الرئيسية / الاسلام والحياة / تأملات في الطريق 12

تأملات في الطريق 12

2 – [ فتنة الدماء النقية ]

لا شك في أن الشيطان صد عن العبادة الحق التي تصل الإنسان بربه. وتحقق له السعادة في الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، وبرنامج الشيطان الذي صد به عن العبادة. هو نفس البرنامج الذي شوه به رموز هذه العبادة لينفق الناس من حولهم، فالله تعالى اصطفى من خلقه آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران وآل محمد. كما أخبر القرآن والسنة.

فهؤلاء من دون الناس الذين أخلصهم الله تعالى لعبادته، وباختصار:

اصطفى الله الأنبياء والرسل واختار سبحانه من عباده من يقوم بيان شريعته للناس. فهؤلاء أصحاب الدماء النقية، بمعنى أن الشيطان ليس له فيهم نصيب، والشيطان صد عن هذا السبيل بإلقاءاته. ومن معالم هذه الإلقاءات ظهور ثقافة تبناها الجبابرة والطواغيت على امتداد المسيرة البشرية. والعمود الفقري لهذه الثقافة. أن في عروق هؤلاء وأسرهم تجري دماء الآلهة، ووفقا لهذا الاعتقاد الذي فرضوه على شعوبهم. حكموا بالحديد وبالنار، وظل الحكم في هذه الأسر قرونا طويلة نتيجة لهذا الاعتقاد، وما أن تسقط أسرة حتى تقوم مكانها أسرة جديدة. تنطلق من هذا المستنقع الذي ابتليت به المسيرة البشرية.

وعلى هذا الاعتقاد كان الفراعنة وملوك آشور وملوك بابل والإغريق والبطالمة، وجميع هؤلاء احتكت بهم المسيرة الإسرائيلية.

وتأثرت ببرامجهم المادية والحسية، ولقد رشحت ثقافة تزكية الفرد والأسرة والقبيلة التي تحتويها هذه البرامج على المسيرة البشرية فيما بعد، ورد عليها القرآن الكريم. قال تعالى: (ألم تر إلى الذين يزكون


الصفحة 91

أنفسهم. بل الله يزكي من يشاء ولا تظلمون فتيلا. أنظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا) (1) وقال جل شأنه (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) (2).

وفي آشور وبابل لم يضع بني إسرائيل أعمدة الأسرة المختارة وإنما وضعوا أعمدة الشعب المختار الذي يدخر له الغيب أميرا مختارا يمتلكون به الأرض، وكانت الأرضية التي وضعوا عليها هذه الأعمدة قولهم: سيغفر لنا، ولكي يتفق هذا المدخل مع ما ارتكبوه من جرائم، نسبوا إلى الأنبياء ما لا يتفق مع عصمتهم ومكانتهم، بمعنى أن الخطأ إذا وقع فيه الأنبياء. فإن من دونهم يلتمس له الأعذار، وبعد أن أدخلوا أنفسهم في دائرة المغفرة، أدخلوا أنفسهم في دوائر التبشير التي أخبر بها الأنبياء عن ربهم، بمعنى إذا كان في بطن الغيب أمه اختارها الله لقيادة البشرية ادعوا أن الأمة أمتهم، وأن الأوصاف التي بينها الأنبياء تنطبق عليهم في بطن الغيب لكونهم شعب الله المختار. الذين ينفردون عن الناس ولهم أفضليتهم على جميع المخلوقات في نظر الخالق، وبهذا وبغيره جعلوا الكتاب المقدس ينطق. بعد أن حرفوا النصوص وتأولوها. وبعد أن وضعوها في غير مواضعها.

وقولهم سيغفر لنا. أشار إليه قوله تعالى: (وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك. وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون. فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق..) (3) قال ابن

____________

(1) سورة النساء آية 49.

(2) سورة النجم آية 32.

(3) سورة الأعراف آية 168.


الصفحة 92

كثير: يذكر تعالى أنه فرقهم في الأرض طوائف وفرقا، فيهم الصالح وغير ذلك، واختبرهم بالرخاء والشدة والرغبة والرهبة والعافية والبلاء لعلهم يرجعون، فخلف من بعدهم خلف لا خير فيهم وقد ورثوا دراسة التوراة، لا يشرف لهم شئ من الدنيا إلا أخذوه حلالا كان أو حراما ويقولون سيغفر لنا (1).

وقال في الميزان: قولهم ” سيغفر لنا ” قول جزافي لهم قالوه، ولا معول لهم فيه إلا الاغترار بشعبهم الذي سموه شعب الله. كما سموا أنفسهم أبناء الله وأحباءه، ولم يقولوا ذلك لوعد النفس بالتوبة، ولا أنهم قالوا ذلك رجاء للمغفرة الإلهية، فليس ما تظاهروا به رجاءا صادقا بل أمنية نفسانية كاذبة، وتسويل شيطاني موبق، فمن كان يرجو لقاء ربه، فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (2).

ومن باب قولهم سيغفر لنا فتحوا أبوابا قالوا عندها يوما: نحن أولياء الله من دون الناس، ويوما: نحن أبناء الله وأحبائه، ووضعوا هذه الأقوال داخل عقيدة تقول خطوطها العريضة: ليس علينا في الأميين سبيل، ومن هذا النسيج قاموا ببناء نظرية تفوقهم على البشر وانفراديتهم عن الناس وأفضليتهم على جميع المخلوقات في نظر الخالق، وانطلقوا وراء الأحبار يرددون القول بأنهم أمة فريدة تقف من الأمم موقف المختار الذي يتمتع بحقوق ليس لغيره، ولأنهم أمة فريدة فإن أمتهم عندما تموت تبعث من جديد، لأنها كالروح الحية للأشجار، وكالأم السماوية معطية اللبن لجميع المواليد ليؤمنوا بالعهد الألفي السعيد.

ومن الترديد وراء الأحبار انطلقوا إلى دائرة العمل، وخطوطها العريضة تقول: إن داوود إختاره الإله وعينه ملكا، ومملكة داوود هي

____________

(1) تفسير ابن كثير 2 / 265.

(2) الميزان 298 / 8.


الصفحة 93

عنوان ودعاء عهد الإله لإبراهيم، وأورشاليم اختارها الله عاصمة لهذا الملك، وعلى الجميع أن يخضعوا لهذه المملكة ولعاصمتها، لأن التعبد لله لا ينفصل عن الدولة وعاصمتها، وإذا كانت الدولة قد اندثرت على أيدي الغزاة، فإنها عندما اندثرت من على الأرض ولدت من جديد داخل صدور بني إسرائيل، وعليهم أن يعملوا لبسط نفوذ الدولة وفقا لنظرية تفوقهم على البشر وانفراديتهم عن الناس، حتى يأتي ابن داوود أمير السلام آخر الزمان. فهو وحده المسيح الذي سيعيد المجد لإسرائيل على أرض الواقع، وعلى الجميع أن يخضع من اليوم لمملكته الأزلية ولعاصمتها أورشاليم.

وهكذا جعلوا الكرامة الإلهية سهلة التناول، وزعموا أن هذه الكرامة وضعت على عاتق العنصر العبري. أكرمهم الله بها إكراما مطلقا من غير شرط ولا قيد، ولما كانت هذه الكرامة والسؤدد أمر جنسي خص بني إسرائيل، جعلوا الانتساب الإسرائيلي مادة الشرف وعنصر السؤدد. والمنتسب إلى إسرائيل له التقدم المطلق على غيره، لأن هذه الروح الباغية إذا دبت في قالب قوم. بعثتهم إلى إفساد الأرض وإماتة روح الإنسانية وآثارها الحاكمة في الجامعة البشرية، بينت الرسالة الخاتمة على نبيها الصلاة والسلام. أن الكرامة الإلهية ليست بذاك المبتذل السهل التناول. يحسبها كل محتال أو مختال كرامة جنسية أو قومية. بل يشترط في نيلها الوفاء بعهد الله وميثاقه والتقوى في الدين، فإذا تمت الشرائط حصلت الكرامة. وهي المحبة والولاية الإلهية التي لا تعدوا عباده المتقين، وأثرها النصرة الإلهية والحياة السعيدة التي تعمر الدنيا وتصلح بال أهلها وترفع درجات الآخرة، وبالجملة: إن الله تعالى لا يصطفي أحدا بالاستخلاف اصطفاءا جزافا. ولا يكرم أحدا إكراما مطلقا من غير شرط ولا قيد، والاستخلاف تحت سقف الامتحان والابتلاء يخضع لسنة الله الحاكمة. ومنها النقل والإقالة، ولا يخص الله


الصفحة 94

بحسن العاقبة إلا من يتقيه من عباده أينما وجدوا. ولقد رد القرآن الكريم على بني إسرائيل ومن حذى حذوهم من النصارى قولهم بأفضليتهم على البشر، فقال تعالى: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه. قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) (1). ورد على بني إسرائيل قولهم بأنهم مغفور لهم. وأن مسيرتهم نحو أهدافهم مسيرة يتعبدون فيها لله، فقال جل شأنه (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين. ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين. ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة. وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون) (2).

والخلاصة: لقد أخذت المسيرة الإسرائيلية بسنن الأولين، فأخذوا من عقائد البقر وعقائد الدماء النقية الأعمدة التي أقاموا عليها ديمومة الكرامة والحكم، والكتاب المقدس ينفي في أكثر من موضع مقولتهم بالدماء النقية. ويسجل أنهم سكنوا بين الأمم الوثنية واتخذوا بناتهم لأنفسهم نساء وأعطوا بناتهم لبنيهم. وعبدوا آلهتهم (3) وقال نحميا في سفره ” رأيت اليهود الذين ساكنوا نساء أشدوديات وعمونيات وموآبيات، ونصف كلام بينهم باللسان الأشدودي، ولم يكونوا يحسنون التكلم باللسان اليهودي، بل بلسان شعب وشعب ” (4) فكيف يكون نقاء الدم تحت سقف هذه الأصول وغيرها:؟.

 

____________

(1) سورة المائدة آية 18.

(2) سورة البقرة آية 94.

(3) القضاه 3 / 5 – 7.

(4) نحميا 13 / 22 – 5 2.


الصفحة 95

شاهد أيضاً

الإنفاق في سبيل الله \عز الدين بحر العلوم

الصورة الثانية من التشويق : جعل المنفقين من المتقين أو المؤمنين ويتحول القرآن الكريم إلى ...