الرئيسية / بحوث اسلامية / الحسين في الفكر المسيحي – انطوان بارا

الحسين في الفكر المسيحي – انطوان بارا

الصفحة (125)

فإذا قيل في الإسلام : بدؤه محمدي وبقاؤه حسيني ، فالأجدر أن يقال أيضاً : ثورة الحسين بدؤها حسيني واستمرارها زينبي(1) .

إذ ما كادت هذه الثورة المباركة تضع أوزارها عسكرياً بتساقط رؤوس آل البيت وسبي الحرائر والعقيلات والأطفال إلى دمشق ، حتّى هبّت عقيلة بني هاشم ، التي قيل فيها العالِمة غير المعلّمة ، والفاضلة والكاملة ، وعابدة آل علي ، هبّت إلى استلام راية الثورة الحمراء من يد أخيها الحسين (عليه السّلام) ورفعتها فوق رؤوس الخلق بما علق عليها من دماء آل بيت النبي ، وهتفت من تحتها ترثي أخاها الذبيح في فلاة كربلاء الموحشة :

عـلى الطّفِّ السلامُ iiوساكنيهِ      وروحُ الله فـي تـلك القبابِ
نفوسٌ قُدّست في الأرض قدساً      وقد خُلقتْ من النُّطفِ iiالعِذابِ
مـضاجعُ فـتيةٍ عبدوا iiفناموا      هُـجوداً في الفدافدِ iiوالروابي
عـلتهمْ في مضاجعِهمْ iiكعابٌ      بــأردانٍ مُـنعّمةٍ iiرِطـابِ
وصـيّرتِ القبورَ لهم iiقصوراً      مـناخاً ذاتَ أفـنيةٍ iiرحـابِ(2)

ـــــــــــــــ
(1) هذا التعبير من وضعنا ، وقد قصدنا به التركيز بإيجاز على دَور العقيلة زينب الذي لا يقلّ عن دور أخيها (عليه السّلام) .
(2) بطل العلقمي 3 / 335 .                                                        

      الصفحة (126)

سليلةُ بيت النبوّة

وزينب الكبرى (عليها السّلام) سليلة أشرف نسب في الإسلام ، فاُمّها فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلوات الله عليهما) ، وأبوها أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وقد ولدتها اُمّها بعد ولادة أشرف شهيدَين ، سيّدا شباب أهل الجنّة الحسنين (عليهما السّلام) ، فنشأت في بيت الوحي بعد أن رضعت القدسيّة من ثدي العصمة ، ونهلت العلم والحِلم ومكارم الأخلاق وكلّ الخصال الحميدة التي اشتهرت عن آل البيت ، وهي لمّا تزل صغيرة .

وقد أثبتت حوادث ما بعد الشهادة ومواقفها خلال فترة السبي ، على رجاحة عقلها وقوّة حجّتها وحضور وحيها في أشدّ لحظات الخطر وأصعبها ، إذ قادت بنفسها مسيرة ما تبقّى من الموكب ، ودافعت عنه دفاع اللبوة عن أشبالها ، فغدت مواقفها على مرّ الأيّام وتعاقب القرون مثالاً يحتذى به ، وفخراً لثورة أخيها التي أكملتها بجهادها المستميت .

وقد ذكر الطبرسي أنّها (عليها السّلام ) كانت شديدة الحبّ لأخيها الحسين منذ نعومة أظفارها ، وكأنّ السرّ الإلهي كان يعدّهما لهدفٍ واحد يتقاسمان أعباءه . وهذا ما أكّده تواتر الأيّام ؛ إذ شاركته مسيرته وكانت إلى جانبه في معمعان محنته ، ولمّا سقط خرجت من فسطاطها ووقفت عند جسده ثمّ رفعت رأسه وقالت : اللّهم تقبّل منّا هذا القربان(1) .

وقيل : إنّها كانت قد وطّنت نفسها عند إحراق الخيم أن تقرّ في الخيمة مع النسوة ، إن كان الله شاء إحراقهنّ كما شاء قتل رجالهنّ ، وقد سألت زين العابدين عند اضطرام النار : يابن أخي ، ما نصنع ؟ مستفهمة منه مشيئة الله فيهنّ .

ـــــــــــــــــ
(1) الكبريت الأحمر 3 / 13 عن الطراز المذهّب .

الصفحة (127)

إنّها الروح المؤمنة ذاتها التي رفعت هتافها فوق جسد الحسين الطاهر ، وتضرّعت لله أن يقبله كقربان ، صرخت أمام يزيد الفاسق : أمن العدل يابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا قد هتكت ستورهنّ ، وأبديت وجوههن , وصَحِلت أصواتهن ، تحدو بهنّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد ، ويستشرفهنّ أهل المناهل والمناقل ، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد ، والشريف والدني ، ليس معهنّ من رجالهنّ ولي ، ولا من حماتهنّ حمي ؟!

وكيف ترتجى مراقبة ابن مَن لفظ فوه أكباد الأزكياء ، ونبت لحمه من دماء الشهداء ؟! وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت مَن نظر إلينا بالشنف والشنآن ، والإحن والأضغان ؟! ثمّ تقول غير متأثّم ولا مستعظم داعياً بأشياخك : ليت أشياخي ببدر شهدوا ! منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنّة تنكتها بمحضرتك .

وكيف لا تقول ذلك ؟! وقد نكأت القرحة واستأصلت الشّافة بإراقتك دماء ذرّية محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب ، أتهتف بأشياخك ؟! زعمت أنّك تناديهم فلترِدَنّ وشيكاً موردهم ، ولتودّنّ أنّك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت ، وفعلت ما فعلت . اللّهمّ خذ لنا بحقّنا وانتقم ممَّن ظلمنا ، واحلل غضبك بمَن سفك دماءنا وقتل حماتنا .

فوالله يا يزيد ما فريت إلاّ جلدك ، ولا حززت إلاّ لحمك ، ولترِدَنّ على رسول الله بما تحمّلت من سفك دماء ذريّته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته ، حيث يجمع الله شملهم ويلمّ شعثهم ويأخذ بحقّهم ، ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ )(1) . وحسبك بالله حاكماً ، وبمحمّد (صلّى الله عليه وآله) خصيماً ، وبجبريل ظهيراً . وسيعلم مَن سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين ، بئس للظالمين بدلاً ! وأيّكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً !

ـــــــــــ
(1) سورة آل عمران / 169 .

الصفحة (128)

ولئن جرت عليّ الدواهي مخاطبتك ، إنّي لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكثر توبيخك ، لكنّ العيون عبرى والصدور حرّى ، ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء وهذه الأيدي تنطف من دمائنا والأفواه تتحلّب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل وتعفّرها اُمّهات الفراعل(1) ، ولئن اتّخذتنا مغنماً لتجدننا وشيكاً مغرماً حين لا تجد إلاّ ما قدّمت يداك وما ربّك بظلاّمٍ للعبيد .

فإلى الله المشتكى وعليه المعوّل ، فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا يرحض عنك عارها ، وهل رأيك إلاّ فند وأيّامك إلاّ عدد ، وجمعك إلاّ بدد ، يوم ينادي المنادي : ألا لعنة الله على الظالمين ؟ فالحمد لله ربّ العالمين ، الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد ، ويحسن علينا الخلافة ، إنّه رحيم ودود وهو حسبنا ونِعم الوكيل .

هذه البلاغة والفصاحة لا يأتي بمثلها إلاّ مَن تربّى في بيت الطالبيّين ، وهذه الشجاعة الفائقة لا يجسر عليها بشرٌ حيال يزيد ، وقد جسرت عليها الحوراء , فبلبلت مجلس يزيد وأحدثت في أركانه هزّة ، فلم يزد إلاّ أن قال :

يا صيحةً تُحمدُ من صوائحِ       ما أهونَ النوح على النوائحِ

ثمّ أمر بإخراج الحرم من المجلس إلى خربة ، حيث أقاموا فيها ثلاث أيّام يندبون وينوحون على الحسين (عليه السّلام)(2) .

ــــــــــــــ
(1) العواسل : جمع عسّال , وهو الذئب . والفراعل : جمع فرعل , وهو ولد الضبع .

(2) اللهوف / 207 ، وأمالي الصدوق / 101 .

الصفحة (129)

وإنّها لحكمة إلهيّة أن يسار بالسبي إلى الكوفة ودمشق بهذا الشكل المهين على أقتاب الجمال ، فيرى الناس في السبايا من الفجيعة أكثر ممّا رأوا أو سمعوا في قتل الحسين ، وهذا ما هدف له الشهيد بخروجه بالنساء والأطفال والرضّع ليكونوا شهوداً وألسنة تنطق بمظلمته .

وقد قامت العقيلة زينب بالدَور الأكبر في ثورة أخيها الحسين بحملها لواء الحرب النفسيّة التي تمّمت حرب أخيها العسكريّة ، وشكّلت معها الوجه الآخر لهدفٍ واحد ألا وهو إحقاق الحقّ ، وتقويض الدولة الاُموية التي مثّلت انتهاك السنّة وتحريف العقيدة ، وفساد الحكم في كلّ زمان ومكان .

ولو لَم تقم زينب (عليها السّلام) بدَورها الصعب الذي قامت به لَما زادت الواقعة ونتائجها عن واقعة ونتائج أيّة معركة تدار فيها الأيدي والسّيوف ، وتصهل فيها الخيل ، والرأي الأمثل في هذه الحكمة ـ حكمة خروج الحسين بحرمه وما تلاها من استلام زينب لراية الكفاح ـ إنّما كان هو الهدف الذي سيتحقق بعده كلّ أهداف الثورة ؛ إذ لولا خروج زينب وحرائر وعقيلات آل البيت هذا الخروج الدرامي المفجع لَما كان للهزّة الضميريّة هذا التوجّع المؤلم ، ولم يكن ليتسنّى لها الدخول على ابن زياد في قصر الإمارة لتعلن أمام الحشد صرختها التي هي في مضمونها صرخة مشتركة مع صوت أخيها الحسين (عليه السّلام) , فتقول : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد ، وطهّرنا من الرجس تطهيراً ، إنّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا(1) .

ولا كان بإمكانها الوقوف أمام يزيد وهو فوق متّكئ سلطانه وجبروته وإلقاء خطبتها البليغة التي تحمل عبق الصدق ، فتتآلف لها النفوس ، وتتألّب لها الضمائر وتتوغّر معها الصدور على يزيد وطغمته ، فتكون بذلك قد بذرت بذرة الثورة في

ــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 6 / 262 ، واللهوف / 90 .

الصفحة (130)

الصدور إلى أن يحين موعد انفجارها .

وسيّد الشهداء (عليه السّلام) كان ينظر إلى المستقبل نظرته إلى كتاب مفتوح ، وكان عالِماً بأنّ خذلان شيعته لن يدوم أبد الدهر ، وكان في خروجه وإخراج الحرم معه إنّما يراهن على حيويّة الضمائر الإسلاميّة التي لن تجد مندوحة ولا أعذاراً في لوم نفسها على التقصير ، سواء عن سكوتها على مباغي الاُمويّين ، أم في عدم نصرتها للثائر الحسين الذي قام يحطّم الوثنيّة الجاهليّة الجديدة التي امتطت الإسلام لتحقيق مآربها ، ومحقت ذريّة الرسول صاحب هذه الرسالة باسم خلافة مزيّفة .

المعجزةُ الروحيّة

وهذه معجزة اُخرى من معجزات شهادة الحسين (عليه السّلام) معجزة تتّصل بالضمائر بمنفصم وثيق العرى ، فتمسّها مسّاً مباشراً ، فتتكهرب وتستيقظ على أمرٍ جلل قد وقع وهي لا مناص لها من التبصّر في كيفيّة وقوعه .

وعلى أنوار الشهادة السنيّة يتكشّف لهذه الضمائر ظروف تقصيرها ، وبأنّها كانت غافلة نائمة مخدّرة بأطماع وقتيّة ، وعلى صوت الحقّ الذي رفعته السبايا ، تصحو العيون والقلوب والأسماع ، فترى ما عميت عنه ، وما تغافلته زمناً ، وما امتنعت عن سماعه ردحاً .

وهذه المعجزة وما تلاها ، بدأت بخطبة زينب الاُولى في الكوفة ، وكهربتها للجموع التي أطلقت لعبرها العنان ، وقد بانت عظمة هذه المعجزة التي حملتها وستكمل حملها الكلمات القدسيّة المحاجّة التي اختصّ الله بها أهل بيت النبوّة ، والتي بدأت في الميدان وعلى لسان الشهيد نفسه حينما دوى صرخته التي

الصفحة (131)

استمرّت حتّى وقتنا هذا تتردّد في الضمائر : (( أما من مغيثٍ يغيثنا ؟ أما من ناصرٍ يعيننا ؟ )) .

وقد لبّى استجابة الصرخة الحسينيّة الحرّ بن يزيد الرياحي الذي توجّه نحو الشهيد رافعاً صوته نادماً على خروجه لقتاله : أللّهم إليك اُنيب فتُب عليَّ ، فقد أرعبتُ قلوب أوليائك وأولاد نبيّك ، يا أبا عبد الله إنّي تائب ، فهل لي من توبة ؟(1) .

فهذه اللحظات التي تمثّل رجعات الضمير من جبّ مآثمه ، كان الحسين (عليه السّلام) يعوّل عليها كثيراً في إيصال مبادئ ثورته ، وقد حملت زينب (عليها السّلام ) عبء مهمة إيقاظ الضمائر تأهّباً لرجعتها ، ساعدها في ذلك مشهد السبي المحزن الذي كان يفتّت أشدّ القلوب صلابة .

استجاباتٌ فوريّة

فعن كتاب ( المنتخب ) : أنّ عبد الله بن زياد دعا شمر بن ذي الجوشن ، وشبث بن ربعي ، وعمرو بن الحجاج ، وضمّ إليهم ألف فارس وأمرهم بإيصال السبايا والرؤوس إلى الشام .

وقال أبو مخنف : مرّ هؤلاء في طريقهم بمدينة ( تكريت ) وكان فيها عدد من النصارى ، فلمّا حاولوا أن يدخلوها اجتمع القسّيسون والرّهبان في الكنائس وضربوا النواقيس حزناً على الحسين ، وقالوا : إنّا نبرأ من قوم قتلوا ابن بنت

ــــــــــــــ
(1) اللهوف / 58 ، أمالي الصدوق / 97 ، روضة الواعظين / 159 .

الصفحة (132)

نبيّهم ، فلم يجرؤوا على دخول المدينة ، وباتوا ليلتهم في البريّة ، وكانوا يقابلون بالإعراض والكراهية كلّما مرّوا بدير من الأديرة أو بلد من بلدان النصارى .

ولمّا وصل الركب إلى ( لينا ) وكانت مدينة كبيرة تظاهر أهلها رجالاً ونساءً وشيباً وشبّاناً وهتفوا بالصلاة على الحسين وجدّه وأبيه ، ولعنوا الاُمويّين وأشياعهم وأتباهم ، وصرخوا في وجوه قوّاد الركب : يا قتلة أولاد الأنبياء ، اُخرجوا من مدينتنا .

ولمّا حاذوا ( جهينة ) بلغهم أنّ أهلها تجمّعوا وتحالفوا على قتالهم إذا وطؤوا أرض بلدهم ، فتراجعوا عن دخولها . وأتوا حصن ( كفر طاب ) فأغلق أهلها الأبواب في وجوههم ، فطلبوا منهم ماء ، فردّ عليهم أهل الحصن : والله لا نسقيكم قطرة ، وأنتم منعتم الحسين وأصحابه من الماء .

ولمّا دخلوا حمص كانت واقعة كبرى إذ تظاهر أهلها وصاروا يردّدون : أكفراً بعد إيمان ، وضلالاً بعد هدى ؟! وهجموا عليهم فقتلوا 36 فارساً رشقاً بالحجارة .

وكأنّ عقيلة بني هاشم تستقرئ المستقبل وهي واثقة من ارتداد الضمائر ، إذ قالت وهي مسبيّة : المستقبل لذكرنا ، والعظمة لرجالنا والحياة لآثارنا والعلوّ لأعتابنا والولاء لنا وحدنا . فسبحان المنطق القادر على إيصال الوحي إلى عقول ما جال بها إلاّ الحق ، ومسيّره على ألسنةٍ ما نطقت إلاّ بالفصاحة القرآنيّة ، إذ بلغ الأمر بيقظة الضمائر بعد انتهاء المذبحة بالمقتل وعودة السبي والدفن أن صارت حممها تتأجّج وتعلو لتنير كلّ ما حولها ، وإذا بالولاء لأهل البيت سنّة سنّها الناس لأنفسهم ، والتبرّك بعتباتهم العالية صار فرضاً على كلّ مؤمن ، وذِكرهم يحيا سنةً

الصفحة (133)

بعد أخرى وجيلاً بعد جيل ، ومناقبهم تعلن من فوق المنابر ، ومزاراتهم وقبورهم وكلّ مكان وطؤوه صارت محجّات للملايين من اُمّة الإسلام تحجّ إليها ضارعة مستغفرة ، قارعة الصدور ندماً ، ذائبة على آل البيت حبّاً من كلّ فجٍّ عميق .

وهذه إحدى معجزات الشهادة وما تلاها من خوارق أنزلها الله تعالى في الضمائر ، فكيف استمرّت نيران هذه الشرارة التي قدحها سيّد الشهداء فوق أرض خلاء لا يراه فيها أحد ، كيف استمرّت وتأجّجت وفردت سناها فوق رؤوس الخلائق في وقت انطفأت فيه نيران متأجّجة كثيرة ؟

أليست معجزة الخالق التي خطّطت لهذه الثورة بهذه الكيفية ، وما قول اُولئك الذين ما زالوا بعد كلّ هذا الفيض من الانتصارات الذي أحرزته ثورة فرخ النبي ، يتصدّون لها بمقاييس تقليديّة تبعد بها أميالاً عن حقيقة جوهرها ؟

إلاّ أنّ هذه الثورة رغم ما تعرّضت له على مرّ السنين من مغالطات وتشويه وتحريف ما ازدادت إلاّ سطوعاً وعلوّاً . وهذا ما تنبّأت به زينب (عليها السّلام) فيما قالته لابن أخيها الإمام السجّاد قبل أن يترك الركب أرض كربلاء في الحادي عشر من محرم : ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي ؟ فوالله إنّ هذا لعهد من الله إلى جدّك وأبيك ، إنّ قبر أبيك سيكون علماً لا يُدرَس أثره ، ولا يُمحى رسمُه على كرور الليالي والأيّام ، وليجتهد أئمّة الكفر وأشياع الضلال في محوه وتطميسه ، فلا يزداد أثره إلاّ علوّاً(1) .

وهكذا شاءت العناية الإلهيّة أن تكون السيّدة الحوراء شاهدة على المجزرة التي لم

ــــــــــــــــ
(1) كامل الزيارات / 261 باب فضل كربلاء وزيارة الحسين .

الصفحة (134)

يكن فيها خصمان ، بقدر ما كان فيها قاتل ومقتول ، وجزّار وضحيّة ، وأن تكون مواقفها وكلماتها بعد المجزرة مواقف وكلمات المُعايِنَة ، المُعانِيَة بكلّ أعصابها وإحساسها النسوي الاُمومي ، ولم يكن كزينب أهلٌ لهذه المهمّة الصعبة تناط بها ، وهي التي شاهدت وفاة جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، وعاشت محنة اُمّها الزهراء وندبها لأبيها في بيت الأحزان وانتهاك حرمتها ومنع إرثها وكسر جنبها وإسقاط جنينها وتلطيخ سمعتها وهي تنادي فلا تُجاب .

وهي التي شاهدت قتل أبيها أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، ورأت مكان الضربة في رأسه ، وعاينت مظاهر سريان الدم في جسده ، واحترقت بدموعه الطاهرة تفيض من عينَيه ، وهو يقلّب طرفه فيها وبأخويها الحسن والحسين (عليهما السّلام) . وهي التي شاهدت أخاها الحسن وهو يجود بنفسه مصفرّ اللون ، يلفظ كبده قطعاً قطعاً من تأثير السمّ ، ورأت عائشة تمنع من دفنه مع جدّه وتركب بغلة وتصيح : والله لا يُدفن الحسن هنا أبداً .

أمّا مصيبة المصائب وخاتمة الأرزاء التي عاشتها ورأتها فكانت فيما عاشته إلى جانب أخيها الشهيد في كربلاء ، وفيما عانته خلال مسار سبيها برفقة العليل والنساء والأطفال ، كانت مصائب يعجز عن وصفها لسان ، وأرزاء لا يحتملها بشر ، فاقت في قوّتها وتأثيرها كلّ ما مرّ بها من محن وآلام في تتالي أيّامها المتخمة بالأحزان والمصائب . فكيف عاشت العقيلة هذه التجارب ؟ وكيف تحمّلت كلّ هذه الآلام ؟ وكيف صبرت على كلّ هذا القدر من البلاء الذي حلّ بها ؟

المألوف هنا في مثل هذه المواقف أن تُتعتَع أشدّ العقول رزانة ، وتعمى أشدّ البصائر رويَّة ، فتتخبّط خبطاً عشواء تدلّ على اختلال الأعصاب التي لا تبقي على أي أثر للتعقّل أو الاتّزان .

شاهد أيضاً

الادب العربي – الأمثال العربية: محمد رضا المظفر

المقدمة من سنن الاسلام مراعاة النفس الانسانية،فهناك نفس مؤمنة قوية مطمئنة،ونفس كافرة قلقة هشة.نفسيات متباينة ...