|
3 – [ فتنة التأويل والتحريف ]
لا شك في أن تحريف الأصول السماوية عمود أساسي يقوم عليه فساد الدين الفطري، وهذا الفساد يهدد الإنسانية بالانهدام، لأن الفرد الذي يفسد دينه الفطري لا تتعادل قواه الحسية الداخلية. فيتبع القوى الخارجية التي تنسجم مع هواه وباتباعه لها يقوى جانبها في الصد عن سبيل الله، وتحريف المسيرة الإسرائيلية للكتاب ونسيانهم حظا من الدين وكذبهم على الله بواسطة القصص التي قصوها على الشعب، كل ذلك لا شك فيه واعترف به العهد القديم وعلماء الكتاب المقدس وأخبر به القرآن الكريم.
والتحريف كان لهدف. وهدفه ما استقر عليه القوم فيما يتعلق بشعب الله المختار، ففي اتجاه هذا الهدف أولوا ما ورد في النبي الخاتم (ص) من بشارات. ومن قبل أولوا ما ورد في المسيح ابن مريم عليه السلام. وقالوا: إن المسيح الموعود لم يجئ بعد وهم ينتظرون قدومه إلى اليوم، ليحكموا به الشعوب ويعود به ملك داوود عنوان ووعاء عهد الله لإبراهيم، ونظرا لأن الجرائم والآثام تحيط بالمسيرة الإسرائيلية. فإن التحريف رفع عن المسيرة هذا الحرج فنسبوا إلى الأنبياء ما لا يجوز في حقهم، فالأنبياء عندهم أول من سن عبادة العجول وأول من سن إقامة التماثيل وعبادة آلهة الأمم! وعلى هذه القاعدة فبما أنه لا يمكن أن تخرج نبيا من الأنبياء من تحت سقف الأنبياء. لارتكابه معصية بهذا الحجم. فكذلك لا يمكن أن تخرج الشعب من تحت سقف شعب الله المختار. لاتباعه ما سنه الأنبياء ولارتكابه الجرائم والمعاصي، وبالجملة: كان التحريف من أجل رفع حرج وقعت فيه المسيرة على امتداد تاريخها، وكان من أجل هدف التقطته المسيرة من ديار العالم الخارجي. ثم أضفت عليه بعض المعالم
|
الصفحة 96 |
|
السماوية الباهتة ليكون له مشروعية القبول.
وشهادة العهد القديم في نسيان بني إسرائيل حظا مما ذكروا به، جاء على لسان أرميا. قال: ” أما وحي الرب فلا تذكروه بعد. لأن كلمة كل إنسان وحيه إذ قد حرفتم كلام الإله الحي ” (1). وقال في تحريفهم وكذبهم على الله: ” كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا حقا إنه إلى الكذب حولها قلم الكتبة الكاذب ” (2). وقال في ثقافة القص التي كذبوا على الله ليكون للشذوذ قاعدة: ” الذين يأخذون لسانهم ويقولون قال – ها أنذا على الذين يتنبأون بأحلام كاذبة، يقول الرب: الذين يقصونها ويضلون شعبي بأكاذيبهم ومفاخراتهم. وأنا لم أرسلهم ولا أمرتهم. فلم يفيدوا هذا الشعب فائدة ” (3).
أما شهادة علماء الكتاب المقدس. ومنهم المفسر (هارسلي) يقول: لا شك في تحريف الكتاب المقدس. في متنه وأصله. يدلنا على ذلك اختلاف النسخ حيث الاختلاف آية الاختلاق. فقد أدخلت كلمات وقحة في المتون المطبوعة مما لا يناسب ساحة الوحي (4). ويقول الدكتور (همفري): إن تدخل الأوهام في العهد العتيق بين لحد يتضح للقارئ بأدنى تأمل. إنهم قضوا على البشارات المسيحية في العهد القديم). ويقول (كريزاستم): لقد انمحق الكثير من كتب الأنبياء.
حيث حرفتها اليهود على غفلة وعلى عمد. فمزقوا البعض منها.
____________
(1) أرميا 23 / 36.
(2) المصدر السابق 8 / 8.
(3) المصدر السابق 23 / 31.
(4) تفسيره في مقدمة كتاب يوشع 282 / 3 نقلا من كتاب المقارنات / د. الصادقي ص 89.
(5) كتاب همفري ص 17، 18، ط سنة 1841 نقلا من كتاب المقارنات ص 90.
|
الصفحة 97 |
|
وحرفوا ما تبقى (1).
أما شهادة القرآن الكريم بأن أهل الكتاب حرفوا أو نسوا حظا مما ذكروا به. فلقد جاءت في أكثر من آية. منها قوله تعالى: (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه)(2). ففي هذه الآية وصف تعالى هذه الطائفة بتحريف الكلم عن مواضعه. وذلك إما بتغيير مواضع الألفاظ بالتقديم والتأخير والإسقاط والزيادة. وإما بتفسير ما ورد عن موسى عليه السلام وعن سائر الأنبياء بغير ما قصد منه من المعنى الحق، وقوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظأ مما ذكروا به) (3) قال في الميزان: إن أهل الكتاب إنما ابتلوا بما ابتلوا له لنسيانهم ميثاق الله سبحانه، ولم يكن إلا ميثاقا بالإسلام لله، وكان لازم ذلك أن يتقوا مخالفة ربهم ويتخذوه وكيلا في أمور دينهم يختارون ما يختاره لهم، ويتركون متابعة غير الله ورسله، لكنهم نبذوا الميثاق وراء ظهورهم فأبعدوا من رحمة الله، وحرفوا الكلم عن مواضعه وفسروها بغير ما أريد بها، فأوجب ذلك أن نسوا حظا من الدين ولم يكن إلا حظا وسهما يرتحل بارتحاله عنهم كل خير وسعادة، وأفسد ذلك ما بقي بأيديهم من الدين، فإن الدين مجموع من معارف وأحكام مرتبط بعضها ببعض يفسد بعضه بفساد بعض آخر، سيما الأركان والأصول (4).
وإفسادهم للدين الفطري يتضح للقارئ بمجرد أن يتأمل عقيدتهم في الله ورسله عليهم السلام، فالتحريف جعل التوراة تشتمل
____________
(1) تفسيره التاسع على إنجيل متي نقلا من كتاب المقارنات ص 91.
(2) سورة النساء آية 46.
(3) سورة المائدة آية 13.
الميزان 239 / 5.
|
الصفحة 98 |
|
على أمور في التوحيد لا يصح إسنادها إلى الله تعالى. كالتجسيم والحلول في المكان ونحو ذلك، ونسب ما لا يجوز العقل نسبته إلى الأنبياء الكرام من أنواع الكفر والفجور والزلات، وهذا المنهج إذا إختلط بعقيدة سماوية أفسد ما بقي منها، ويقول د. جوستاف لوبون عن عقيدة اليهود: في وادي الفرات وفي مصر نشأت ديانة بني إسرائيل. أو على الأصح مختلف العبادات التي مارسها بنو إسرائيل، وذلك بين إقامتهم بفلسطين وعودتهم من السبي، حتى أن أسماء آلهتهم تدل على أصلها، وليست الآلهة الكبرى الشهوانية عشتروت التي كان العبريون يعبدونها. إلا زهراء فينوس بابل عشتار.. وحتى في دور السبي كان شعب إسرائيل قد بلغ من الغرق في الاشراك. ما كان يتعذر معه عزيمة ملك أو خطب نبي تخليصه منه.. ودام دين اليهود القائل بتعدد الآلهة بعباداته الكثيرة وطقوسه المتنوعة وأساطيره المتكاتفة (1). وقال د.
جوستاف لوبون عن عقيدة اليهود بعد دور السبي: لم يعبد بنو إسرائيل إلها يمكن أن يكون رب الأمم الأخرى، ثم يصل د. لوبون إلى نتيجة مفادها: لم تكن الديانة اليهودية في كل زمن. مطابقة لما نسميه اليوم باليهودية. ولا شبه بين إله اليهود الراهن وإله سيناء يهوه. فبنو إسرائيل كانوا يعبدون ألوهيمات في أثناء حياتهم البدوية التي قضتها أجيالهم الأولى. ولذلك لا ينبغي أن يطلب من هذا الشعب البسيط تعريف وثيق لموضوع عبادته (2).
أما ما نسبوه إلى الأنبياء الكرام من أنواع الكفر والفجور، فكان الهدف منه تبرير أخطاء المسيرة، بمعنى أنهم إذا أجازوا على الأنبياء الوقوع في الزلات، تلتمس الأعذار لمن دونهم إذا وقعوا فيها أو في
____________
(1) اليهود في الحضارات الأولى / جوستاف لويون ص 58 وما بعدها.
(2) المصدر السابق ص 62 وما بعدها.
|
الصفحة 99 |
|
أشد منها، وإذا كان التحريف قد قطع شوطا كبيرا في نسبة الزلات إلى الأنبياء، إلا أن القارئ للعهد القديم يقع في حيرة عندما يجد نصوص أخرى تمتدحهم، وتزول الحيرة إذا علمنا أن القوم اعتمدوا في حركتهم على أشد الأمور فتكا وإثارة للفتنة، وهو تلبيس الحق بالباطل، ليكون عندهم لكل سؤال جواب.
فهارون عليه السلام. أشارت التوراة إلى تطهيره من المعاصي.
واختيار الله له ليكون مفسرا للشريعة، وغير ذلك من الأمور التي تبين وقع أقدامه على الطريق المستقيم (1)، وفي مقابل هذا ذكرت التوراة أن هارون هو الذي أقام العجل لبني إسرائيل وبني مذبحه، يقول العهد القديم ” فقال لهم هارون: انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها، فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها هارون، فأخذ ذلك من أيديهم. وصوره بالأزميل.
وصنعه عجلا مسبوكا. فقالوا هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر، فلما نظر هارون بنى مذبحا أمامه ” (2)! لم يشيروا إلى السامري الذي أضلهم وجاء ذكره في القرآن الكريم. لأن موقع السامري لا يرفع عن المسيرة حرج.
وفي موضع آخر من العهد القديم. افتروا على موسى وهارون عليهما السلام بفرية العصيان، ومن هذا: ” فقال الرب لموسى وهارون من أجل أنكما لم تؤمنا بي حتى تقدساني أمام أعين بني إسرائيل. لذلك لا تدخلان هذه الجماعة إلى الأرض التي إعطيتهم إياها ” (3). وفي موضع آخر نرى نصا يقول بأن الله كان يأمر وموسى يطيع، وكان الله معه في
____________
(1) أنظر سفر العدد 18 / 1، 19 / 1 والخروج 29 / 1 – 30.
(2) الخروج 32 / 2 – 6.
(3) عدد 12 / 20.
|
الصفحة 100 |
|
كل خطواته، لقد قالوا ليوشع بن نون عندما قاتلوا معه ” كل ما أمرتنا به نعمله وحيثما ترسلنا نذهب. حسب كل ما سمعنا لموسى نسمع لك.
إنما الرب إلهك يكون معك كما كان مع موسى ” (1).
وتناول العهد القديم سيرة سليمان عليه السلام، وبينما نجد نصوصا تمتدحه، نجد نصوصا أخرى تنسب إليه الزلات، فالنصوص التي امتدحته بينت كيف كان يحذرهم من مخالفة أوامر الله، وعندما قدم العهد القديم أمثال سليمان صدرها بقوله: أمثال سليمان بن داوود ملك إسرائيل. لمعرفة حكمة وأدب. لإدراك أقوال الفهم. لقبول تأديب المعرفة والعدل والحق والاستقامة. لتعطي الجهال ذكاء والشاب معرفة وتدبرا. يسمعها الحكيم فيزداد علما. والفهم يكتسب تدبيرا. لفهم المثل واللغز. أقوال الحكماء وغوامضهم. مخافة الرب رأس المعرفة ” (2) وتقابل هذه النصوص نصوص أخرى منها قولهم: ” وأحب سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون. موآبيات وعمونياث وأدوميات وصيدونيات وحيثيات. من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل لا تدخلوا إليهم وهم لا يدخلون إليكم. لأنهم يميلون قلوبكم وراء آلهة أخرى. فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة ” (3). وقال العهد القديم ” إن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى ” (4) وقال ” فذهب سليمان وراء عشتروت آلهة الصيدونيين ” (5) وقال ” بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس الموآبيين ” (6) وقال ” وهكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي كن يوقدن ويذبحن
____________
(1) يوشع 16 / 1.
(2) أمثال 1 / 1 – 7.
(3) ملوك أول 11 / 1.
(4) المصدر السابق 11 / 5.
(5) المصدر السابق 11 / 6.
(6) المصدر السابق 11 / 7.
|
الصفحة 101 |
|
لآلهتهن ” (1). فمن هذه النصوص أخذوا تبريرا لاتجاه مسيرتهم نحو الآلهة المتعددة، ومن نص آخر أخذوا تبريرا للأسباب التي أدت إلى تمزيق مملكة سليمان إلى مملكتين، يقول ” فقال الرب لسليمان من أجل أن ذلك عندك، ولم تحفظ عهدي وفرائضي التي أوصيتك بها. فإني أمزق المملكة عندك تمزيقا ” (2).
وبوقود التحريف ظهرت التربية الغير رشيدة. التي أثرت على سلوك المسيرة وشعورها وأفرغت عليها طابعا خاصا فيما بعد.