الحسين في الفكر المسيحي – انطوان بارا
1 يناير,2023
بحوث اسلامية
282 زيارة
الصفحة (155)
فقُل للشامتينَ بنا أفيقوا سيلقى الشامتونَ كما لقينا(1)
ورأى في كفّة الشهيد كيف تحرّك في وجه معاوية حينما كان يعدّ ابنه للخلافة ، وتخيّله جالساً فوق الرمال جلسة متواضعة زاهدة وهو يخطّ رسالة لمعاوية يطالبه فيها بأخذ يزيد فيما أخذ فيه من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش ، والحمام السبق لأترابهن ، والقيان ذوات المعازف ، وضرب الملاهي وترك ما يحاول من إيهام الناس فيه ، كمَن يقدح باطلاً في جَور وحنقاً في ظلم .
رآه يرفض البيعة ليزيد بكلمته الشهيرة : (( ومثلي لا يبايع مثله )) . ورآه يتمرّد على طاعة إمام مزيّف . رآه وهو يخرج من المدينة إلى الكوفة ، ورأى مواقفه الشجاعة في مواقع الخطر ، وسمع أقواله وكلماته الأخيرة أمام أشداق الموت ، فلم يجد فيها أدنى اختلاف عن تلك التي عرفها منه وهو آمن مطمئن في المدينة بعيداً عن منازل حتفه .
ثمّ رآه فوق ثرى الطفِّ رابط الجأش قويّاً ، يشعّ وجهه بنور سماوي بينما يتساقط حوله خلّص صحبه وأهل بيته ، وتنتهك حرمه على مرأى منه .
رآه يقف كالأسد الهصور وحيداً يصيح في وجه أعداء الدِّين يدعوهم للبراز وهو يردّد :
ــــــــــــــ
(1) اختلفت المصادر في نسبة هذه الأبيات ، فنسبها ابن هشام في السيرة لغروة بن مسيك المرادي ، ونسبها الفرزدق إلى خاله العلاء بن قرظة . أمّا المرتضى في الأمالي فقد نسبها إلى ذي الإصبع العدواني ، وفي عيون الأخبار لابن قتيبة ، وفي شرح الحماسة للتبريزي أنّها للفرزدق .
الصفحة (156)
أنـا الحسينُ بنُ iiعلي آلـيتُ ألاّ iiأنـثني
أحـمي عـيالاتِ أبي أمضي على دينِ النبي(1)
ورآه وهو يقبّل ولده الرضيع ويودّعه قبل أن يلقى حمامه ، ثمّ وهو يرفعه فوق يديه على مرأى من وحوش بشريّة تحجّرت قلوبها ، ورأى حرملة بن كاهل الأسدي يرمي الرضيع بسهم فيذبحه وهو بين يدي أبيه .
رآه ، ورآه ، ورآه ، في كلّ موقف وفي كلّ ميدان ، رآه كما يرى الإنسان البرق فلا يلحقه ببصره ، رآه في الميدان ممدّداً وشمر بن ذي الجوشن الكلب الأبقع ينيخ على صدره ويقبض على شيبته المقدّسة ويضربه بالسيف اثنتَي عشرة ضربة ، ثمّ يحتزّ رأسه الشريف .
وتتوالى المشاهد بعد ذلك أمام ناظري المسلم ، منبعثة من كفّة الحسين (عليه السّلام) ، فيرى رأسه فوق رمح ، ويرى موكب السبي الذي يفتّت القلوب ، ويعبر في مجاز خياله منظر الرأس الشريف في طبق عند أقدام طاغية ، وقضيب ينكت شفتَيه . ومع ما كان يراه ، كان يسمع صوت العقيلة زينب يذكّره ببيعة نفسه لشيطان أطماعه الدنيويّة ليشتري بثمنها مكاناً مقيماً في الجحيم .
وحينما يصل هذا المسلم إلى هذا الحدّ من الرؤى المنبعثة من كفّة الشهيد (عليه السّلام) ، ينفطر قلبه توجّعاً وتدمع عيناه ندماً ، فيقرع صدره ويضرب خدّيه ، وما يلبث أن يلتفت نحو الكفّة الثانية ، فماذا يرى ؟
ــــــــــــــ
(1) مناقب ابن شهر آشوب 2 / 223 .
الصفحة (157)
في كفّة يزيد
يرى يزيد جالساً بين ندمائه يعاقر الخمرة ، ويعابث النساء ، وأمامه كلاب مسرجة بحللٍ من ذهب ، وبعض الجواري ممَّن تحلّين باللآلئ يرحن ويغدون بصوان من ذهب خالص . وأمام يزيد صينيّة ملأى باللؤلؤ الناصع ، وعند رجلَيه شاعر معروق يقول فيه قصيدة ركيكة المعنى والمبنى , وهو منصرف عنه يقهقه بصوت ماجن ، وأصابعه المحشوّة بالخواتم تعبث بصدر جارية رومية . وينتهي الشاعر من قصيدته فيتنبه يزيد لذلك ، فيعتدل لينشد بدوره :
أقولُ لصحبٍ ضمّت الكأسُ شملَهمْ وداعـي صـباباتِ الهوى iiيترنّمُ
خـذوا بـنصيبٍ مـن نعيمٍ iiولَذةٍ فـكلّ وإن طـال المدى iiيتصرّم(1)
وهو في مجلس شرابه وندمه ، إذ بأحد الخدم يقتحم عليه قصفه ويسرّ باُذنه ببضع كلمات يتغيّر على أثرها لون وجهه ، ويهبّ لا مبالي ، وقبل أن يغادر يطلب من وكيل جلسته أن يحشو فم الشاعر المعروق لؤلؤاً تكريماً له ، ثمّ يختفي عن الأنظار ليظهر أمام أبيه المحتضر .
ــــــــــــــــ
(1) راجع حياة الحيوان ـ الدميري 2 / 270 .
الصفحة (158)
وفي صمت يتقبّل منه وصيّته الأخيرة لينطلق بعدها في عمليّات لا حدّ لها من التهوّر , مخالفاً بذلك وصيّة والده في بعض فقراتها .
رأى المسلم يزيد خلال ثلاث سنين ونصف قاتلاً مفضحاً ، بدأ ولايته بقتل الحسين ، وفي سنته الثانية أباح المدينة ثلاثة أيّام بعد أن نهبها ، وقتل فيها سبعمئة من المهاجرين والأنصار , وعشرة آلاف من الموالي والعرب والتابعين ، وافتضّ ألف عذراء(1) .
رآه يداعب قرده ( أبا قيس ) ويلبسه الحرير ويطرّزه بالذهب واللآلئ ويركبه أتاناً في السباق ويجهد كي يجعله سبّاقاً على الجياد ، ويقول فيه :
تـمسّك أبـا قيسٍ بفضلِ iiعنانِها فـليس عليها إنْ سقطتَ iiضمانُ
ألا مَن رأى القردَ الذي سبقت بهِ جـيادَ أمـير الـمؤمنين iiأتـانُ(2)
ورآه متثاقلاً متمارضاً ، بينما جيش أبيه يتّجه إلى القسطنطينيّة ، وسمعه حينما ضرب الجوع والمرض هذا الجيش في منتصف الطريق ، ينشد هذه الأبيات التي تدلّ على ختله وخداعه :
ما إنْ اُبالي بما لاقتْ جموعُهُمُ بـ ( الفرقدونة ) من حمّى ومن مومِ
ــــــــــــــــ
(1) الذهبي في سير أعلام النبلاء ، ورسالة الجاحظ / 298 الرسالة الحادية عشرة في بني اُميّة ، عن المقتل المقرّم .
(2) أمالي الزجاجي / 45 .
الصفحة (159)
إذا اتّكأت على الأنماطِ مرتفقاً بدَير مرّان عندي اُمّ كلثومِ(1)
ورأى معاوية حينما بلغه هذان البيتان يقسم ليلحقنّ ابنه أمير المؤمنين المزمع بالجيش تفادياً للفضيحة ودرءاً لشماتة المسلمين ، بعد شيوع هذا القول في مختلف الأوساط .
ورأى يزيد يطلب من ابن زياد بثّ عيونه خلف الحسين خلال توجّهه إلى العراق ، وحبس الناس على الظنّة وقتلهم على التّهمة . ورآه في حضن اُمّه ميسون بنت عبد الرحمن بن بجدل الكلبي ، بعد أن ولدته بالحرام من عبدٍ لأبيها مكّنته من نفسها فحملت به .
ورآه على شاكلة جدّه أبي سفيان عدوّ الله والإسلام الذي قاد الحرب ضدّ القرآن في بدر واُحد والأحزاب . ورآه على شاكلة جدّته هند المغرمة بحبّ السود ، والتي أنجبت والده معاوية بعد زواجها من جدّه بثلاثة أشهر ، والتي أكلت كبد حمزة عمّ الرسول ، ولقّبت بآكلة الأكباد .
رآه على شاكلة أبيه معاوية الذي حارب علياً في صفين ، وقتل عمّار بن ياسر ، وسمّ الحسن ، ومالك الأشتر ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد . رآه ينشد ( ليت أشياخي ببدر شهدوا ) حينما رأى رأس الحسين على سنّ رمح ، وسمع قهقهته وهو ينكث ثنايا الرأس الشريف بالقضيب .
ـــــــــــــ
(12) الكامل لابن الأثير 3 / 197 .
الصفحة (160)
رآه يشرف من قصره على موكب السبي المشدود بالحبال على أقتاب الجمال ، ورأى الإمام زين العابدين وفي عنقه الأغلال ، ورأى رؤوس شهداء الطفّ فوق أسنّة الرماح .
رآه يأمر فيتحوّل أمره إلى إبادة لذريّة الرسول ، ويأمر فيحتزّ رأس ريحانة الرسول ، ويأمر فيوطأ جثمانه الطاهر بحوافر الخيل . رأى ، ورأى ، ورأى ، حتّى كادت المشاهد تختلط ببعضها مع ما فاض في مآقيه من دمع ، وبين كفّتي الحسين ويزيد أخذ بصره يتابع بحدّة وسرعة كثافة الرؤى والأحداث ، فغدت هذه الرؤى كشريط ذكرى وتذكّر يُعرض أمام ناظريه بما لا يجعله يقف طويلاً عندها بعد أن بلغت روحه التراقي ، ولم يعد بإمكان مشاعره المثلومة أن تركّز على ما يعرض أمامه ، وما يراه بصره خلال تنقّله بين كفّتي الخصمين .
رأى الحسين ، ورأى يزيد ، ورأى معاوية ، ورأى علياً ، ورأى زينب ، وها هو الشريط يتسارع أمام عينيه ، وها هو الحسين طفلاً بين يدي جدّه ، وجدّه يقول : (( اللّهمّ أحبّه فإنّي اُحبّه )) . علي يقول لابنه الحسين : (( مَن سلّ سيف البغي قُتل به )) .
يزيد يرقّص القرد كقرّاد , والحسين يهتف : (( قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بدّ منه )) . ويزيد يهتف : أسقني شربة تروي مشاشي . ومعاوية يأخذ البيعة بحدّ السيف .
زينب تصرخ : يا جدّاه ، يا رسول الله ! أنا ناعية إليك ولدك أخي الحسين .
الصفحة (161)
يزيد بين القيان والجواري ، ويزيد بين نساطرة الشام . الحسين يَهَب مال بيته للفقراء ، ويزيد يحشو فم شاعرٍ باللؤلؤ .
علي : (( ليس مَن طلب الحقّ فأخطأه كمَن طلب الباطل فأدركه )) .
زينب تهتف بوجه يزيد : فوالله ما فريت إلاّ جلدك ولا حززت إلاّ لحمك .
يزيد يقول لعلي بن الحسين : ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم .
معاوية يدسّ السمّ لخصومه السياسيّين .
الحسين مقطوع الرأس في كربلاء .
يزيد يأمر بمنع الماء عن الحسين .
يزيد يشير إلى الرأس الشريف ويسأل : أتدرون من أين أتي هذا ؟
الحسين بين اُمّه فاطمة الزهراء وأبيه علي . ويزيد بين اُمّه ميسون وأبيه معاوية .
معاوية يحتضر ويكذب بأنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) كساه قميصاً وقلّم أظفاره يوماً .
الحسين يهتف : (( ألا من ناصرٍ … ألا من معينٍ … )) .
الحسين يستعطف قوماً غلظت قلوبهم لجرعة ماء لرضيع .
معاوية في غبش الرؤيا ، خفيّ المعالم ، غامض المبادئ والمواقف .
الحسين المقتول سبط الرسول الكريم .
يزيد القاتل ابن معاوية الثعلب .
الصفحة (162)
علي جامع الفضائل وحامل راية الإسلام من يد النبي .
معاوية يغتصب الخلافة لابنه عنوةً .
آل البيت أحقّ بالخلافة من بني اُميّة .
يزيد شارب الخمر معلن بالفسق .
الحسين سيّد شباب أهل الجنّة ، وطالب الإصلاح في اُمّة جدّه .
يزيد جعل الخلافة الإسلاميّة بيد السفهاء والقيان والفهّادين والغلمان . والحسين استشهد مع عترة النبي دفاعاً عن عقيدة الإسلام .
* * *
وفي مثل هذه المواقف التي وجد المسلم بها نفسه ، تعصف به رياح الشكّ والندم فيما كان وقف متأمّلاً على مفترق عدّة طرق ، وقف بعد أن أجّجت ضميره عصفة غثر عصفة من عواصف المُثل الثوريّة الجديدة ، فدفعته إلى التساؤل بينه وبين نفسه ، وكان يسمع إجابات داخليّة تربّت حيناً ، وتدغدغ حيناً آخر ، وتدقّ مراراً .
وقف يسأل على مفترق طرق قبل أن يقرّر سلوك إحداها ليصل إلى ما يعزم عليه ، وإلى الهدف الذي يتبدّى له أصلح من غيره نتيجة ما يتجمّع في قناعاته ، وما يتولّد من أفكاره ومبادئه ، وما تفرزه الأحداث والخضّات التي أصابته في الصميم .
سأل نفسه : مَن أنا ؟ أجابته نفسه :
الصفحة (163)
أنت مسلم ما بعد الثورة .
وما كُنته قَبْلَها إذاً ؟
لم تكن شيئاً ، فقد بعتني للشيطان وقبضت الثمن .
كيف ؟
رأيت الباطل فسكتّ عنه .
لم أكن أعرف أنّه باطل .
بل عرفت ، ورأيت الحقّ يُداس فلم ترفع إصبعاً .
لم ألحظ هذا الأمر .
بلى ، لحظته وتعامَيت .
لم يصل إلى مسمعي .
بلى ، وصل وتصاممت .
ما كان عليّ أن أفعل ؟
أن تهبّ وتقتلع .
اقتلع ماذا ؟
الزيف ، الظلم ، الضنك وانتهاك العقيدة .
ومن أين لي القدرة وأنا الضعيف ؟
لست ضعيفاً ، بل قويّاً ، تعاميك وصممك قوة .
وهل أقدر على الطغاة ؟
أجل ، بنصرتك رافعي لواء الحق .
ومَن هم هؤلاء ؟
الحسين .
وأين كنتُ سألقاه لأنصره ؟
في قلبك وداخل مأوى عقيدتك
الصفحة (164)
لو أدركته لنصرته .
ما دمت سكتّ عن يزيد فلن تنصر حسيناً .
وهل نُصرتي كانت ستفيده ؟
عندما تنصره تضيف لسيوفه سيفاً جديداً
لا أكذّب ، فلم أعِ ذلك في حينه .
ألم أقل لك بأنّك تعاميت وتصاممت . فلم تعد ترى ولا تسمع ؟
ولكنّي مسلم . وطاعة الخليفة واجب عليَّ .
الخليفة الذي قتل سبط النبي باسم إسلام جدّه ؟
لقد اشتريت دنياك بآخرتك .
أنا نادم بعد أن علمتُ بما جرى .
وما يفيد ندمك الآن أيّها المسلم ؟
ألا يفيد بشيء ؟ ألا يمكنني فعل شيء ؟
بلى ، يمكنك مقايضة دنياك بآخرتك .
أنا مستعدّ لهذه المقايضة . علّ أن يرتاح ضميري .
إذاً فهل تُقِرّ بأنّك لم تنصر الحسين ؟
اُقِرّ .
وبأنّك نصرت يزيد بسكوتك على مخازيه ؟
اُقِرّ .
وهل لديك فكرة عن كيفيّة إراحة ضميرك .
بأن أنصر الحسين واُناجز يزيد .
ولكن الحسين قُتل ولم يبقَ إلاّ مبادئه وشعارات ثورته .
سأسير إذاً على هذه المبادئ منذ الآن فصاعداً .
2023-01-01