الرئيسية / الاسلام والحياة / تأملات في الطريق 11

تأملات في الطريق 11

ثالثا [ فتن البحث عن هوية ]

مما لا شك فيه أن وجود الفرد في بيئة معينة واتصاله المستمر بالعالم الخارجي يجعله يكتسب خبرات جديدة تعدل من استعداداته وميوله الفطرية، فالعالم الخارجي له أثرا بالغا على تنظيم الانفعال الذي يمد الفرد بالطاقة العصبية اللازمة. للتعبير عن الغريزة حتى تتجمع حول شخص معين أو حول شئ معين، والمسيرة الإسرائيلية لم تنقطع يوما عن العالم الخارجي. ولهذا اكتسبت مجموعة من الخصائص الانفعالية المميزة للفرد، أو بعبارة أخرى مجموعة الصفات التي يتسم بها سلوك الفرد وانفعالاته ودوافعه، وعلى امتداد المسيرة وفي كل مرة يحدث الاتصال بالعالم الخارجي. تتأثر مجموعة من الغرائز والانفعالات المختلفة. فإن كانت في مجموعها تلتقي مع الأهواء أدت إلى عاطفة حب. وإن كانت في مجموعها مؤلمة أدت إلى عاطفة كره.

والدين الإلهي لم يترك الإنسان للعالم الذي من حوله، وإنما قدم البناء اللازم الذي تتكامل به الشخصية وتتآلف عناصرها بحيث تتجه اتجاها موحدا نحو غرض معين، ولكن المسيرة الإسرائيلية إختلفت عناصر شخصيتها عندما ابتعدت عن خط الأنبياء، مما أدى إلى حدوث الانقسامات المختلفة بين العناصر وتعارضت اتجاهاتها، فكان من نتيجة

ذلك ضعف الشخصية أمام الزينة والزخرف في العالم الخارجي، فراحت تأكل من ثماره وتجتر ذكرياتها على سبيله، وأنتج زاد الثمار والذكريات العقد النفسية التي هي في مجملها استعداد وجداني مكتسب دائم. يؤثر في سلوك المرء وشعوره ويفرغ عليهما طابعا خاصا، ومما لا شك فيه أن العقدة النفسية قد تنشأ من صدمة انفعالية عنيفة، أو قد تنشأ من صراع نفسي غير محسوم، أو قد تنشأ من تربية غير رشيدة، هذا كله له معالم على امتداد المسيرة الإسرائيلية التي أرغمتها العقد النفسية في نهاية المطاف على الخوف. حتى ولو لم يكن هناك داعيا إلى الخوف، وهذا كله نتيجة حقيقية. لمقدمة حقيقية. غيروا فيها اتجاههم الفطري.

 

وأصبحوا عالة على حركة وإنتاج الأمم من حولهم.

والباحث في المسيرة الإسرائيلية يجد أن المسيرة قد تأثرت بعقائد العالم الخارجي، ومن ثياب هذه العقائد اتخذت المسيرة ثوبا واحدا أضافت إليه معالم سماوية باهتة، تتفق مع أهوائهم وتنسجم مع العقد النفسية التي أفرزتها الأحداث على امتداد المسيرة، وفي نهاية المطاف رشحت ثقافات هذه العقائد على المدنية المعاصرة وهددت الإنسانية بالانهدام. ومهدت الطريق إلى المسيح الدجال. وفي إفرازات المسيرة الإسرائيلية يقول صاحب تفسير الميزان: إذا تأملت قصص بني إسرائيل المذكورة في القرآن، وأمعنت فيها. وما فيها من أسرار أخلاقهم وجدت أنهم كانوا قوما غائرين في المادة مكبين على ما يعطيه الحس من لذائذ الحياة الصورية، فقد كانت هذه الأمة لا تؤمن بما وراء الحس ولا تنقاد إلا إلى اللذة والكمال المادي، وهم اليوم كذلك، وهذا الشأن هو الذي صبر عقولهم وإرادتهم تحت انقياد الحس والمادة. لا يعقلون إلا ما يجوزانه، ولا يريدون إلا ما يرخصان لهم ذلك، فانقياد الحس يوجب لهم أن لا يقبلوا قولا إلا إذا دل عليه الحس، وانقياد المادة اقتضى فيهم أن يقبلوا كل ما يريده أو يستحسنه لهم كبرائهم من جمال


الصفحة 87

المادة وزخرف الحياة، فأنتج ذلك فيهم التناقض قولا وفعلا، فهم يذمون كل اتباع باسم أنه تقليد وإن كان مما ينبغي إذا كان بعيدا من حسهم، ويمدحون كل اتباع باسم أنه حظ الحياة وإن كان مما لا ينبغي إذا كان ملائما لهوساتهم المادية، وقد ساعدهم على ذلك وأعانهم عليه مكثهم الممتد وقطونهم الطويل بمصر تحت استذلال المصريين، واسترقاقهم وتعذيبهم، وبالجملة: فكانوا لذلك صعبة الانقياد لما يأمرهم به أنبيائهم والربانيون من علمائهم مما فيه صلاح معاشهم ومعادهم، وسريعة اللحوق إلى ما يدعوهم المغرضون والمستكبرون منهم، وقد ابتليت الحقيقة والحق اليوم بمثل هذه البلية بالمدنية المادية، فهي مبنية القاعدة على الحس والمادة. فلا يقبل دليل فيما بعد عن الحس، ولا يسأل عن دليل فيما تضمن لذة مادية حسية، فأوجب ذلك إبطال الغريزة الإنسانية في أحكامها، وارتحال المعارف العالية والأخلاق الفاضلة من بيننا. فصار يهدد الإنسانية بالانهدام، وجامعة البشر بأشد الفساد وليعلمن نبأه بعد حين (1).

. فالمسيرة اكتسبت من العالم الوثني الشئ الكثير، وكان لهذا أثرا بالغا على سلوك الفرد وانفعالاته ودوافعه، ودفعت المسيرة في صراع نفسي غير محسوم أدى إلى تناقض حركتها قولا وفعلا، وهذا الاهتزاز النفسي رشح فيما بعد على الجامعة البشرية وهددها بالفساد، ولبيان المكتسبات الإسرائيلية من الأمم الوثنية الاستكبارية، نلقي بعض الضوء على أهم المحطات التي تزودت منها المسيرة الإسرائيلية.

 

1 – [ فتنة العجل ]

لا شك أن أبرز ظاهرة في خصائص الديانة المصرية القديمة هي

____________

(1) الميزان 296 / 8.


الصفحة 88

كثرة الآلهة، ولو ذرعنا المنطقة من منف إلى أسوان وبحثنا في كل مركز من مراكز العبادة، لوجدنا كائنات إلهية تتخذ صور الأبقار والتماسيح والكباش والكلاب الوحشية واللبؤات والعجول، وكثيرا من المخلوقات الأخرى ويطلق عليها عادة أسماء شتى في مختلف المدن، ورغم أن الآلهة تبعا لبلادها كانت تختلف في الشكل وفي الاسم. إلا أنه توجد عدة دلائل على أن المعتقدات الدينية كانت موحدة في أذهان المصريين أكثر مما نظن من واقع اختلاف أشكال الآلهة وأسمائهم (1) ويجل جميع قدماء المصريين البقرة لأنها معطية اللبن ولأنها الأم السماوية للشمس كما يعتقدون، وأطلقوا على البقرة اسم (صخور) وكثيرا ما كانوا يبنون لها المعابد ويكرسون لها قطعانا كاملة من أخواتها، وكذلك للآلهة التي تتخذ صورة الثور (مثل: مونتو، ومين، وآمون) وللثيران التي تتجسد فيها الآلهة (مثل: منفيس، أبيس، هليوبوليس) (2).

والعجل أبيس له بصمات واضحة على العقيدة المصرية القديمة، فهو رمز الاخصاب. واعتقد المصريون أن العجل أبيس اقترن بإله منف (بتاح) واندمج في (أوزيريس) فتكون منهما إله جنائزي. ومنذ ذلك الوقت اتخذ موت العجل أبيس أهمية بالغة، فيدفن بجنازة رسمية وسط جمع من الكهنة وغيرهم الذين كانوا يحضرون له الهدايا من كافة أرجاء المملكة، وكانوا يعتقدون أن أبيس عندما يموت يعود فيولد من جديد، ولهذا كان الكهنة يبحثون عنه بمجرد أن يموت، ويتوجهون إلى الحقول ويفحصون القطعان للعثور على ذلك الإله الذي يمكن التعرف عليه بعلامات خاصة فوق جلده، وعندما يعثرون عليه يحل الفرح محل الحزن ويتوج العجل الإلهي في الحظيرة المقدسة بمنف. حيث يعيش

____________

(1) الميزان 210 / 1.

(2) معجم الحضارة المصرية القديمة ص 32.


الصفحة 89

مع أمه يحيط به حريم الأبقار (1).

فالبقرة ترمز إلى الاخصاب. وعقيدتها تقول أنها في (أبيس) بمجرد أن تموت تبعث من جديد. وهي في (صخور) حاكمة السماء وجسمها الحقيقي، والروح الحية للأشجار، ومربية ملك مصر، وأم حورس، وربة الذهب، وشخصية متعددة الألوان بوسعها أن تأخذ صورة لبؤة، وهي ربة للسعادة والرقص والموسيقى (2).

فس هذه العقائد شربت قلوب الذين كفروا من بني إسرائيل حب العجول. وقبل أن تجف أقدامهم من عبور البحر مع موسى عليه السلام اتخذوا العجل إلها. قال تعالى: (ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون. وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم) (3).

وعلى عقيدة بعث العجل بمجرد أن يموت، إنطلقوا في آشور وفي بابل تحت سقف السبي، يبحثون عن هوية جديدة تبعث عليها دولتهم، لتضاهي (حخور) حاكمة السماء وجسمها الحقيقي. وتكون كالروح الحية للأشجار كما تقول عقيدة الأبقار، وتحت سقف البحث عن هوية.

كانت يد الله تعمل في الخفاء وهم لا يشعرون، قال تعالى: (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين) (4) وذلك لأن نظام العالم هو نظام الأسباب والمسببات، والمسيرة لم تأخذ بأسباب التوبة والرجوع إلى الله، وإنما

____________

(1) المصدر السابق ص 3.

(2) المصدر السابق ص 96.

(3) سورة البقرة آية 92.

(4) سورة الأعراف آية 152.


الصفحة 90

أخذت بأسباب لا تحقق النجاة ولا تهدي طريقا إلا طريق الفتنة التي تقود أتباعها إلى جهنم.

شاهد أيضاً

الولايات المتحدة تعتزم إرسال جنرالات لوضع خطط للعملية المقترحة في رفح

تعتزم الولايات المتحدة الأمريكية إرسال جنرالات لوضع خطط للعملية المقترحة في مدينة رفح جنوبي قطاع ...