الرئيسية / شخصيات أسلامية / عجائب شتّى في شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

عجائب شتّى في شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

المقدمة

الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيّد المرسلين أبي القاسم محمّد وآله الطيّبين المنتجبين.

لقد شكّلت حياة أمير المؤمنين عليه السلام النموذج الإسلاميّ الكامل والسراج المنير لكلّ من يبحث عن الله وعن صراطه المستقيم، وكيف لا يكون الإمام علي عليه السلام نبراساً للإنسان المسلم وقد تكفّل تربية هذه الشخصيّة المرموقة والملكوتيّة أفضل الناس وأعظمهم خلقاً وهو النبيّ الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حيث ذاب أمير المؤمنين عليه السلام برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما ذاب هو بالله، وقد عبّر الإمام علي عليه السلام عن هذه الحالة بقوله:” لقد كنت اتّبعه اتباع الفصيل إثر أمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً يأمرني بالاقتداء به”1.

إنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام هو مظهر العدالة والقداسة والإنصاف والرحمة والتدبير والشجاعة، والعبوديّة لله عزَّ وجلَّ. وأفضل من استنار من أنوار هذه الشخصيّة العظيمة في زماننا الحاضر هو سماحة وليّ أمر المسلمين السيّد عليّ الخامنئي دام ظله فاخترنا من

1-بحار الأنوار، العلامة المجلسيّ، ج14، ص475.

  • كلماته بعض ما ذكره عن أمير المؤمنين عليه السلام. وما في هذا الكتاب غيض من فيض الإمام عليّ عليه السلام هذا البحر الزخّار لعلّه يكون لنا هادياً ومنقذاً سائلين المولى حسن التوفيق والقبول الحسن إنّه مجيب الدعوات.

مركز نون للتأليف والترجمة

الفصل الأول:

 

 

 

شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

عجائب شتّى في شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

إنّ حياة أمير المؤمنين عليه السلام أشبه ما تكون بمحيط لا يتيسّر للمرء الإحاطة بكلّ آفاقه بنظرة واحدة أو حتّى عبر دراسة طويلة؛ فالمحيط من حيثما تأتيه تجده زاخراً بالعظمة، تجده مجمعاً لبحور عميقة القعر، فيها كائنات مختلفة الأشكال والصور، وعجائب شتّى. وإذا ما تركنا هذا الجانب ودخلنا المحيط من جانب آخر، فالكلام هو الكلام, حيث نرى آيات العظمة والمشاهد والصور المختلفة. وإذا وردناه من ضفّة ثالثة أو رابعة أو خامسة أو عاشرة، فيأتي نفس الكلام أيضاً فنرى في كلّ جهة عجائب أخرى.

هذا طبعاً مجرّد مثال مصغّر ولا يفي بالغرض عن شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام. ومن حيثما تنظر إلى هذه الشخصيّة تجدها تنطوي على عجائب جمّة, ولا مبالغة في هذا, بل هو انعكاس لعجز إنسان دَرَسَ حياة أمير المؤمنين عليه السلام سنوات متمادية واستشعر هذا الإحساس في نفسه، وأدرك أنّ شخصية عليّ عليه السلام لا يمكن سبر أغوارها بأسباب الفهم المتعارف من ذهن وعقل وحفظ وإدراكات عاديّة؛ لأنّ كلّ جانب من جوانبها زاخر بالعجائب.

طبعاً أمير المؤمنين عليه السلام نسخة مصغّرة عن الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم

وتلميذ له، ولكن إذا شئنا النظر إلى هذا الرجل الّذي يَعتَبِر نفسه صغيراً أمام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو تلميذ بالمنظار البشريّ، يبدو لنا رجلاً فوق النمط البشريّ وفوق المستوى الإنسانيّ.

ونحن غير قادرين على تصوّر إنسان بمثل هذه الآفاق العظيمة؛ لأنّ أسباب الفَهْم المتوفّرة لدى الإنسان من عقل وذهن وإدراك ولا أقول عدسة التصوير التلفزيونيّ فهي أخسّ من ذلك والعقل البشريّ أسمى من هذه الوسائل الماديّة هي أدنى من أن تبيّن ماهيّة أمير المؤمنين عليه السلام لمن لم يبلغ مقام الكشف المعنويّ.

طبعاً هناك من لهم حضور معنويّ وشهود روحيّ لعلّهُ يؤهّلهم لإدراك كنه تلك الشخصيّة، إلّا أنّ أمثالنا عاجزون عن ذلك.

تضادّ الصفات في شخصيّة الإمام عليه السلام

أشير إلى خصلة اتّصفت بها حياة أمير المؤمنين عليه السلام أعبّر عنها بتوازن شخصيته.

كان أمير المؤمنين عليه السلام أعجوبة في اتّزانه الشخصيّ، صفات متضادّة ومتخالفة قد اجتمعت في شخصيّته بشكل جميل، حتّى أضحت بذاتها وجوداً جميلاً. ولا يجد الإنسان مثل هذه الصفات قد اجتمعت في أحد، لكنّها قد اجتمعت في أمير المؤمنين عليه السلام بكثرة واسعة. وأعرض في ما يلي بعض هذه الصفات المتضادّة الّتي اجتمعت فيه عليه السلام.

 

مثال رأفته ورقّته

هناك مثلاً الرأفة والرقّة وهي لا تنسجم مع الحزم والصلابة, لكن عطف ورأفة ورِقّة أمير المؤمنين عليه السلام كانت حقّاً في ذراها الأعلى الّذي قلّما يبلغه إنسان عاديّ, فالّذين يساعدون المساكين ويتفقّدون العوائل الفقيرة كثيرون، إلّا أنّ الشخص الوحيد الّذي كان يؤدّي هذا العمل في عهد وفترة حكومته واقتداره وتسلّطه – أوّلاً – ويكون هذا العمل دأبه على الدوام, ولم يكتف بأدائه مرّتين أو ثلاثاً – ثانياً – وثالثاً لم يكن يقتصر على تقديم العون المادّي فحسب, بل يذهب إلى هذه العائلة، ويتحدّث مع هذا الشيخ، ويجلس مع هذا الضرير، ويلاطف هذا الصغير ويأنس بهم ويدخل البهجة إلى قلوبهم ويقدّم لهم العون هو الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

هكذا كان أمير المؤمنين عليه السلام في رحمته ورأفته.

كان يذهب إلى دار أرملة ويوقد لها التنّور ويخبز لها الخبز ويطعم أطفالها بيده المباركة، ولأجل أن يدخل الفرحة إلى قلوب هؤلاء الأطفال البائسين كان يلعب معهم وينحني ويحملهم على ظهره ويمشي بهم، ويداعبهم في كوخهم.

هذه الرأفة والرقّة في شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام جعلت أحد الشخصيّات الكبرى في ذلك العصر يقول: رأيتُ عليّاً عليه السلام يدعو اليتامى

 فيطعمهم العسل، حتّى قال بعض أصحابه: لوددت أنّي كنت يتيماً1.

وفي قضيّة النهروان حين عزم جماعة من المتعصّبين, وذوي الفهم الخاطئ على زعزعة حكمه, لأسباب واهية, كان ينصحهم ويحاججهم ويرسل لهم الرسل والوساطات، ويقدّم لهم العون، ولكن من غير جدوى, وفي نهاية المطاف حتّى حينما اصطفّ الجيشان للقتال قدّم لهم النصيحة وأرشدهم, لكنّه عندما لمس عدم جدوائية ذلك قرّر انتهاج الحزم، فأعطى الراية لأحد أنصاره وقال: كلّ من انضوى تحت هذه الراية إلى الغد فهو آمن، أمّا البقيّة فلهم السيف.

كان عددهم اثني عشر ألفاً فانضم ثمانية آلاف منهم تحت الراية, ومع ما كان يحمل هؤلاء من عَداء، ورغم موقفهم وعزمهم على القتال ولَهجهم بِسَبّ أمير المؤمنين عليه السلام إلّا أنّه تغاضى عن كلّ ذلك؛ فهم ما داموا قد اعتزلوا القتال فليذهبوا حيث شاءوا.

وبقي منهم أربعة آلاف أصرّوا على مقاتلته, فلمّا رأى إصرارهم على قتاله عزم على قتالهم، وأخبرهم أنّه لن ينجو منهم عشرة, فحاربهم في واقعة النهروان المعروفة، وقُتل منهم عدد كبير.

هذا هو نفس عليّ عليه السلام حينما يرى في مقابله فئة خبيثة تسلك منهجاً غادراً.

أُلاحظ مع الأسف عدم إعطاء صورة صحيحة عن الخوارج في

 1- بحار الأنوار، العلامة المجلسيّ، ج 41، ص 29.

 المحاضرات وفي الأفلام وفي الأدب، إذ كثيراً ما يصفونهم بالتنسك المتحجّر، وهذا خطأ طبعاً, أيُّ تنسّك هذا؟ في عهد أمير المؤمنين عليه السلام كانت بعض الفئات تعمل لمصالحها الخاصّة, وإذا شئتم معرفة الخوارج أضرب لكم مثلاً من عصرنا الراهن.

أنتم تتذكّرون فئة المنافقين؛ هؤلاء كانوا يقرأون آية من القرآن وخطبة من نهج البلاغة ثم يدّعون التديّن ويعتبرون أنفسهم أكثر إسلاماً وثوريّة من غيرهم، وهم يزرعون القنابل فيقتلون الصغار والكبار ساعة الإفطار في شهر رمضان، أو يقضون على عائلة بأسرها، أو يقتلون جماعة من الأبرياء في إحدى ساحات المدينة, لا لسبب إلّا لكونهم من أنصار الإمام والثورة.

ومن جملة جرائمهم الأخرى قتلهم شهيد المحراب, وهو رجل ورع ومجاهد في سبيل الله وقد تجاوز الثمانين من عمره، إضافة إلى قتلهم أربعة أو خمسة أشخاص آخرين من شهداء المحراب, الذين كانوا من الشخصيّات العلمائيّة البارزة والفاضلة المؤمنة.

هكذا كان الخوارج وهذه فعالهم؛ قتلوا عبد الله بن الخبّاب وبقروا بطن زوجته وهي حامل وقتلوا جنينها؛ لأنّهما كانا من أشياع عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

اعرفوا الخوارج جيّداً؛ كانوا يتمسّكون بظاهر الدين وببعض الآيات القرآنيّة ويحفظون القرآن وكلّ ما يبرز ظاهرهم الدينيّ، إذ كانوا في

الظاهر يعتقدون ببعض جوانب الدين, إلّا أنّهم كانوا يعارضون جوهره وأساسه، ويتعصّبون كثيراً لهذا الموقف.

يذكرون الله ولكنّهم أداة مُنقادة بيد الشيطان، وعندما يستدعي الموقف يتعاونون مع أمريكا والصهاينة وصدّام أو أيّة جهة أخرى لمحاربة الثورة والإمام والحكومة الإسلامية. هكذا كان الخوارج أيضاً, وحينها تصدّى لهم أمير المؤمنين عليه السلام بكلّ حزم, هذا هو نفس عليّ ﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾2 .

لاحظوا كيف تجسّدت هذه الخاصّيّة في أمير المؤمنين عليه السلام بهذا الشكل الجميل، فقلبه بما أوتي من تلك الرأفة وتلك الرقّة لا يطيق رؤية يتيم في حالة حزينة، بينما نراه يقف تارة أخرى بصرامة إزاء فئة منحرفة تنتهج أسلوباً مقيتاً وملتوياً وتقتل الأبرياء فيقضي عليهم وهم أربعة آلاف في بضع ساعات ” ولا يفلت منهم عشرة”  في حين استشهد من أصحابه أقلّ من عشرة، ربما خمسة أو ستّة. هذا هو اتّزان الشخصيّة.

مثال ورعه وحكومته

الورع يعني: اجتناب كلّ ما يحتمل فيه الكراهيّة. ولكن كيف ينسجم هذا مع الحكومة؟ هل يتسنّى للإنسان أن يكون ورعاً إلى هذا الحدّ وهو في الحكم؟.

فنحن الآن في الحكم نشعر بأهميّة وجود مثل هذه الخصلة؛ لأنّ

2- سورة الفتح، الآية: 29.

 الإنسان وهو في الحكم يتعامل مع قضايا عامّة وينفّذ قوانين، ولكن قد يكون في هذا القانون ظلم لإنسان في مكان ما, والشخص المكلّف بتنفيذ القانون بشر أيضاً وقد يُسيء تطبيق القانون.

فكيف يتأتّى للمرء التزام الورع في كلّ هذه التفاصيل الجزئيّة الّتي تستعصي على الإحاطة؟ لهذا يبدو في الظاهر أنّ الحكومة والورع لا يجتمعان, إلّا أنّ أمير المؤمنين عليه السلام جمع غاية الورع مع أقوى حكومة, وهذا ممّا يثير العَجَب.

لم يكن يجامل أحداً؛ فإذا استشعر من والٍ ضعفاً وأحسّ أنّه لا يناسب هذا العمل، عزله. كان محمّد بن أبي بكر بمثابة ابنه وكان يحبّه محبّة أبنائه، وهو أيضاً كان ينظر إليه نظرة الولد للوالد.

كان محمّد أصغر أبناء أبي بكر، وتلميذاً مخلصاً للإمام عليه السلام وقد تربّى في حجره, كان قد أرسله والياً على مصر, ثمّ كتب له فيما بعد كتاباً بعزله لعدم كفاءته في إدارة مصر, وعيّن بدله مالك الأشتر.

ومن الطبيعيّ أن يستاء محمّد بن أبي بكر من ذلك، فالإنسان مهما كبر شأنه يستاء لمثل هذا, لكن أمير المؤمنين عليه السلام لم يعتنِ لذلك.

محمّد بن أبي بكر مع ما له من شخصيّة جليلة، ومع ما لموقفه يوم الجمل وعند البيعة من أهميّة؛ فهو ابن أبي بكر وأخو أمّ المؤمنين عائشة، وعلى الرغم من مكانته عند أمير المؤمنين عليه السلام, إلّا أنّه لم ينظر إلى استيائه وامتعاضه. هذا هو الورع الّذي ينفع الإنسان وهو في الحكم, وقد

 تجسّد منتهى هذا الورع في شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام.

لقد اجتمع ورع أمير المؤمنين عليه السلام مع حكمه القويّ، وهذا ما لم نسمع به في العالم على مدى التاريخ.

الخلفاء الّذين سبقوا علياً عليه السلام كان لهم حزم في الكثير من المواقف, ويقرأ الإنسان في سيرتهم أعمالاً استثنائيّة, إلّا أنّ الفارق بين أمير المؤمنين عليه السلام ومن سبقه ومن تلاه حتّى يومنا هذا فارق عجيب لا يمكن وصفه ومقارنته.

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...