وكتب رسالة لزياد ، ولما وصلت
الرسالة لزياد قال وهو في البصرة : « ما أنا بشيء ان لم امنع الكوفة من حجر ،
وادعه نكالاً لمن بعده ويل أمك يا حجر ، لقد سقط العشاء على سرحان ، ثم
اقبل إلى الكوفة فدخل القصر ، ثم خرج وعليه قباء سندس ومطرف خز
اخضر ، وحجر جالس في المسجد وحوله أصحابه » ( 148 ) .
بينما يذكر الطبري سببا آخر لنقمة زياد على حجر ، ينقله عن عوانة : « خطب
زياد يوما في الجمعة ، فأطال الخطبة وأخّر الصلاة ، فقال له حجر بن عدي : الصلاة .
فمضى في خطبته ، ثم قال : الصلاة . فمضى في خطبته ، فلما خشي حجر فوت الصلاة ضرب
بيده إلى كف من الحصى وثار إلى الصلاة ، وثار الناس معه ، فلما رأى ذلك زياد نزل
فصلى بالناس . فلما فرغ من صلاته كتب إلى معاوية في أمره ، وكثر عليه ، فكتب إليه
معاوية ان شده في الحديد ، ثم احمله إلي ، فلما ان جاء كتاب معاوية ، أراد قوم
حجر ان يمنعوه ، فقال : لا ، ولكن سمع وطاعة ، فشد في الحديد ، ثم حمل إلى
معاوية » ( 149 ) .
والملاحظ في رواية الطبري أنها أرادت اختصار الطريق ، والظاهر أن هناك مواقف عديدة
واجه فيها حجر زيادا ، فكانت سببا في اشتداد نقمته عليه ، حيث لم يستجب لإغراءاته
وتهديداته ، ولم يكف عن اعماله . منها رده على خطبه ، ومنها هذا الموقف منه ، وكل
تلك ، أدت إلى أن يفكر زياد في
أساليب أخرى للقضاء عليه ، وعلى كل حال فان مواقف حجر كانت لأجل
النهي عن المنكر ، واستنكاره الطعن في أهل البيت الذين أمر اللّه
بمودتهم ، أو لأجل تأخير الصلاة عن وقتها ، أو لأجل ما ارتكبه الولاة من جرائم
وانحرافات واستئثار بأموال المسلمين .
ففي الدرجات الرفيعة : « لما ولى معاوية زياد ابن أبيه الكوفة ، خطب زياد فقال :
أما بعد ، فان غب البغي وخيم ، وأيم اللّه لئن لم تستقيموا لأداوينكم بدوائكم ، ولست
بشيء ان لم أحم ناحية الكوفة من حجر بن عدي وادعه نكالا لمن بعده » ( 150 ) .
فاستدعى زياد أمير الشرط ( شداد بن الهيثم الهلالي ) وأخبره ان يأتي بحجر ، فذهب
ليأتي به ، إلا أن أصحابه منعوه من أخذه ، فرجع هذا إلى زياد خائبا ، فبعث زياد معه
نفرا ، فرجعوا إلى حجر ، إلا أن جماعة سبوهم وشتموهم ، وبعد ذلك ، غضب زياد ، فجمع
شيوخ الكوفة وأمرهم بسحب أولادهم وافراد عشيرتهم ، من جماعة حجر ، فقام كل رئيس
بذلك . وهذا يكشف ان زيادا كان يخطط للقضاء على حجر ، وتجنب النقمة التي سوف
يثيرها اعتقاله ، أو قتله ، لذلك استخدم رؤساء العشائر المنتفعين في مواجهة
انتفاضة حجر وجماعته ، ولرؤساء العشائر تأثيرهم الكبير في ذلك المجتمع العشائري ،
كما استخدمهم أيضا في الشهادة على حجر ، وكما استخدم غيره
رؤساء القبائل المنحرفين والمتزلفين ، حربة في مواجهة الأصوات المؤمنة الرافضة ، لما يعلمونه من
تأثيرهم في ذلك الوسط القبلي . وفي الوقت الذي كان أبناء الأمة يعيشون حالة
الجوع والهوان ، كان معاوية وزياد وأمثالهما يقربون رؤساء القبائل ويغرونهم بالأموال
والمناصب استمالة لهم ، وإسكاتاً لأصواتهم ، إذ ان في اسكاتهم إسكاتاً للقبائل
الخاضعة لهم ، وشغلهم عن التفكير في مواجهة السلطات الغاشمة بالرغم من الأوضاع
المزرية التي يعيشونها .
وقد استجاب رؤساء القبائل لطلب زياد ، وسحبوا أبناء قبائلهم من جماعة حجر ( فلما رأى
زياد خفة فيهم قال لصاحب شرطته : اذهب فائتني بحجر ، فان تبعك وإلا فمر من معك
ان ينتزعوا غمد السيوف ، ثم يشدوا عليه حتى يأتوا به ، ويضربوا من حال دونه ) ( 151 ) .
فذهب شداد بن الهيثم ليأتي بحجر إلى زياد ، إلا أن أصحاب حجر أجابوا : « لا
واللّه ولا نعمة عين » ، حينئذ نفذ ما أمر به زياد ، ولما كان أصحاب حجر قد
خفوا بعملية زياد السابقة بعد استدعائه شيوخ الكوفة وسحبهم لافراد عشيرتهم ، ولما
كان أصحاب حجر الباقون الملتفون حوله مجردين من السلاح إلا سيفا واحدا ، كما أشار
إلى ذلك أحد أصحاب حجر ، وهو عمير بن يزيد الكلبي ، وهذا يدل على أن حجرا وجماعته
لم يفكروا في الإطاحة
بالحكم الأموي بمقاتلة زياد أو معاوية ، وإلا لكانوا يعدون العدة لذلك ، وبعد
ذلك اضطر حجر نزولا عنه الحاح أصحابه إلى الاختفاء ، فلحقته جلاوزة
زياد ، وتمكنوا من ضرب عمرو بن الحمق الخزاعي ، الصحابي المعروف ، مما أجبر
أصحاب حجر على أن يحملوه إلى إحدى الدور لمعالجته .
ولما رأى زياد اختفاء حجر ، حينئذ لجا إلى عملية تقليدية خبيثة أخرى لمطاردة حجر ، ثم
القضاء عليه بعد ان وجد أن مهمة القضاء على حجر مهمة عسيرة لما لشخصيته الدينية
والقبلية من تأثير كبير في الكوفة ، بان أوعز لبعض القبائل مهمة مطاردة حجر ، وبذلك
يحول قضية حجر إلى قضية داخلية ، وقبلية ، وأن قبائل الكوفة هي التي طاردت حجرا
واعتقلته ، وبذلك يجنب نفسه النقمة التي يتوقع انفجارها . ونحن نعلم بان أحد أساليب
المستكبرين في إسكات الشعوب ، وتبديد قواها الذي يؤدي ذلك بالتالي إلى سيادة
المستكبرين ، هو سلاح التفرقة . وقد استخدم الطغاة عبر التاريخ هذا السلاح في
مواجهة الشعوب ، وكما أشار القرآن الكريم إلى الأساليب التي استخدمها فرعون في
توطيد سلطانه ، ومن هذه الأساليب نشر الفساد الأخلاقي ، واذلال الأمة
وامتهانها ، والتفرقة ، ( وجعل أهلها شيعا ) ، وبث الذعر والخوف من السلطة الحاكمة ،
من خلال قتل كبارهم أو التنكيل بهم ، وغيرها من الأساليب ، التي استخدمها
الطغاة والمستكبرون على مر التاريخ . ومنهم معاوية وزياد والحجاج وغيرهم .
ولذلك أوعز زياد مهمة مطاردة حجر والقبض عليه إلى بعض القبائل ، بان تحاصر الحي
الذي اختفى فيه حجر ، وتفتش عنه في دورها ، وتقبض عليه ، فارتقى المنبر وقال :
« لتقم همدان وتميم وهوازن وأبناء بغيض ومذحج وأسد وغطفان ، فليأتوا جبانة
كندة ، وليمضوا من ثم إلى حجر ، فليأتوني به » ( 152 ) ، ولكنه التفت إلى ناحية
قبلية مهمة ، وهو الخوف من الصراع والتناحر المباشر بين هذه القبائل المتعاونة إذا
أرسلها مجتمعة ، وبذلك يشغلها هذا الصراع عن مهمة المطاردة لحجر ( فكره ان
تثير مضر مع اليمن فيقع شغب واختلاف ، وقد تنشب الحمية فيما بينهم )
( 153 ) ، وذلك لان بعض هذه القبائل ، ممن يرتبط بحجر بعلاقة قبلية ، في ذلك الوسط
القبلي ، ربما تثور حميتها من مطاردة القبائل الأخرى لزعيم من زعمائها ، وربما
كان يخشى ان تتعاطف مع قضية حجر ، أو على الأقل ، يتجنب مطاردته ، كما فعلت بعض
القبائل حيث انسحبت ، ولو أرسلها مجتمعة فربما أثر هذا الموقف على سائر القبائل
الأخرى .
ولذلك فرقهم زياد لهذه العوامل ، وارسل كلا منها إلى جانب لمحاصرة حجر ، ولكن
أهل اليمن لقرابتهم مع قبيلة حجر ، كندة ، اعتزلوا هذه العملية ، بصورة مباشرة ،
خوفا من نشوب صراع بينهما ، فتباطؤوا في العمل دون علم
زياد – حسب إشارة أحد – زعمائهم ظنا بان مذحجا وهمدان سوف تسبقهم
بالقيام بهذه المهمة ، وعندما وصلت مذحج وهمدان إلى مكان اجتماع حجر
وأصحابه ، شعر حجر ان لا فائدة من مقاتلتهم لقلة أصحابه ، فأمر أصحابه
بعدم القتال ، واختفى هو في دار أحد أصحابه ، ولكن
بالرغم من ذلك ، نشبت معركة قصيرة بينهما ، أدت إلى جرح عدد من اتباع حجر ، واسر
آخرين ، ولما علم حجر بان مغبة الأمر ليست في صالحه ، أمرهم بترك القتال ، وكان صاحب
الدار التي اختفى فيها حجر ، قد استعد لمقاتلة كل من تسول له نفسه الاقتراب من
حجر ، ولما رأى حجر ان ذلك يعني تعريض هذا الشخص إلى القتل ، للعدد الكبير من
الأعداء ، ابتعد عن منزله أيضا ، إلى دار شخص آخر من أصحابه ، وهو ( عبد اللّه بن
الحارث ) أخو الأشتر ، وعلم جلاوزة زياد بذلك ، فابتعد أيضا عن داره إلى دار أخرى ،
وهكذا لم يبق له أثر يدل عليه .
وبعد ان فشلت ، كل هذه المحاولات ، في القبض على حجر ، لجا زياد إلى عملية خبيثة
أخرى ، وهي إثارة الشقاق والصراع بين افراد القبيلة الواحدة ، فقد ( أمر محمد بن
الأشعث الكندي بالقبض عليه هادفا من وراء ذلك إلى زرع بذور الشقاق في كندة ،
وهي من أقوى قبائل الكوفة ، ليستريح من وحدتها ، ويلهي كلا من أنصار حجر وأنصار
محمد بأعدائه الجدد ، ولكن يقظة حجر فوتت على زياد هذه الفرصة فسلم نفسه إلى
السلطة طوعا ) بعدان أخذ الأمان من زياد حتى يبعثه إلى معاوية ليرى فيه رأيه ،
( فبعثوا إليه –
أي إلى حجر أرسوله ذلك يعلمونه ان قد أخذنا الذي تسال وأمروه ان
يأتي ، فاقبل حتى دخل على زياد ، فقال زياد : مرحبا بك أبا عبد الرحمن حرب في أيام
الحرب وحرب وقد سالم الناس ؟ لعلى بيعتي . فقال : هيهات هيهات يا حجر تشبح بيد
وتأسوا بأخرى وتريد إذ أمكن اللّه منك ان نرضى ؟ كلا واللّه . قال : ألم تؤمني
حتى آتي معاوية فيرى في رأيه ؟ قال : بلى قد فعلنا ، انطلقوا به إلى السجن ( 154 ) .
وهكذا انتهت أولى مراحل الصراع مع حجر بالقبض عليه وسجنه وبعد ذلك أخذ زياد في
مطاردة أصحاب حجر واحدا بعد آخر واعتقالهم وايداعهم السجن ، كما فعل بحجر فجمع منهم
اثني عشر رجلا في السجن .
( وجد زياد في طلب أصحاب حجر فهربوا ، وأخذ من قدر عليه منهم . . . فجاء قيس بن عباد
الشيباني إلى زياد فقال له : ان امراء منا يقال له صيفي ، من رؤوس أصحاب حجر ، فبعث
زياد فأتي به ، فقال : يا عدو اللّه ما تقول في أبي تراب ؟ قال : ما أعرف أبا
تراب . فقال : ما أعرفك به طالب ؟ قال : نعم . قال : فذاك أبو تراب . قال : كلا ذاك
أبو الحسن والحسين ، فقال له صاحب الشرطة : يقول الأمير : هو أبو تراب ، وتقول : لا ؟
قال : فان كذب الأمير أكذب أنا واشهد على باطل كما شهد ؟ فقال له زياد : وهذا
أيضا ؟ علي بالعصا ، فأُتي بها ، فقال : ما تقول في علي ؟ قال : أحسن قول . قال :
اضربوه . حتى لصق بالأرض ، ثم قال : أقلعوا عنه . ما قولك في علي ؟ قال :
واللّه لو شرحتني بالمواسي ما قلت إلا ما سمعت مني ، قال : لتلعننه ، أو
لأضربن عنقك . قال : لا افعل . فأوثقوه حديداًوحبسوه ) ( 155 ) .
ويكفي نقل هذه الخبر عن التعليق عليه ، وهو موقف بطولي من أصحاب حجر ، يدل على
عمق ما يملكونه من ولاء وايمان .
( فبعث – زياد – إلى قبيصة بن ضبيعة بن حرملة العبسي صاحب الشرطة وهو شداد بن الهيثم
. فدعا قبيصة في قومه ، وأخذ سيفه فاتاه ربعي بن حراش بن جحش العبسي ، ورجال من
قومه ليسوا بالكثير ، فأراد ان يقاتل ، فقال صاحب الشرطة : أنت آمن على دمك ومالك
، فلم تقتل نفسك ؟ فقال له أصحاب : قد اومنت فعلام تقتل نفسك وتقتلنا معك ؟ قال :
ويحكم ان هذا الدعي ابن العاهرة ، واللّه لئن وقعت في يده لا أفلت منه أبداً
أو يقتلني . قالوا : كلا . فوضع يده في أيديهم فاقبلوا به إلى زياد ، فلما دخلوا
عليه قال زياد : وحي عبس تعزوني على الدين ، أما واللّه لأجعلن لك شاغلا عن تلقيح
الفتن والتوثب على الأمراء . قال : إني لم آتك ألا على الأمان . قال : انطلقوا به
إلى السجن ) ( 156 ) . وقتل مع من قتل من أصحاب حجر .
ويدلّ هذا الخبر على أن زياداً أعطى الأمان لحجر وأصحابه ، ثم غدر بهم . ويدل
أيضاً على أن أصحاب حجر كانوا يعلمون سابقا بان القتل مصيرهم .
الشهادة على حجر : ان اعطاء زياد الأمان لحجر وأصحابه لا يعني السكوت عنهم ، أو
الاكتفاء بإعتقالهم وحبسهم ، فقد رأى أن وجود حجر يشكل خطرا يهدد وجوده ووجود الحكم
الأموي ليس في الكوفة فحسب ، بل في العراق عامة . بل قد يمتد تأثيره إلى سائر
الأوساط لما عرفته من قوة شخصيته ، وعدالة موقفه ، واحقية مطالبه ، فأراد زياد ان
يقضي على حركة حجر قضاء تاما ليتخلص من هذا الخطر ، وذلك بالقضاء على حجر وجماعته
المؤمنين الثائرين ولكن القضاء على حجر ليس أمراً يسيرا كالقضاء على بعض الافراد ،
أو الشخصيات الأخرى للأسباب التالية : 1 – شخصية حجر الاجتماعية بين المسلمين ،
بوصفه صحابيا وزعيما دينيا معروفا بالثقة والتقوى ، فربما بعث قتله الاستنكار
والغضب بين المسلمين ، وكذلك لما لشخصيته من ثقل اجتماعي عند قبيلته كندة ، مما
يبعث فيهم الشعور القبلي وطلب الثار .
2 – ان حجرا أخذ الأمان من زياد ، لذلك لا يستطيع زياد قتله بعد هذا
الأمان وإلا أدى ذلك إلى نشوء تساؤل فتوتر واضطراب داخل الكوفة .
3 – ان حجرا أعلن مرارا أنه باق على بيعته لمعاوية ، فلا يكون هناك سبب يبرر قتله
، سوى انكاره على ولاة معاوية في سبهم للإمام ( ع ) في خطبهم ، وأمره بالمعروف
ونهيه عن المنكر ، فلا يملك ذلك المبرر القوي المبيح لقتله .
وهذه الأسباب وغيرها وضعت زيادا أمام موقف حرج ، فهو من جانب يرى ضرورة القضاء على
حجر وقتله ، لتوطيد سلطانه ، وتثبيت دعائم الحكم الأموي ، ومن جانب آخر لا يتمكن
من قتله للأسباب المذكورة ، ففكر في الطريق الذي يلزم عليه سلوكه في هذا المجال ،
ولم يجد أفضل من الشهادة على حجر بأنه قد ارتكب ما يبرر قتله من نقضه لبيعة معاوية
، ومن تحريضه على نقض البيعة ، والإطاحة بحكمه ، وكفره باللّه . فهو بذلك : 1 – سوف
يسلب من شخصية حجر ، أو من قضية مصرعه ، تأثيرها الديني والاجتماعي ، بشهادة بعض
الشيوخ والافراد الذين لهم تأثيرهم بحسب بعض الاعتبارات الاجتماعية والقبلية آنذاك
.
2 – سوف يملك معاوية المبرر الشرعي ، كما يتوهم لقتله ، أمام الرأي العام ، وهو
نقضه لبيعته ، أو العمل على الإطاحة بحكمه ، لذلك حينما واجه حجر معاوية بأنه
باق على بيعته له انهار أمام هذا الاعتراف ، إلا أنه سرعان
ما وجد الخلاص ، بان قال : زياد أصدق من حجر .
وفي كل ما تقدم ، رأينا ان زيادا عندما طلب من الشهود الشهادة أمرهم ان يذكروا
في متن الشهادة عناصر لها أهميتها في تبرير قتل حجر وجماعته ، بحيث تخدع بعض
الافراد ، ولو أن الواعين لم تخدعهم هذه الشهادة ، ولذلك استنكر جريمة معاوية الكثير
من الصحابة و غيرهم كما سيأتي ذلك ، لا ن حجرا لم يقترف ما يبرر قتله بهذه الصورة
الوحشية .
ويذكر المؤرخون في هذا المجال ان زيادا بعد ان جمع اثني عشر رجلا من أصحاب حجر
في السجن ، بعث إلى رؤوس الأرباع – لان الكوفة كانت تقسم إلى أربع مناطق – فحضروا
فقال : اشهدوا على حجر بما رأيتموه . وهم عمرو بن حريث على ربع أهل المدينة ،
وخالد بن عرفطة على ربع تميم وهمدان ، وقيس بن الوليد على ربع ربيعة وكندة ، وأبو
بردة بن أبي موسى الأشعري على ربع مذحج وأسد ، فشهدوا ان حجرا جمع إليه الجموع ،
وأظهر شتم الخليفة ، ودعا إلى حرب أمير المؤمنين ، وزعم أن هذا الأمر لا يصلح
إلا في آل أبي طالب ووثب بالمصر واخرج عامل أمير المؤمنين ، واظهر عذر أبي تراب
والترحم عليه ، والبراءة من عدوه وأهل حربه ، وإن هؤلاء الذين معه رؤوس أصحابه ،
وعلى مثل رأيه وأمره ، ولكن زيادا لم يجد في متن الشهادة ، وفي عدد الشهود ما يكفي
، لذلك أراد ان يذكر في متن الشهادة بعض المبررات التي تعطيها صفة شرعية تسوغ
لمعاوية قتلهم أمام الرأي العام ، بان ينص فيها على نقضه للبيعة ، ودعوته
الناس لنقضها ، وتحريضهم على
الإطاحة بالحكم الأموي ، وأنه قد خرج من الدين وكفر باللّه ، وان
لايقتصروا في الشهادة على استنكار حجر لسب الإمام ( ع ) فحسب .
ولذلك وضع أبو بردة بن أبي موسى – وسيأتي بعض الحديث عنه – صيغة أخرى للشهادة
ارتضاها زياد ، لأنه كتب فيها العناصر التي ينشدها زياد ( فكتب أبو بردة : بسم اللّه
الرحمن الرحيم . هذا ما اشهد عليه أبو بردة بن أبي موسى للّه رب العالمين
، شهد ان حجرا بن عدي خلع الطاعة ، وفارق الجماعة ، ولعن الخليفة ، ودعا إلى
الحرب والفتنة . وجمع إليه الجموع ، يدعوهم إلى نكث البيعة وخلع أمير المؤمنين
معاوية ، وكفر باللّه كفرة صلعاء ) ( 157 ) ، ومراده من ( كفرة صلعاء ) انه يوالي
الإمام عليا ( ع ) كما سيأتي توضيح ذلك وهذا يوجب الكفر عند زياد وأبي بردة .
ومن الواضح ان هذه شهادة زور ، ودعوى باطلة ، إذ ان حجرا كان بريئا من هذه التهم ،
ولم يقم بمثل هذه الاعمال التي نص عليها في هذه الشهادة ، مع تصريح حجر نفسه ،
وتصريح سائر الصحابة والمستنكرين لمصرع حجر .
وشهد مع أبي بردة رؤوس الأرباع الباقون ، ولم يكتف زياد بهذا العدد من الشهود ، بل
أراد ان يعطي لهذه الشهادة صورة جماعية ، بمستوى الاستفتاء الشعبي ، أو على الأقل
بمستوى مجلس أهل الحل والعقد ، فجمع الناس وطلب منهم تأييد هذه الشهادة ،
فسارع بعض المنتفعين حتى اجتمع
له سبعون رجلا .
لقد قال زياد عن الصيغة الأولى للشهادة ، وعن عدد الشهود وهم أربعة ( ما أظن هذه
شهادة قاطعة وأحب ان يكون الشهود أكثر من أربعة ) . ثم بعد ان وضع أبو بردة صيغة
الشهادة الثانية ، وأمضاها رؤوس الأرباع الباقون قال زياد : على مثل هذه
الشهادة فاشهدوا ، أما واللّه لأجهدن على قطع عنق الخائن الأحمق . ثم إن زيادا دعا
الناس فقال : اشهدوا على مثل ما شهد عليه رؤوس الأرباع ، فقام عناق بن شرحبيل
التيمي أول الناس ، فقال : بينوا اسمي ، فقال زياد : إبدأوا بأسامي قريش ثم اكتبوا
اسم عناق في الشهود ومن نعرفه ، ويعرفه أمير المؤمنين بالنصيحة والاستقامة .
وكان من جملة الشهود شداد بن المنذر أخو الحصين بن المنذر ، وكان يدعى ابن بزيعة ،
فقال زياد : ما لهذا أب ينسب إليه ألقوا هذا من الشهود ، فقيل له : إنه أخو الحصين
وهو ابن المنذر ، قال : فانسبوه إلى أبيه فنسب ، فبلغ ذلك شدادا فقال : ويلي على ابن
الزانية ، أو ليست أمه أعرف من أبيه ؟ و الله ما ينسب إلّا إلى أُمّه سمية ( 158 ) .
إذن ، فكان يختار تلك الأسماء المعروفة لاعتبارات اجتماعية أو قبلية ، ويترك
الأسماء غير المعروفة ، لتكون الشهادة أكثر وقعا في النفوس .
شاهد أيضاً
الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ
أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...