سنن النبي (صلى الله عليه وآله) العلامة الطباطبائي
4 مايو,2022
طرائف الحكم
297 زيارة
[72]
من أمر مريم ابنة عمران في زهدها وعبادتها، وما أكرمها الله سبحانه به من أدب العبودية، وخصها به من كرامة الرزق من عنده على ما يقصه الله تعالى في سورة آل عمران قال تعالى: ” وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب * هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ” (1). فغشيه شوق شديد إلى ولد طيب صالح يرثه ويعبد ربه عبادة مرضية كما ورثت مريم ابنة عمران وبلغت جهدها في عبادة ربها ونالت منه الكرامة، غير أنه وجد نفسه وقد نال منه الشيب وانهدت منه القوى، وكذلك امرأته وقد كانت عاقرة في سني ولادتها، فأدركته من حسرة الحرمان من نعمة الولد الطيب الرضي ما الله أعلم به، لكن لم يملك نفسه مما هاج فيه من الغيرة الإلهية والاعتزاز بربه دون أن رجع إلى ربه وذكر له ما يثور به الرحمة والحنان من حاله أنه لم يزل عالقا على باب العبودية والمسألة منذ حداثة سنه حتى وهن عظمه واشتعل رأسه شيبا، ولم يكن بدعائه شقيا، وقد وجده سبحانه سميع الدعاء فليسمع دعاءه وليهب له وارثا رضيا. والدليل على ما ذكرنا أنه إنما سأل ما سأل بما ملك نفسه من هيجان الوجد والحزن ما حكاه الله تعالى عنه بعد ما أوحى إليه بالاستجابة بقوله: ” قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا * قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ” (2) فإنه ظاهر في أنه (عليه السلام) لما سمع الاستجابة صحا عن حاله وأخذ يتعجب من غرابة المسألة والإجابة حتى سأل ربه عن ذلك في صورة الاستبعاد وسأل لنفسه عليه آية فاجيب إليها أيضا. وكيف كان فالذي استعمله (عليه السلام) في دعائه من الأدب هو ما ساقه إليه حال الوجد والحزن الذي ملكه، ولذلك قدم على دعائه بيان ما بلغ به الحال في سبيل
(1) آل عمران: 37 و 38. (2) مريم: 8 و 9.
[73]
ربه، فقد صرف دهره في سلوك سبيل الإنابة والمسألة حتى وقف موقفا يرق له قلب كل ناظر رحيم ثم سأل الولد وعلله بأن ربه سميع الدعاء. فهذا معنى ما ذكره مقدمة لمسألته لا أنه كان يمتن بطول عبوديته على ربه – حاشا مقام النبوة – فمعنى قوله على ما في سورة آل عمران: ” رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ” أني أسألك ما أسألك لا لأن لطول عبوديتي – وهو دعاؤه المديد – قدرا عندك أو فيه منة عليك بل لأني أسألك وقد وجدتك سميعا لدعاء عبادك ومجيبا لدعوة السائلين المضطرين، وقد اضطرني خوف الموالي من ورائي، والحث الشديد لذرية طيبة تعبدك أن أسالك. وقد تقدم أن من الأدب الذي استعمله في دعائه أن ألحق تخوف الموالي قوله: ” واجعله رب رضيا ” والرضي وإن كان طبعه يدل بهيئته على ثبوت الرضا لموصوفه، والرضا يشمل بإطلاقه رضا الله ورضا زكريا ورضا يحيى، لكنه قوله في آية آل عمران: ” ذرية طيبة ” يدل على أن المراد بكونه رضيا كونه مرضيا عند زكريا، لأن الذرية إنما تكون طيبة لصاحبها لا غير. ومن ذلك ما حكاه الله سبحانه عن المسيح حين سأل المائدة بقوله: ” قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين ” (1). القصة المذكورة في كلامه تعالى في سؤال الحواريين عيسى (عليه السلام) نزول مائدة من السماء عليهم تدل بسياقه أن هذه المسألة كانت من الأسئلة الشاقة على عيسى (عليه السلام)، لأن ما حكي عنهم من قولهم له: ” يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ” (2) كان أولا مشتملا بظاهره على الاستفهام عن قدرة الله سبحانه، ولا يوافق ذلك أدب العبودية وإن كان حاق مرادهم السؤال عن المصلحة دون أصل القدرة فإن حزازة اللفظ على حالها. وكان ثانيا متضمنا لاقتراح آية جديدة مع أن آياته (عليه السلام) الباهرة كانت قد
(1) المائدة: 114. (2) المائدة: 112.
[74]
أحاطت بهم من كل جهة، فكانت نفسه الشريفة آية، وتكلمه في المهد آية، وإحياؤه الموتى، وخلقه الطير، وإبراؤه الأكمه والأبرص، وإخباره عن المغيبات، وعلمه بالتوراة والإنجيل والكتاب والحكمة آيات إلهية لا تدع لشاك شكا ولا لمرتاب ريبا، فاختيارهم آية لأنفسهم وسؤالهم إياه كان بظاهره كالعبث بآيات الله واللعب بجانبه، ولذلك وبخهم بقوله: ” اتقوا الله إن كنتم مؤمنين “. لكنهم أصروا على ذلك ووجهوا مسألتهم بقولهم: ” نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين ” (1) وألجأوه إلى السؤال فسأل. أصلح (عليه السلام) بأدبه الموهوب من جانب الله سبحانه ما اقترحوه من السؤال بما يصلح به أن يقدم إلى حضرة العزة والكبرياء، فعنونه أولا بعنوان أن يكون عيدا لهم يختصون هو وامته به فإنها آية اقتراحية عديمة النظير بين آيات الأنبياء (عليهم السلام) حيث كانت آياتهم إنما تنزل لإتمام الحجة أو لحاجة الامة إلى نزولها، وهذه الآية لم تكن على شئ من هاتين الصفتين. ثم أجمل ثانيا ما فصله الحواريون من فوائد نزولها من اطمئنان قلوبهم بها وعلمهم بصدقه (عليه السلام) وشهادتهم عليها، في قوله: ” وآية منك “. ثم ذكر ثالثا ما ذكروه من عرض الأكل وأخره وإن كانوا قدموه في قولهم: ” نريد أن نأكل منها… الخ ” وألبسه لباسا آخر أوفق بأدب الحضور فقال: ” وارزقنا ” ثم ذيله بقوله: ” وأنت خير الرازقين ” ليكون تأييدا للسؤال بوجه، وثناء له تعالى من وجه آخر. وقد صدر مسألته بندائه تعالى: ” اللهم ربنا ” فزاد على ما يوجد في سائر أدعية الأنبياء (عليهم السلام) من قولهم ” رب ” أو ” ربنا ” لأن الموقف صعب كما تقدم بيانه. ومنه مشافهته (عليه السلام) ربه المحكية بقوله تعالى: ” وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وامي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن
(1) المائدة: 113.
[75]
أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ” (1). تأدب (عليه السلام) في كلامه أولا بأن صدره بتنزيهه تعالى عما لا يليق بقدس ساحته كما جرى عليه كلامه تعالى قال: ” وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه ” (2). وثانيا بأن أخذ نفسه أدون وأخفض من أن يتوهم في حقه أن يقول مثل هذا القول حتى يحتاج إلى أن ينفيه، ولذلك لم يقل من أول مقالته إلى آخرها: ” ما قلت ” أو ” ما فعلت ” وإنما نفى ذلك مرة بعد مرة على طريق الكناية وتحت الستر فقال: ” ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ” فنفاه بنفي سببه أي لم يكن لي حق في ذلك حتى يسعني أن أتفوه بمثل ذاك القول العظيم، ثم قال: ” إن كنت قلته فقد علمته… الخ ” فنفاه بنفي لازمه، أي إن كنت قلته كان لازم ذلك أن تعلمه لأن علمك أحاط بي وبجميع الغيوب. ثم قال: ” ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ” فنفاه بإيراد ما يناقضه مورده على طريق الحصر ب ” ما ” وإلا أي إني قلت لهم قولا ولكنه هو الذي أمرتني به وهو أن اعبدوا الله ربي وربكم، وكيف يمكن أن أقول لهم مع ذلك أن اتخذوني وامي إلهين من دون الله ؟ ثم قال: ” وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم ” وهو نفي منه (عليه السلام) لذلك كالمتمم لقوله: ” ما قلت لهم إلا ما أمرتني به… الخ ” وذلك لأن معناه: ما قلت لهم شيئا مما ينسب إلي والذي قلت لهم إنما قلته عن أمر منك، وهو ” أن اعبدوا الله ربي وربكم ” ولم يتوجه إلي أمر فيما سوى ذلك، ولا مساس بهم إلا الشهادة والرقوب لأعمالهم ما دمت، فلما توفيتني انقطعت
(1) المائدة: 116 – 118. (2) الأنبياء: 26.
[76]
عنهم، وكنت أنت الرقيب عليهم بشهادتك الدائم العام قبل أن توفيتني وبعده وعليهم وعلى كل شئ غيرهم. وإذ قد بلغ الكلام هذا المبلغ توجه له (عليه السلام) أن ينفي ذلك القول عن نفسه بوجه آخر متمم للوجوه التي ذكرها، وبه يحصل تمام النفي فقال: ” إن تعذبهم فإنهم عبادك… الخ ” يقول – على ما يؤيده السياق – وإذا كان الأمر على ما ذكرت فأنا بمعزل منهم وهم بمعزل مني، فأنت وعبادك هؤلاء، إن تعذبهم فإنهم عبادك، وللسيد الرب أن يعذب عبيده بمخالفتهم وإشراكهم به وهم مستحقون للعذاب، وإن تغفر لهم فلا عتب عليك لأنك عزيز غير مغلوب وحكيم لا يفعل الفعل السفهي اللغو، وإنما يفعل ما هو الأصلح. وبما بينا يظهر وجوه لطيفة من أدب العبودية في كلامه (عليه السلام)، ولم يورد جملة في كلامه إلا وقد مزجها بأحسن الثناء بأبلغ بيان وأصدق لسان. ومن ذلك ما حكاه الله تعالى عن نبيه محمد (صلى الله عليه وآله)، وقد ألحق به في ذلك المؤمنين من امته فقال تعالى: ” آمن الرسول بما انزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين احد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير * لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ” (1). كلامه تعالى – كما ترى – يحكي إيمان النبي (صلى الله عليه وآله) بالقرآن الكريم فيما اشتمل عليه من اصول المعارف، وفيما اشتمل عليه من الأحكام الإلهية جميعا، ثم يلحق به (صلى الله عليه وآله) المؤمنين من امته دون المعاصرين الحاضرين عنده (صلى الله عليه وآله) منهم فحسب، بل المؤمنين من جميع الامة على ما هو ظاهر السياق. ولازم ذلك أن يكون ما ذكر فيه من إقرار أو ثناء أو دعاء بالنسبة إلى بعضهم
(1) البقرة: 285 و 286.
[77]
محكيا عن لسان حالهم، وإن أمكن أن يكون ذلك مما قاله آخرون بلسان قائلهم، أو يكون النبي (صلى الله عليه وآله) هو القائل ذلك مشافها ربه عن نفسه الشريفة وعن المؤمنين، لأنهم بإيمانهم من فروع شجرة نفسه الطيبة المباركة. والآيتان تشتملان على ما هو كالمقايسة والموازنة بين أهل الكتاب وبين مؤمني هذه الامة من حيث تلقيهم ما انزل إليهم في كتاب الله، وإن شئت قلت: من حيث تأدبهم بأدب العبودية تجاه الكتاب النازل إليهم، فإنه ظاهر ما أثنى الله سبحانه على هؤلاء وخفف الله عنهم في الآيتين بعين ما وبخ اولئك عليه وعيرهم به في الآيات السابقة من سورة البقرة، فقد ذم أهل الكتاب بالتفريق بين ملائكة الله فأبغضوا جبريل وأحبوا غيره، وبين كتب الله المنزلة فكفروا بالقرآن وآمنوا بغيره، وبين رسل الله فآمنوا بموسى أو به وبعيسى وكفروا بمحمد (صلى الله عليه وآله) وعليهم، وبين أحكامه فآمنوا ببعض ما في كتاب الله وكفروا ببعض، والمؤمنون من هذه الامة آمنوا ” بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله “. فقد تأدبوا مع ربهم بالتسليم لما أحقه الله من المعارف الملقاة إليهم، ثم تأدبوا بالتلبية لما ندب الله إليه من أحكامه إذ قالوا: ” سمعنا وأطعنا ” لا كقول اليهود: ” سمعنا وعصينا ” (1) ثم تأدبوا فعدوا أنفسهم عبادا مملوكين لربهم لا يملكون منه شيئا ولا يمتنون عليه بإيمانهم وطاعتهم فقالوا: ” غفرانك ربنا ” لاكما قالت اليهود: ” يغفر لنا ” وقالت: ” إن الله فقير ونحن أغنياء ” (2) وقالت: ” لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ” (3) إلى غير ذلك من هفواتهم. ثم قال الله سبحانه: ” لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ” فإن التكليف الإلهي يتبع بحسب طبعه الفطرة التي فطر الناس عليها، ومن المعلوم أن الفطرة التي هي نوع الخلقة لا تدعو إلا إلى ما جهزت به، وفي ذلك سعادة الحياة البتة.
(1) البقرة: 93. (2) آل عمران: 181. (3) البقرة: 80.
2022-05-04