الرئيسية / تقاريـــر / سياسة رئيسي الخارجية في عامها الأول: أولويات إقليمية وتحديات دولية

سياسة رئيسي الخارجية في عامها الأول: أولويات إقليمية وتحديات دولية

حسن أحمديان

عندما اعتلى رئيسي الحكم انتقد سياسات سلفه الداخلية والخارجية. وبعد عام من تسنُّمه سدة الحكم، يتساءل المراقبون عن إنجازات رئيسي وإخفاقاته طيلة هذا العام. نركز في هذه الورقة على تلك الإنجازات والإخفاقات وأبعاد التطورات في السياسة الخارجية لحكومة رئيسي. تواجَه تلك السياسة بانتقادات كما أن لها مناصريها. بكل الأحوال هي لحظة فاصلة ستحدد بالأحرى ملامح سياسة إيران الخارجية لعقود مقبلة.
سياسة رئيسي الخارجية تؤكد على ضرورة الاهتمام بالعلاقات مع الجوار (الأناضول)

بين تحديات اقتصادية أثقلتها ملفات السياسة الخارجية وواقع يُجافي طموح بدايات حكمه وآمال الناخبين به، يُنهي رئيسي عامه الأول في مبنى رئاسة الجمهورية في شارع “باستور” وحلوله المنشودة لمشاكل البلاد تراوح مكانها. وإذ توسطت تحديات الاقتصاد وعوده وحلوله، ينتقد معارضوه عدم اهتمامه بالصلة الوثيقة بين الاقتصاد والسياسة الخارجية. وتزداد الانتقادات حدة مع استمرار غموض العملية التفاوضية في فيينا. وبينما يركز المنتقدون على فيينا، لا يبتعد دأب الحكومة الواضح في أقلمة سياسة إيران الخارجية عن أنظار المؤيدين والمعارضين. ويُقيِّم الفريقان تلك السياسة بإيجابية أكبر إن قيست بالماضي، حين ابتعد الإقليم عن أولويات السياسة الخارجية. وبكل الأحوال تقاس تفاصيل عمل الحكومة الحالية بتلك التي سبقتها، إذ اعتلى رئيسي الحكم منتقدًا سياسات سلفه الداخلية والخارجية. وبعد عام من تسنمه سدة الحكم، يتساءل المراقبون عن إنجازات رئيسي وإخفاقاته طيلة هذا العام. نركز في هذه الورقة على تلك الإنجازات والإخفاقات وأبعاد التطورات في السياسة الخارجية لحكومة رئيسي. 

وعود وتطورات

لم تكن رؤية رئيسي للسياسة الخارجية جديدة أو طارئة بل أتت امتدادًا لنقاش طال أمده في إيران لعقود من الزمن؛ فالكلام عن “الاتجاه شرقًا” بدأ في بدايات حقبة الرئيس أحمدي نجاد(1) وأتى في إطار الرد على سياسة كل من رفسنجاني وخاتمي الميالتين للغرب. قدَّم رئيسي خطابًا بسيطًا في السياسة الخارجية أثناء حملته الانتخابية. أظهر في محور خطابه اهتمامه الإقليمي ما بين صعود المدرسة الإقليمية لتقود سياسة إيران الخارجية على حساب المدرسة الدولية التي حكمت سياسة حكومة روحاني الخارجية. فقد أكد رئيسي أكثر من مرة ضرورة الاهتمام بالعلاقات مع الجوار، كما أظهر قلَّة اهتمام بالمستوى الدولي إن قيس بسلفه الذي كان يضع كل شيء تقريبًا في خانة تتبع العلاقة مع القوى الكبرى، وانتقد وضع كل بيض إيران في سلة الاتفاق النووي انطلاقًا من ذات المنطق(2).

وعد رئيسي الإيرانيين بتحسين العلاقات مع الجوار وبتحصين البلاد أمام العقوبات والضغط الغربي مردفًا أنه لن يترك مقدرات البلاد تحت رحمة المفاوضات النووية. وعلى المستوى النووي، فقد أكد التزام حكومته بالاتفاق النووي كالتزام قطعته إيران وأنه سيعمل على الإتيان بالحقوق الإيرانية ضمن ذلك الاتفاق قائلًا في انتقاد مبطن لحكومة سلفه: إن “تطبيق الاتفاق النووي يحتاج لحكومة مقتدرة”(3). بذلك، يمكن القول بأن الالتزام بما وُقِّع سلفًا يمثل جزءًا جانبيًّا من رؤيته المبنية على محورية الجوار في الإستراتيجية الخارجية. أضف إلى ذلك وعود الحكومة بالرقي بالعلاقات مع القوى الصاعدة في آسيا -ما فُسِّر على أنه محاولة لموازنة الضغط الغربي وإظهار البدائل المتاحة أمام إيران على المستوى الدولي في حال فشل مفاوضات إحياء الاتفاق النووي.

وعمليًّا، يمكن رؤية سير الإدارة على السكة المرسومة في الشعارات العريضة المذكورة آنفًا إلا أن المخرجات لم تأت على المستوى المطلوب حتى الآن على الأقل؛ فقد قام الرئيس بست زيارات خارجية لم يخرج بأي منها عن وعوده المتمثلة بالاهتمام بالجوار والقوى الآسيوية. فقد زار تركمانستان مرتين لحضور قمتين إقليميتين -منظمة شنغهاي للتعاون، التي قبلت بعد أعوام من الرفض عضوية إيران الدائمة، وقمة الدول المطلة على بحر قزوين- كما زار كلًّا من قطر وعمان وطاجيكستان وروسيا. كما أن القيادات الخارجية التي جرى استقبالها طيلة السنة الماضية أتت في ذات الإطارين لسياسته الخارجية. وغلب على جل تلك الزيارات الاهتمام بتطوير البُعدين، الاقتصادي والتجاري، من العلاقات الثنائية وتوسيع استخدام إيران وممراتها في التجارة الإقليمية والدولية. يمكن بشكل عام تلخيص السمات الرئيسية لتلك الدبلوماسية بأربعة أبعاد رئيسية:

  • التركيز على الجوار: فقد التقى الرئيس الإيراني بـ12 قائدًا من دول الجوار وقام وزير خارجيته بعدد أكبر من اللقاءات والمفاوضات في حركة دبلوماسية نشطة للتقارب مع الجوار وحل الخلافات والرقي بالتعاون الإقليمي.
  • التركيز على القوى الصاعدة: يُعد “الاتجاه شرقًا” شعار تلك الإستراتيجية التي عملت إدارة رئيسي بناءً عليها على تطوير علاقاتها مع كل من الصين وروسيا والهند وغيرها.
  • التركيز على العمل في إطار المنظمات الإقليمية والدولية: فقد حضر الرئيس قمتين في الخارج وقمة داخلية وقدمت إدارته طلبًا للانضمام لمنظمة بريكس للاقتصادات الصاعدة بعد أن انضمت إيران لمنظمة شنغهاي فيما يبدو اهتمامًا متزايدًا بالعمل في إطار المنظمات الدولية والإقليمية منها بشكل محدد.
  • التركيز على تطوير التجارة والاستثمار: في صميم جزء لا بأس به من دبلوماسية إدارة رئيسي جاء التركيز على توسيع التجارة والاستثمار واستحالة إيران إلى أحد الممرات الرئيسية للتجارة الإقليمية والدولية؛ وهو ما شهد طفرة نتيجة الحرب الأوكرانية.

ورغم ذلك النشاط، تبقى المخرجات بسيطة لا تقترب بأي حال من الأحوال من طموح الإدارة في السياسة الخارجية. ومن المنتقدين من يرى طغيان الشعارات على سياسة رئيسي الخارجية على حساب الواقع ويعلِّلون ذلك بعدم إنجاز انفراجة تُذكر في المحاور الرئيسية من سياسة الإدارة الخارجية: الملف النووي والعلاقة مع الجوار. بينما يرد مناصرو رئيسي بأن خطوات سياسته الخارجية (في محاورها الأربعة) تمضي في الاتجاه الصحيح ولا يمكن توقع انقلاب في علاقات إيران الخارجية في غضون سنة واحدة فقط بعد تسلم رئيسي الحكومة بل يجب الاستمرار بها والانتظار أكثر لقطف ثمارها.

رؤيتان ومساران

لم يحفل رئيسي وفريقه بمخرجات سياسة سلفه الخارجية المركزة على المستوى الدولي والمؤمنة بانتقال الحلول من ذلك المستوى إلى الإقليم بعد إنهاء الصدام مع الغرب والولايات المتحدة بشكل محدد. واعتبر رئيسي التعويل على الاتفاق النووي فإجهاضه أميركيًّا سببًا رئيسيًّا في احتدام وطأة عقوبات ترامب و”الضغوط القصوى” (Maximum Pressure) على إيران. وتنبع تلك الانتقادات من رؤيتين تتجابهان في النقاشات الداخلية في تحديدهما حجم دور إيران ومستوى قدراتها وترتيب أولوياتها الخارجية. يبدأ ذلك الانقسام في التاريخ الحديث لإيران أثناء الحرب الإيرانية-العراقية ليشتد بعد رحيل قائد الثورة الإسلامية، آية الله روح الله الخميني. وبينما كان المرشد الأعلى آنذاك يعالج الأمور بكاريزميته وثقل موقعه ويحافظ على التوازن السياسي في الداخل، فقد أخلَّ صعود هاشمي رفسنجاني رئيسًا للبلاد في التسعينات بتلك الموازنة بصعود التكنوقراط المنخرطين ضمن حزب “كاركزاران سازندكى/كوادر البناء” بقيادة الرئيس ذاته وجرى إضعاف التيار المحافظ الذي كان يوازن الانفتاح على الغرب. وكانت ضرورات المرحلة تُسعف رفسنجاني في دأبه ذلك إذ حدد “إعادة البناء” كأولوية قصوى للبلاد في الفترة التالية للحرب ووُصفت فترة حكمه بحقبة البناء(4). كما رأى في الحد من العداء مع الغرب وتقليص الفجوة مع الجوار ضرورة للإتيان بالاستثمارات الأجنبية والبناء الاقتصادي بالتالي.

تلخص الرؤى حول تجربة رفسنجاني أوجه الخلاف بين إدارتي روحاني ورئيسي. فروحاني المقرب من رفسنجاني والمؤيد لرؤاه كان يرى في اتصال إيران بسلسلة القيمة العالمية (Global Supply Chain) ضرورة لإحياء الاقتصاد الإيراني(5). ولتحقيق ذلك، لم يكن يرى ضيرًا في التراجع عن أجزاء من استقلال إيران لقاء كسر عزلتها الدولية. ويرى منظِّرو تياره أن الاستقلال الكامل غير ممكن في زمن ترابطت فيه كل أوجه الحياة العالمية. بذلك، تحرك روحاني في ذات الإطار الفكري الذي وضع لبناته خبراء رفسنجاني، ومنهم روحاني نفسه. وتراجعت إيران في عام 2015 عن جزء من سيادتها -حقها في التخصيب السلمي المكفول قانونيًّا- وإن بشكل مؤقت، لقاء تعليق العقوبات الاقتصادية بهدف “دمج إيران في الاقتصاد العالمي”، أي وصل إيران بسلسلة القيمة العالمية.

ولتحقيق ذلك، وجب الدخول في حوار مع القوى العالمية للحد من الخلافات معها أولًا ولقبولها بدور وقيمة إيرانيتين في سلسلة القيمة العالمية ثانيًا. بذلك، بدأت المفاوضات النووية بكثافة غير معهودة في تاريخ الجمهورية الإسلامية واستمرت حتى إبرام اتفاق عام 2015 النووي. إلا أن التفاؤل حول الاتفاق وما سيليه من تطور اقتصادي ودمج لإيران في الاقتصاد العالمي لم يُعمَّر طويلًا. ولم تبتعد مخرجات دبلوماسية روحاني الدولية عن تلك التي أتت بها سياسة رفسنجاني. فقد اشتدت عقوبات الولايات المتحدة بعد تجميد إيران أنشطتها النووية وبعد قبولها برقابة منقطعة النظير على برنامجها النووي.

أما رئيسي المنتقد لسياسة روحاني والذي لم يُخفِ معارضته لـ”المدرسة الفكرية الرفسنجانية” أثناء حملته الانتخابية، وكما أقرانه في التيار المحافظ، يعارض التراجع أمام الدول الغربية بغرض تحقيق مكاسب مؤقتة. وكما عارض هذا التيار رؤى رفسنجاني، عارض تنازلات حكومة روحاني لتوقيع الاتفاق النووي. ويمكن اعتبار الحد من الإسقاطات السلبية للتعاطي مع القوى الكبرى على استقلال البلاد محورًا رئيسيًّا في سياسة رئيسي ويرتبط ذلك بانعدام الثقة بالأطراف الغربية “المسيطرة على المنظمات الدولية”، بالتالي. وهي رؤية ناكفت غريمتها منذ الثمانينات واستطاعت أن تحافظ على تأثير مقبول أمام شعبية الرؤية الإصلاحية. وإذ انتقد رئيسي وفريقه الإدارة السالفة لتوقيعها اتفاقًا نوويًّا “غير متوازن”، فهاهو يحاول -حسب رؤية الإدارة- إضفاء شيء من التوازن على ذلك الاتفاق في فيينا، وهو ما تعثر حتى الآن.

.

يولي رئيسي وفريقه أهمية كبرى للعلاقة مع روسيا.(رويترز)  

في الإطار الأوسع، بينما يرى رئيسي السياسة الخارجية مجالًا رئيسيًّا لمواجهة تحديات الاقتصاد الإيراني، كان روحاني يراه المجال الرئيسي ويرفض من الأساس إمكانية رأب الصدوع الاقتصادية دون الولوج فيه من بوابته الرئيسية -حل الخلافات مع الغرب والولايات المتحدة تحديدًا، ولانعدام الثقة بالغرب الذي يستهدف استقلال البلاد، حسب الرؤية المحافظة. يولي رئيسي وفريقه الإقليم أهمية قل نظيرها في الحكومات السابقة، ويحاول الرقي بالعلاقات مع القوى الصاعدة في آسيا وعلى رأسها الصين وروسيا.  

 تحديات الدولي والدبلوماسية الإقليمية

هي لحظة الإقليميين في طهران مع رئيس يرجح الإقليمي على الدولي في تعاطيه مع السياسة الخارجية ووزير خارجية مختص بالشؤون العربية ويتحدث لغة الضاد ورئيس للمجلس الأعلى للأمن القومي من الأقلية العربية في إيران، وهو صاحب دور وخبرة تمتد لثلاثة عقود في العلاقات الإيرانية-العربية، وأضيف في الآونة الأخيرة من ذات الأقلية ناطق باسم الخارجية الإيرانية. تُبرز المدرسة الإقليمية بتلك الأسماء سماتها وأولوياتها، ويرى المنتمون لها، ومنهم رئيس الجمهورية، “في المستوى الإقليمي نقطة انطلاق لمعالجة قضايا السياسة الخارجية”، كما ينتقد هؤلاء “تركيز منافسيهم الدوليين على القوى الكبرى باعتباره مستوى يُضعف موقف إيران أمامها… فحل القضايا الإقليمية مع الجيران والمنافسين الإقليميين يرفع كفة البلاد في التعاطي مع الدول الغربية، ويحد من استثمار الأخيرة للخلافات الإسلامية لصالحها وضد إيران”(6).

لم تبتعد أولوية الأقلمة عن إسقاطات التحديات الدولية في تحتيمها على إقليميي طهران التركيز على فيينا بدل هوى الإدارة الرئيسي: الإقليم. ورغم دأب طهران على النأي بسياستها الإقليمية عن مفاوضات فيينا، تطغى تلك المفاوضات على توقيت ومخرجات الأقلمة كما يبدو. إذ لا يعني بدء المسار التفاوضي الإقليمي قبل توصل فيينا إلى نتيجة محددة بأي حال من الأحوال استقلال ذلك المسار عن نظيره الدولي. ويتضح من توقيت بدء المفاوضات الإقليمية وعلى رأسها الإيرانية-السعودية، من جهة، وتأنِّي المملكة السعودية وغيرها في التوغل أعمق مع طهران، من جهة أخرى، وهو ما يرجعه البعض في إيران إلى انتظار تلك الدول نتائج فيينا لاتخاذ القرار النهائي، أن الأقلمة ستبقى تئنُّ تحت أثقال البُعد الدولي.

وقد عُقدت حتى الآن خمس جولات من المفاوضات الإيرانية-السعودية بوساطة عراقية(7)، ولم يتمخض عنها سوى خطاب يبتعد عن الشيطنة واللغة المعادية. وثمة تفاؤل لا تخطئه العين في طهران ظهر بإصرار مسؤوليها على نجاعة المفاوضات اصطدم بعدم وضوح على الجانب السعودي الذي ابتعد بخطابه عن التفاؤل رغم إيجابيته العامة إزاء المفاوضات. وتبقى المفاوضات الأخرى التي قيل إنها بدأت بوساطة عراقية بين إيران والأردن ومصر(8)، طي الكتمان حتى اللحظة ولا توحي بما يزيد على ما توصلت إليه الجولات الإيرانية-السعودية.

يبقى المؤمنون بالمدرسة الدولية من أهم منتقدي إدارة رئيسي في نهجها الإقليمي. يرى هؤلاء “أن المستوى الأمثل لمعالجة القضايا الخارجية هو المستوى الدولي؛ إذ إن حل خلافات إيران مع القوى الدولية يفتح أبوابًا أوسع لحل الخلافات على المستويات الأخرى، ومنها الإقليمية”(9). وينتقد هؤلاء إدارة رئيسي لعدم إيلائها المفاوضات النووية الاهتمام المطلوب والانطلاق منها باتجاه الإقليم. يرد مناصرو رئيسي بأن الإدارة تتبع المسارين بشكل مواز لمنع تكرار أخطاء حقبة روحاني بعدم تحييد منافسي إيران الإقليميين أثناء المفاوضات النووية وتأثيرهم السلبي الذي أتى في نهاية المطاف على الاتفاق النووي. كما يرى هؤلاء أن قوة إيران على المستوى الدولي، ولاسيما في مفاوضات فيينا، تبدأ بجوار هادئ وعلاقات بنَّاءة مع الجيران. وإذ لا يرفض المنتقدون منطق الإقليميين هذا، إلا أنهم يمضون بتأكيدهم على أن الإقليم لا يقدم ولا يؤخر وأن القرار يبقى دوليًّا وسيأتي بآثاره للإقليم ومنه العلاقات الإيرانية-العربية.

وبين المنطقين يوحي الواقع بتقدم أمر بين الاثنين؛ فها هي إدارة رئيسي ترضخ لأهمية مفاوضات فيينا رغم أولوياته الإقليمية. كما أن التقدم الطفيف على الجانب الإقليمي يُظهر تمسك الإدارة بتلك الأولوية رغم ضرورات المرحلة.

رئيسي في عالم متغير

بدأ النقاش حول “الاتجاه شرقًا” أثناء حقبة الرئيس أحمدي نجاد. ولتلك الاستراتيجية ثلاثة أبعاد ومعان. فأولًا، وباختصار، تأتي بالبديل على المستوى الدولي أمام رفض الدول الغربية إنهاء عزلة إيران الاقتصادية والسياسية. أي إنها تعطي إيران إمكانية لتطوير وضعها على المستوى الدولي كبديل للنظام المُسَيطر عليه من قبل الدول الغربية. وثانيًا: تفتح لإيران أبوابًا اقتصادية تمكِّنها من الحد من وطأة العقوبات الاقتصادية الأميركية، أولًا، وتأتي بالاستثمارات التي تمكِّن طهران من تطوير قطاعاتها الاقتصادية الحيوية المعاقبة غربيًّا، ثانيًا. وفي البُعد الثالث، تعبِّر تلك الإستراتيجية عن اهتمامات إيران الدولية في المرحلة الانتقالية وتعني فيما تعنيه اصطفاف إيران إلى جانب القوى الصاعدة (الصين بالدرجة الأولى وروسيا ثانيًا) أمام القوى المسيطرة (الولايات المتحدة). هو عالم متغير كما تفهمه إدارة رئيسي ومنظروها ولذلك فهي تعول على التقارب من أصحاب الحظوة في النظام الدولي الصاعد. 

يمكن كذلك الحديث عن بعد داخلي للاتجاه شرقًا. فأمام اتجاه التيارين “الإصلاحي” والاعتدالي” غربًا، يقوم المحافظون بالموازنة عبر الاتجاه شرقًا. وفي مثال لهذا الميل للموازنة، يمكن اعتبار مزامنة التعاون العسكري مع روسيا في سوريا مع توقيع الاتفاق النووي، عام 2015، محاولة للموازنة بين اتجاهي السياسة الخارجية في الداخل. بذلك، يمكن اعتبار الهدف من سياسة رئيسي الدولية الموازنة -داخليًّا ودوليًّا- لا الميل شرقًا بالضرورة. ويؤكد استمرار محاولة إدارته إحياء الاتفاق النووي هذا الاتجاه. بينما يرى آخرون في هذه الرؤية صورة غير واقعية لا تعبِّر عن انعدام ثقة التيار المحافظ شبه الكاملة بالدول الغربية والمنظمات الدولية. وأيًّا أخذنا، لا يمكن التغاضي عن تلك الإستراتيجية كمحدد محوري في سياسة إدارة رئيسي الخارجية. وفي ظلها عُقدت اتفاقية الخمسة وعشرين عامًا مع الصين(10) والتي اعتبرها البعض إنجازًا غير مسبوق وجابهها البعض الآخر بوصفها تراجعًا عن استقلال البلاد الإستراتيجي الذي ينادي به المحافظون. لم تُنشر حتى اليوم مسودة الاتفاق لنتمكن من الحكم على الرؤيتين، إلا أنهما لا تبتعدان عن الانقسام آنف الذكر بين المدرسة الدولية التي نادت بأولوية حل الخلافات مع الغرب والمدرسة الإقليمية التي تنظر للمستوى الدولي عبر تطورات المرحلة الانتقالية وكإطار ثانوي في السياسة الخارجية.

ومع انعقاد الاتفاقية الإيرانية-الصينية بعد سنوات من المفاوضات والأخذ والرد، بدأت مفاوضات إيرانية-روسية لعقد اتفاق مماثل(11). وثمة اتفاقية تمحورت حول التعاون العسكري بين إيران وروسيا استمرت لعقدين وانقضى أجلها قبل أشهر. وحاولت إدارة رئيسي تمديدها وإضافة أبعاد أخرى غير عسكرية لها وهو ما لاقى استحسانًا روسيًّا. وكان لزيارتي رئيسي لروسيا وبوتين لطهران أثر دافع باتجاه توسيع التعاون الثنائي وتأطيره بالاتفاقية العتيدة التي يجري العمل على إنهائها. ومن الواضح أن للحرب الروسية في أوكرانيا وما خلَّفته من عقوبات على روسيا دورًا محوريًّا في ميل موسكو لتوسيع نطاق التعاون مع طهران المعاقبة غربيًّا؛ إذ ارتفعت التجارة البينية بنسبة 40 بالمئة في النصف الأول من عام 2022(12) وازداد التنسيق الثنائي للحد من مفعول العقوبات على اقتصادَيْهما، ومن ذلك استخدام العملات الوطنية في التجارة البينية بدل الدولار مثلًا(13). كما أدت الحرب على أوكرانيا إلى زيادة استخدام إيران ممرًّا بريًّا بين المحيط الهندي والقوقاز ومنه إلى روسيا وأوروبا وهو ما تعثَّر في الحقب السابقة لعدم تحمس الروس والأوروبيين له.

ورغم أن الاتجاه شرقًا لا يمثل اتجاهًا جديدًا أتت به حكومة رئيسي، إلا أن الظرف الدولي والإرادة الداخلية يسعفان إدارته في المضي قدمًا في توسيع التعاون مع القوى الآسيوية. فعلى المستوى الدولي، وصلت المشاحنات الأميركية مع كل من روسيا والصين إلى حدود غير مسبوقة، وهو ما يزيد من حيز المناورة للقوى المتوسطة المستقلة كإيران للعب دور بين تلك الأقطاب. وعلى المستوى الداخلي، تطغى في إيران الرؤى السلبية على اسم الغرب وما يرتبط به نتيجة ما آل إليه الاتفاق النووي والوعود المنقوضة أميركيًّا. كما أن ثمة إجماعًا على المستوى الرسمي أتت به الانتخابات الرئاسية العام الماضي أتاحت للحكومة “الاتجاه شرقًا” بأريحية أكبر من سلفها. هي مرحلة فاصلة في علاقات إيران الدولية ستؤثر بمخرجاتها -أيًّا كانت- على اتجاهات السياسة الخارجية الإيرانية لعقود قادمة.

 خلاصة

بدأ الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، حقبة حكمه بآمال بدت عالية إبان حملته الانتخابية لتحسين الوضع الاقتصادي والحد من الضغط الذي يعانيه المواطن الإيراني. وحدَّد في السياسة الخارجية محاور ركز عليها لتُعين الحكومة في أهدافها الاقتصادية وفي الحد من أثقال السياسة الخارجية. أتى التقارب مع الجيران في المقدمة يليه الاتجاه شرقًا كسياستيْن محوريتيْن. كما أن التركيز على الدبلوماسية الاقتصادية والعمل في إطار المنظمات الدولية والإقليمية بشكل محدد أتيا في ذات الإطار. وبالفعل، تعبِّر زيارات الرئيس الخارجية واستقباله قيادات زارت طهران عن الالتزام بتلك الأولويات. إلا أن الواقع الدولي أتى بضغطه ليُعدل من أولويات حكومة رئيسي الخارجية، فارضًا عليها الاهتمام بمسار مفاوضات فيينا كأولوية. إلا أن ذلك الاهتمام لا يقطع واقع اتجاهات الحكومة الرئيسية في الإقليم وعلى المستوى الدولي. ويعبِّر انضمام إيران لمنظمة شنغهاي للتعاون وتقديمها طلب الانضمام لمجموعة بريكس عن دأب إيراني على الانضمام للتكتلات البعيدة عن السيطرة الغربية. كما أن عقدها اتفاقية التعاون الإستراتيجي مع الصين والتفاوض مع روسيا لعقد اتفاق مماثل معها يُعدان سابقتين في تعاطي إيران مع القوى الكبرى. تواجَه تلك السياسة بانتقادات كما أن لها مناصريها. بكل الأحوال هي لحظة فاصلة ستحدد بالأحرى ملامح سياسة إيران الخارجية لعقود مقبلة.   

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...