص21 ـ 22 ، ط . بيروت 1986 .


( 40 )
لعمر ابن الخطاب . . .(1)

يقول ابن جبير : دخلنا مولد النبيّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  ، وهو مسجد حفيل البنيان وكان داراً لعبد الله بن عبد المطلب . . . إلى أن يقول : وعلى مقربة منه أيضاً مسجد عليه مكتوب : هذا المسجد هو مولد عليّ بن أبي طالب ، رضوان الله عليه ، وفيه تربّى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  ، وكان داراً لأبي طالب عمّ النبيّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وكافله(2) .

المشاهد المكرّمة ببقيع الغرقد :

وفي ذكر المشاهد المكرّمة ببقيع الغرقد يقول ابن جبير : فأوّل ما نذكر من ذلك مسجد حمزة ـ رضي الله عنه ـ  ، وهو بقِبْلَي الجبل المذكور ، والجبل جوفيّ المدينة ، وهو على مقدار ثلاثة أميال ، وعلى قبره ـ رضي الله عنه ـ مسجد مبنيّ ، والقبر برحبة جوفي المسجد ، والشهداء رضي الله عنهم بإزائه . . . وحول الشهداء تربة حمراء هي التربة الّتي تنسب إلى حمزة ويتبرّك الناس بها .

وبقيع الغرقد شرقي المدينة ، تخرج إليه على باب يعرف بباب البقيع ، وأوّل ما تلقى عن يسارك عند خروجك من الباب المذكور مشهد صفيّة عمّة النبيّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أُمّ الزبير بن العوام ـ رضي الله عنه ـ  ، وأمام هذه التربة قبر مالك بن أنس الإمام المدني ـ رضي الله عنه ـ وعليه قبّة صغيرة مختصرة البناء ، وأمامه قبر السلالة الطاهرة إبراهيم ابن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وعليه قبّة بيضاء ، وعلى اليمين منها تربة ابن لعمر بن الخطاب  ـ رضي الله عنه ـ اسمه عبد الرحمن الأوسط ، وهو المعروف بأبي شَحْمة ، وهو الّذي جَلَده أبوه الحدّ ، فمرض ومات ، رضي الله عنهما ، وبإزائها قبر عقيل بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ  ، وعبد الله بن جعفر الطيار ـ رضي الله عنه ـ  ، وبإزائهم روضة فيها أزواج النبيّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  ، وبإزائها روضة صغيرة فيها ثلاثة من أولاد النبيّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  ، ويليها روضة العبّاس بن عبد المطّلب والحسن بن علي رضي الله عنهما ، وهي قبّة مرتفعة في الهواء على مقربة من باب البقيع المذكور وعن يمين الخارج منه ، ورأس الحسن إلى رجلي العبّاس رضي الله عنهما ، وقبراهما مرتفعان عن الأرض متّسعان مُغشّيان بألواح ملصقة أبدَع إلصاق ، مرصّعة بصفائح الصُّفْر ، ومكوكَبة بمساميره على أبدع صفة وأجمل منظر ، وعلى هذا الشكل قبر إبراهيم ابن النبيّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  ، ويلي هذه القبّة العبّاسيّة بيت يُنسَب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رحلة ابن جبير : ص81 ـ 82 ، ط . بيروت 1986 .

(2) لا يخفى على ذي بصيرة أن ولادة أمير المؤمنين عليّ ـ عليه السلام ـ انّما كانت في جوف الكعبة المشرّفة ، وهو من الشهرة والشيوع بحيث لا يحتاج إلى ذكر مصادره .


( 41 )
لفاطمة بنت الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  ، ويعرف ببيت الحُزن ، يقال : إنّه الّذي أوت إليه والتزمت فيه الحزن على موت أبيها المصطفى ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  ، وفي آخر البقيع قبر عثمان الشهيد المظلوم ذي النّورين ـ رضي الله عنه ـ  ، وعليه قبّة صغيرة مختصرة ، وعلى مقربة منه مشهد فاطمة ابنة أسد أُمّ عليّ رضي الله عنها وعن بنيها .

ومشاهد هذا البقيع أكثر من أن تُحصى; لأنّه مدفن الجمهور الأعظم من الصحابة المهاجرين والأنصار ، رضي الله عنهم أجمعين ، وعلى قبر فاطمة المذكورة مكتوب : ما ضمّ قبر أحد كفاطمة بنت أسد رضي الله عنها وعن بنيها(1) .

 

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رحلة ابن جبير : ص154 ـ 156 ، ط . بيروت 1986 .


( 42 )
مشاهد الكوفة :

ويقول ابن جبير عن مسجد الكوفة :

وبهذا الجامع المكرّم آثار كريمة : فمنها بيت بإزاء المحراب عن يمين المستقبل القبلة ، يقال : إنّه كان مصلّى إبراهيم الخليل ، وعليه ستر أسود صوناً له ، ومنه خرج الخطيب لابساً ثيابَ السواد للخطبة ، فالناس يزدحمون على هذا الموضع المبارك للصلاة فيه ، وعلى مقربة منه ممّا يلي الجانب الأيمن من القبلة ، محراب محلّق عليه بأعواد الساج مرتفع عن صحن البلاط كأنّه مسجد صغير ، وهو محراب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ  ، وفي ذلك الموضع ضربه الشقيّ اللعين عبد الرحمن ابن ملجم بالسيف ، فالناس يصلّون فيه باكين داعين ، وفي الزاوية من آخر هذا البلاط القبليّ ، المتّصل بآخر البلاط الغربيّ ، شبيه مسجد صغير محلّق عليه أيضاً بأعواد الساج ، هو موضع مَفار التنّور الّذي كان آيةً لنوح ـ عليه السلام ـ  ، وفي ظهره ، خارج المسجد ، بيته الّذي كان فيه ، وفي ظهره بيت آخر يقال إنّه كان متعبَّد إدريس ـ عليه السلام ـ  ، ويتّصل بهما فضاء متّصل بالجدار القبلي من المسجد ، يقال إنّه مُنشأ السفينة ، ومع آخر هذا الفضاء دار عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ  ، والبيت الّذي غسل فيه ، ويتّصل به بيت يُقال إنّه كان بيت ابنة نوح ـ عليه السلام ـ  .

وهذه الآثار الكريمة تلقّيناها من ألسنة أشياخ من أهل البلد فأثبتناها حسبما نقلوها إلينا ، والله أعلم بصحّة ذلك كلّه .

وفي الجهة الشرقيّة من الجامع بيت صغير يُصعَد إليه فيه قبر مسلم بن عقيل بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ  ، وفي غربي المدينة على مقدار فرسخ منها المشهد الشهير الشأن المنسوب لعليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ  ، وحيث بركت ناقته وهو محمول عليها مسجّى ميتاً على ما يُذكر ، ويقال : إنّ قبره فيه(1) .

 

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رحلة ابن جبير : 168 ـ 169 ، ط . بيروت 1986 .


( 43 )
قبور العلماء والأولياء المشيّدة ببغداد :

يقول ابن جبير :

وبإحدى هذه المحلاّت قبر معروف الكَرخي ، وهو رجل من الصالحين مشهور الذكر في الأولياء ، وفي الطريق إلى باب البصرة مشهد حفيل البنيان داخله قبر متّسع السّنام ، عليه مكتوب : هذا قبر عَون ومَعين ، من أولاد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ  ، وفي الجانب الغربي أيضاً قبر موسى بن جعفر ، رضي الله عنهما .

إلى مشاهد كثيرة ممّن لم تحضرنا تسميتُه من الأولياء والصالحين والسلف الكريم ، رضي الله عن جميعهم .

وبأعلى الشرقيّة خارج البلد محلّة كبيرة بإزاء محلّة الرّصافة ، وبالرصافة كان باب الطّاق المشهور على الشطّ ، وفي تلك المحلّة مشهد حفيل البنيان; له قبّة بيضاء سامية في الهواء; فيه قبر الإمام أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ  ، وبه تعرف المحلّة ، وبالقرب من تلك المحلّة قبر الإمام أحمد بن حنبل ـ رضي الله عنه ـ  ، وفي تلك الجهة أيضاً قبر أبي بكر الشبلي (رحمه الله) ، وقبر الحسين بن منصور الحلاّج ، وببغداد من قبور الصالحين كثير ، رضي الله عنهم(1) .

المشاهد المكرّمة والآثار المعظّمة في الشام :

يقول ابن جبير :

فأوّلها مشهد رأس يحيى بن زكرياء ـ عليه السلام ـ  ، وهو مدفون بالجامع المكرّم في البلاط القبلي قبالة الركن الأيمن من المقصورة الصحابيّة(2) ، رضي الله عنهم ، وعليه تابوت خشب معترض من الأُسطوانة ، وفوقه قنديل كأنّه من بلّور مجوّف ، كأنّه القدح الكبير ، لا يُدرى أمن زجاج عراقيّ أم صُوريّ هو أم من غير ذلك .

ومولد إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم وعلى نبيّنا الكريم ، وهو بصفح جبل قاسيون عند قرية

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رحلة ابن جبير : 168 ـ 169 ، ط . بيروت 1986 .

(2) هي أول مقصورة وضعت في الإسلام وضعها معاوية بن أبي سفيان .


( 44 )
تُعرف بِبَرْزَة; وهي من أجمل القرى ، وهذا الجبل مشهور بالبركة في القديم لأنّه مصعد الأنبياء ، صلوات الله عليهم ، ومطلعهم ، وهو في الجهة الشماليّة من البلد وعلى مقدار فرسخ ، وهذا المولد المبارك غار مستطيل ضيّق ، وقد
بُني عليه مسجد كبير مرتفع مُقسّم على مساجد كثيرة كالغُرف المطلّة ، وعليه صومعة عالية ، ومن ذلك الغار رأى
ـ عليه السلام ـ الكوكب ثمّ القمر ثمّ الشمس ، حسبما ذكره الله تعالى في كتابه عزّ وجلّ(1) ، وفي ظهر الغار مقامه الّذي كان يخرج إليه ، وهذا كلّه ذكره الحافظ محدّث الشام أبو القاسم بن هبة الله بن عساكر الدمشقي في تاريخه في أخبار دمشق ، وهو ينوف على مائة مجلّد .

وذكر أيضاً أنّ بين باب الفراديس ، وهو أحد أبواب البلد ، وفي الجهة الشماليّة من الجامع المبارك ، على مقربة منه إلى جبل قاسيون ، مدفن سبعين ألف نبي ، وقيل : سبعون ألف شهيد ، وأنّ الأنبياء المدفونين به سبعمائة نبيّ ، والله أعلم .

وخارج هذا البلد الجبّانة العتيقة ، وهي مدفن الأنبياء والصالحين ، وبركتها شهيرة ، وفي طرفها ممّا يلي البساتين وَهْدَة من الأرض متّصلة بالجبّانة ، ذُكر أنّها مدفن سبعين نبيّاً ، وعصمها الله ونزّهها من أن يُدفن فيها أحد ، والقبور محيطة بها ، وهي لا تخلو من الماء حتّى عادت قرارة له ، كلّ ذلك تنزيه من الله تعالى لها .

وبجبل قاسيون أيضاً لجهة الغرب ، على مقدار ميل أو أزيد من المولد المبارك ، مغارة تعرف بمغارة الدم; لأنّ فوقها في الجبل دم هابيل قتيل أخيه قابيل ابني آدم ـ عليه السلام ـ  ، يتّصل من نحو نصف الجبل إلى المغارة ، وقد أبقى الله منه في الجبل آثاراً حُمراً في الحجارة تُحك فتستَحيل ، وهي كالطريق في الجبل ، وتنقطع عند المغارة ، وليس يوجد في النصف الأعلى من المغارة آثار تشبهها ، فكان يقال : إنّها لون حجارة الجبل ، وإنّما هي من الموضع الّذي جرّ منه القاتل لأخيه حيث قتله حتّى انتهى إلى المغارة; وهي من آيات الله تعالى ، وآياته لا تُحصى .

وقرأنا في تاريخ ابن المعلّى الأسدي أنّ تلك المغارة صلّى فيها إبراهيم وموسى وعيسى ولوط وأيوب ، عليهم وعلى نبيّنا الكريم أفضل الصلاة والسلام .

 

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الأنعام : 76 ـ 78 .


( 45 )
وعليها مسجد قد أُتقن بناؤه ، ويُصعد إليه على أدراج ، وهو كالغرفة المستديرة ، وحولها أعواد مشرجبة مطيفة بها ، وبه بيوت ومرافق للسكنى ، وهو يفتح كلّ يوم خميس ، والسُّرُج من الشمع والفتائل تَقِد في المغارة ، وهي متّسعة .

وفي أعلى الجبل كهف منسوب لآدم ـ عليه السلام ـ  ، وعليه بناء ، وهو موضع مبارك ، وتحته في حضيض الجبل مغارة تعرف بمغارة الجُوع ، ذُكر أنّ سبعين نبيّاً ماتوا فيها جوعاً ، وكان عندهم رغيف ، فلم يزل كلّ واحد منهم يؤثر به صاحبه ويدور عليه من يد إلى يد ، حتّى لحقتهم المنيّة ، صلوات الله عليهم . وعلى هذه المغارة أيضاً مسجد مبنيّ ، وأبصرنا فيه السُّرُج تَقِد نهاراً .

ولكلّ مشهد من هذه المشاهد أوقاف معيّنة من بساتين وأرض بيضاء ورباع ، حتّى إنّ البلد تكاد الأوقاف تستغرق جميع ما فيه .

وكلّ مسجد يُستحدث بناؤه أو مدرسة أو خانقة يُعيّن لها السلطان أوقافاً تقوم بها وبساكنيها والملتزمين لها ، وهذه أيضاً من المفاخر المخلّدة .

ومن النساء الخواتين ذوات الأقدار من تأمر ببناء مسجد أو رباط أو مدرسة وتُنفِق فيها الأموال الواسعة وتعيّن لها من مالها الأوقاف .

ومن الأُمراء من يفعل مثل ذلك ، لهم في هذه الطريقة المباركة مُسارعة مشكورة عند الله عزّ وجلّ .

وبآخر هذا الجبل المذكور ، في آخر البسيط البستاني الغربي من هذا البلد ، الربوة المباركة المذكورة في كتاب الله تعالى ، مأوى المسيح وأُمّه ، صلوات الله عليهما ، وهي من أبدع مناظر الدنيا حسناً وجمالا وإشراقاً ، وإتقان بناء واحتفال تشييد وشرف وضع ، هي كالقصر المشيّد ، ويُصعَد إليها على أدراج ، والمأوى المبارك منها مغارة صغيرة في وسطها ، وهي كالبيت الصغير ، وبإزائها بيت يقال : إنّه مصلّى الخضر ـ عليه السلام ـ  ، فيبادر الناس للصلاة بهذين الموضعين المباركين ، ولا سيّما المأوى المبارك ، وله باب حديد صغير ينغلق دونه ، والمسجد يطيف بها ، ولها شوارع دائرة ، وفيها


( 46 )
سقاية لم يُرَ أحسن منها ، قد سِيقَ إليها الماء من علوّ ، وماؤها ينصبّ على شاذَرْوان(1) في الجدار متّصل بحوض من رخام يقع الماء فيه ، لم يُرَ أحسن من منظره ، وخلف ذلك مطاهر يجري الماء في كلّ بيت منها ويستدير بالجانب المتّصل بجدار الشاذروان .

وهذه الربوة المباركة رأس بساتين البلد ومَقْسِم مائه ، ينقسم فيها الماء على سبعة أنهار ، يأخذ كلّ نهر طريقه ، وأكبر هذه الأنهار نهر يُعرف بثوار ، وهو يشقّ تحت الربوة ، وقد نُقِر له في الحجر الصلد أسفلها حتّى انفتح له متسرّب واسع كالغار ، وربّما انغمس الجَسُور من سُبّاح الصبيان أو الرجال من أعلى الربوة في النهر واندفع تحت الماء حتّى يشقّ متسرّبه تحت الربوة ويخرج أسفلها ، وهي مخاطرة كبيرة .

ويُشرَف من هذه الربوة على جميع البساتين الغربية من البلد ، ولا إشراف كإشرافها حسناً وجمالا واتّساعَ مسرح للأبصار ، وتحتها تلك الأنهار السبعة تتسرّب وتسيح في طرق شتّى ، فتحار الأبصار في حسن اجتماعها وافتراقها واندفاع انصبابها ، وشرفُ موضوع هذه الربوة ومجموع حسنها أعظم من أن يحيط به وصف واصف في غلوّ مدحه ، وشأنها في موضوعات الدّنيا الشريفة خطير كبير(2) .

ومن أحفل هذه المشاهد مشهد منسوب لعليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ  ، قد بُني عليه مسجد حفيل رائق البناء ، وبإزائه بستان كلّه نارنج ، والماء يطرد فيه من سقاية معيّنة ، والمسجد كلّه ستور معلّقة في جوانبه صغار وكبار .

ومن المشاهد المكرّمة مشهد سعد بن عُبادة رئيس الخزرج ، صاحب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  ، وهو بقرية تعرف بالمَنِيحة شرقي البلد وعلى مقدار أربعة أميال منه ، وعلى قبره مسجد صغير حسن البناء ، والقبر في وسطه ، وعند رأسه مكتوب : هذا قبر سعد بن عبادة رأس الخزرج ، صاحب رسول الله  ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  .

ومن مشاهد أهل البيت رضي الله عنهم : مشهد أُمّ كلثوم ابنة عليّ بن أبي طالب ، رضي الله عنهما ،

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الشاذروان : حائط صغير بجوار الجدار الأصلي لتقويته .

(2) المصدر السابق : ص221 ـ 224 .


( 47 )
ويقال لها زينب الصغرى ، وأُمّ كلثوم كنية أوقعها عليها النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  ، لشبهها بابنته أُمّ كلثوم ، رضي الله عنها ، والله أعلم بذلك ، ومشهدها الكريم بقرية قبليّ البلد تعرف بـ «راوية» على مقدار فرسخ ، وعليه مسجد كبير ، وخارجه مساكن ، وله أوقاف ، وأهل هذه الجهات يعرفونه بقبر الستّ أُمّ كلثوم ، مشَينا إليه وبتنا به وتبرّكنا برؤيته ، نفعنا الله بذلك .

وبالجبّانة الّتي بغربي البلد ، من قبور أهل البيت كثير ، رضي الله عنهم ، منها قبران عليهما مسجد يقال إنّهما من ولد الحسن والحسين ، رضي الله عنهما ، ومسجد آخر فيه قبر يقال إنّه لسكينة بنت الحسين ، رضي الله عنهما ، أو لعلّها سُكينة أُخرى من أهل البيت .

ومن المشاهد أيضاً قبر بجامع النَيْرب ، في بيت بالجهة الشرقيّة منه ، يقال إنّه لأُمّ مريم ، رضي الله عنها .

وبقرية داريّة قبر أبي مسلم الخولاني ـ رضي الله عنه ـ  ، وعليه قبّة هي علامة القبر ، وبها أيضاً قبر أبي سليمان الداراني ـ رضي الله عنه ـ  .

وبين هذه القرية وبين البلد مقدار أربعة أميال ، وهي لجهة الغرب منه .

ومن المشاهد الكريمة الّتي لم نعاينها ووصفت لنا قبرا شيث ونوح ـ عليهما السلام ـ  ، وهما بالبِقاع ، وهي على يومين من البلد ، وحدّثنا من ذَرَع قبر شيث فألفى فيه أربعين باعاً ، وفي قبر نوح ثلاثين ، وبإزاء قبر نوح قبر ابنة له ، وعلى هذه القبور بناء ، ولها أوقاف كثيرة ، ولها قيّم يلتزمها .

ومن المشاهد المباركة أيضاً ، بالجبّانة الغربيّة وبمقربة من باب الجابية ، قبر أُويس القرني ـ رضي الله عنه ـ  ، وقبور خلفاء بني أُمية ، يقال : إنّها بإزاء باب الصغير بمقربة من
الجبّانة المذكورة ، وعليها اليوم بناء يُسكَن فيه .

والمشاهد المباركة في هذه البلدة أكثر من أن تنضبط بالتقييد ، وإنّما رُسِم من ذلك ما هو مشهور ومعلوم .

ومن المشاهد الشهيرة أيضاً مسجد الأقدام ، وهو على مقدار ميلين من البلد ممّا يلي القبلة على قارعة الطريق الأعظم الآخذ إلى بلاد الحجاز والساحل وديار مصر ، وفي هذا المسجد بيت صغير فيه


( 48 )
حجر مكتوب عليه : كان بعض الصالحين يرى النبيّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في النوم فيقول : هاهنا قبر أخي موسى ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  ، والكثيب الأحمر على الطريق بمقربة من هذا الموضع ، وهو بين غالية وغُويلية كما ورد في الأثر ، وهما موضعان .

وشأن هذا المسجد في البركة عظيم ، ويقال : إنّ النور ما خلا قطّ
من هذا الموضع الّذي يذكر أنّ القبر فيه حيث الحجر المكتوب ، وله أوقاف
كثيرة .

فأمّا الأقدام ففي حجارة في الطريق إليه مُعْلَم عليها ، تَجد أثر القدم في كلّ حجر ، وعدد الأقدام تسع ، ويقال : إنّها أثر قدم موسى ـ عليه السلام ـ  ، والله أعلم بحقيقة ذلك ، لا إله سواه(1) .

هذا وقد أخذنا من رحلة ابن جبير المواضيع اللاّزمة ، وإلاّ فالذي يسبر الكتاب يقف على أُمور لم نذكرها ، والكلّ يدلّ على أنّ البناء على القبور وصيانتها عن الانطماس وزيارتها في فترات مختلفة كان أمراً رائجاً في خير القرون الّذي جُعِل مقياساً بين الحقّ والباطل .

 

5 ـ ابن الحجّاج والقبّة البيضاء على قبر الإمام علي

 

إنّ الحسين بن أحمد بن محمد المعروف بابن الحجّاج البغدادي أحد الشعراء المفلقين في القرنين الثالث والرابع (المتوفّى 391 هـ) أنشأ قصيدته الفائيّة في مدح الإمام أمير المؤمنين ، وأنشدها في الحضرة العلويّة عندما زارها يقول في مستهلّها :

 

يا صاحبَ القبّة البيضا على النجفِ * من زارَ قبرَك واستشفى لديك شُفيْ
زوروا أبا الحسن الهادي لعلّكمُ * تحظون بالأجرِ والاقبالِ والزُّلَفِ(2)

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رحلة ابن جبير : 226 ـ 229 ، ط . بيروت 1986 .

(2) اقرأ ترجمته في يتيمة الدهر 3  : 35; معجم الأُدباء 4  : 6; المنتظم 7  : 216; تاريخ بغداد 8  : 14; وفيات الأعيان 1  : 168; الكامل لابن الأثير 9  : 63 إلى غير ذلك من مصادر الترجمة; وفي روضات الجنّات 3  : 148-155 له ترجمة ضافية .


( 49 )
 

والقصيدة تعرب عن وجود البناء والقبّة البيضاء على القبر ، والزلف والتفاف الزائرين حوله في عصره ، ومع ذلك يدّعي بعض الوهابيين; أنّ البناء على القبور لم يكن في خير القرون وأنّه من البدع المستحدثة .

ولأجل شيوع البناء على القبور في جميع الأقطار الإسلاميّة نجد أنّ الأمير محمد بن إسماعيل اليماني ( ت1186 هـ) الّذي توهّب مع كونه زيدياً يفترض على نفسه ويقول في كتابه : وهذا أمر عمّ البلاد وطبق الأرض شرقاً وغرباً بحيث لا بلدة من بلاد الإسلام إلاّ فيها قبور ومشاهد ، ولا يسع عقل عاقل أنّ هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة ويسكت علماء الإسلام(1) .

فلو كانت هذه سيرة المسلمين من خير القرون إلى عصرنا فلماذا لا تكون حجّة؟ فلو كان التهديم أمراً واجباً فلماذا ترك الخلفاء تلك الفريضة؟! وهل يصحّ لنا اتّهامهم بالتسامح في أمر الدين مع أنّ الصحابة والتابعين مرّوا على تلك الآثار ولم ينبسوا فيها ببنت شفة؟ وإذا لم يكن ذلك الإجماع حجّة ، فأيّ إجماع يكون حجّة شرعيّة؟

فهذه النصوص من المؤرّخين تدلّ بوضوح على جريان السيرة على بناء القباب والأبنية على قبور الأولياء من دون أن يخطر ببال أحد أنّه مقدّمة للشرك ومفض إليه ، فإذا لم يكن مثل هذا الإجماع حجّة فأيّ إجماع حجّة؟

والعجب من ابن بليهد قاضي الحكومة السعودية أيام تدمير آثار رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عام (1344 هـ) . فبعدما نفّذ ما أُمر به من قبل المشايخ ، نشر بياناً في جريدة أُمّ القرى في عددها الصادر في شهر جمادى الآخرة من شهور سنة (1345 هـ) . وممّا جاء فيه قوله : إنّ القِباب على مراقد العلماء صار متداولا منذ القرن الخامس الهجري .

 

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تطهير الاعتقاد  : ص17 ، ثمّ إنّه حاول أن يُجيب عن هذا الاستنكار بما الإعراض عن ذكره أحسن .


( 50 )
فهل هذا صحيح أو افتراء أمام كلّ هذه النصوص من المسعودي وغيره؟ وليس البحث في خصوص العلماء ، بل مطلق قبور المسلمين ، نبيّاً كان أو وليّاً ، صحابيّاً كان أو تابعياً ، فقيهاً كان أو محدّثاً .

السيّد محسن الأمين والردّ على ابن تيميّة

ونعم ما قال السيد المحقّق محسن الأمين في قصيدته المسمّـاة بالعقود الدُّريّة في ردّ شبهات الوهابية :

 

أو ليس أُمّة أحمد إجماعُها * فيه الصوابُ وحجّةٌ لم ترددِ
وعلى ضلال كلّها لم تجتمع * فيما رويتم في الحديث المسندِ

مضت القرون وذي القباب مَشِيدةٌ * والناس بين مؤسّس ومجدّدِ

في كلّ عصر فيه أهل الحلّ والـ * ـعقد الّذين بغيرهم لم يُعقدِ

لم يُنكروا أبداً على من شادها * شيدت ولا من منكر ومفنّدِ

مِنْ قبل أنْ تلد ابنها تيميةٌ * أو يخلق الوهّاب بعضَ الأعبدِ

أفأيّ إجماع لكم أقوى على * أمثاله من مورد لم يوردِ

فبسيرة للمسلمين تتابعت * في كلّ عصر نستدلّ ونقتدي

أقوى من الإجماع سيرتهم ومن * قد حاد عنها فهو غير مسدّدِ

هيهات ليس نبيّاً ابنّ بليهد * في الناس لم يُخطئ ولم يتعمّدِ

كلاّ ولا العلماء قد حصرت به * هي في بقاع الأرض ذات تعدّدِ

كلاّ ولا من وافقوه لخوفهم * أو جهلهم من خائف ومقلّدِ

والجُلُّ من علماء طيبة ساكت * للخوف مكفوف اللسان مع اليدِ(1)

 

 

كيف يدّعي الإجماع على التحريم مع أنّ فقهاء المذاهب الأربعة في العصر الحاضر اتّفقوا على

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كشف الارتياب : ص411.


( 51 )
الكلمة التالية : يكره أن يبنى القبر ببيت أو قبّة أو مسجد(1) ، أين الكراهة من الحرمة ، وأين هي من الشرك؟

وهذا النووي شارح صحيح مسلم يقول في شرح حديث أبي الهياج الّذي سيوافيك نصّه : أمّا البناء فإن كان في ملك الباني فمكروه وإن كان في مقبرة مسبلة فحرام ، نصّ عليه الشافعي والأصحاب(2) .

إنّ التحريم في الصورة الثانية لكونه مزاحماً للانتفاع ، وعلى خلاف أهداف الواقف وأغراضه ، وأين هو من البناء على أرض مشتراة أو مهداة أو موات; فلا تترتّب عليها تلك الحرمة .

دُفن النبيّ الأكرم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في بيته الرفيع ولم يخطر ببال أحد من الصحابة الحضور أنّ البناء على القبر حرام وأنّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ نهى عنه نهياً مؤكداً ، ولمّا كان البيت متعلّقاً بالسيدة عائشة جعلوا في وسطه ساتراً ، ولمّا توفّي الشيخان أوصيا بدفنهما في حجرة النبيّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ تبرّكاً بذاته ومكانه ، ولم تُسْمَع عن أيّ ابن أُنثى نعيرةُ أنّه حرام ولا مكروه ، وعلى ذلك استمرّت سيرة المسلمين في حقّ العلماء والأولياء ، يدفنونهم في البيوت المعدّة لذلك ، أو يرفعون لمراقدهم قواعد وسقفاً بعد الدفن ، تكريماً لهم وتقديراً لتضحياتهم ، ولم يخطر ببال أحد أنّه على خلاف الدين والشرع .

وهذا عمل المسلمين وسيرتهم القطعيّة في جميع الأقطار والأمصار ، على مرأى ومسمع الجميع وإنْ اختلفت نزعاتهم ، من بدء الإسلام إلى هذا العصر ، من الشيعة والسنّة ، وأيّ بلاد من بلاد الإسلام من مصر والعراق أو الحجاز أو سورية ، وتونس ومراكش وإيران ، وهلمّ جرّاً ، ليس فيها قبور مشيّدة ، وضرائح منجدة ، وهؤلاء أئمة المذاهب : الشافعي في مصر ، وأبو حنيفة في بغداد ، ومالك بالمدينة ، وتلك قبورهم من عصرهم إلى اليوم شاهقة القباب ، شامخة المباني ، غير أنّ الوهابيّين لمّا استولوا على المدينة هدموا قبر مالك .

 

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الفقه على المذاهب الأربعة 1  : 431 .

(2) صحيح مسلم بشرح النووي ج7، ص 42 شرح الحديث رقم 969 كتاب الجنائز ط مصر .


( 52 )
وهذه القبور قد شُيّدت وبنيت في الأزمنة الّتي كانت حافلة بالعلماء وأرباب الفتاوى ، وزعماء المذاهب ، فما أنكر منهم مُنكِر ، وليس هذا رائجاً بين المسلمين فقط ، بل جرى على هذا جميع عقلاء العالم ، بل يعدّ تعمير قبور الشخصيات من غرائز البشر ومقتضيات الحضارة وشارة الرقيّ ، فكلّ هذا دليل على الجواز لو لم نقل يفوق ذلك ، ولو لم تكن السيرة المسلّمة بين المسلمين والعقلاء عامّة غير مفيدة في المقام ، فلا يصحّ الاستناد إلى أيّة سيرة قاطعة بين المسلمين أو الناس .

 

وليس يصحّ في الأذهان شيءٌ * إذا احتاج النهار إلى دليلِ
 

 

ثمّ إنّ الوهابيّين تمسّكوا بروايات ، إمّا عديمة الدلالة ، أو ضعيفة السند ، وسنذكر في المبحث الآتي بشكل عام مجملَ ما تمسّكوا به ليتبيّن مدى وعيهم .

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...