الرئيسية / القرآن الكريم / نفحات من القران

نفحات من القران

[138]
الاشياء بعد مشاهدتها ثم ختمت بـ «الفؤاد» الذي تُدرك به الحقائق غير المحسوسة، وقد قلنا سابقاً: إنّ الفؤاد هو العقل عند نضوجه، فهو أعلى درجة من العقل.
* * *
والآية الرابعة بعد إشارتها الى الأقوام المقتدرة التي بادت، وقد أُهلكوا بطغيانهم وفسادهم، ولم يجدوا مناصاً للقرار قالت: (إنَّ في ذلِكَ (في سيادتهم ثم إبادتهم) لذكرى لمن كان له قلب (أي عقل) أو القى السمع (أي يصغي
للنصائح)!.
والآية الخامسة بعد الاشارة الى إحياء الارض وانبات الزرع فيها الذي يغذي الانسان ودوابّه، صرحت: إن هذه الامور ايات يدركها أصحاب النهى.
وكنّا قد أشرنا الى أنَّ النهى هو العقل بما هو ناه عن فعل الأفعال القبيحة.
* * *
والآية السادسة بعد اشارتها الى الآيات العظيمة والبيّنة للقرآن، قالت: إن هذه الآيات في صدور (قلوب) الذين أُوتوا العلم، وكما بيّنا من قبل فانَّ الصدر يعني الجزء المقدم والأعلى من كل شيء، وهذا يبيّن أن العقل الذي يعتبر من المصادر المهمة للمعرفة، يشكل أشرف جزء في الانسان.
* * *
والآية السابعة بعد التلميح الى قضية خلق آدم (عليه السلام) خاطبت الملائكة قائلة: (فاذا سويته ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين).
وهذه (الروح الالهية) هي (جوهر العقل)، وقد اضيفت الى الله لأهميتها (ويقال لهذه الاضافة اضافة تشريفية) لأن الله لا روح له ولا جسم، ولأجل هذه
[139]
الروح الالهية سجد جميع الملائكة المقربين لآدم(عليه السلام)، وإلاّ فالطين والتراب لا قيمة لهما، وهذا تأكيد شديد على أهمية وقيمة العقل.
* * *
والآية الثامنة تشير الى خلق (النفس) أي الروح والعقل، وتقسم بخالق النفس، ثم تضيف أَن الله ألهم وكشف للنفس طريقيّ الفجور والتقوى بعد أن أوضح لها هذين الطرِيقَ يْن، وهذا تلميح جميل الى الدراكات الفطرية التي جُبِلَ
عليها الانسان منذ أن بدأ حياته.
كان هذا مجموع العناوين والمفردات الثمانية التي استعملت في القرآن وأريد بها الاشارة في كل مفردة منها الى جانب وبُعد من جوانب وأبعاد جوهر العقل، وقد وضحت هذه العناوين الثمانية الأبعاد المختلفة لهذا المصدر المهم للمعرفة.
* * *
إِنَّ ما ذكر سلفاً كان بحثاً في جوهر العقل، أما بالنسبة لنشاط ووظيفة العقل، فهنالك تعابيرات عديدة في القرآن كانت قد اختصت بهذا الموضوع وكلٌّ منها تبيّن جانباً من جوانب وأبعاد نشاط العقل، وهي كالتالي:
الآية التاسعة بحثت التذكر واعتبرته الهدف من بيان آيات الله، والتذكّر هو الحفظ والخطور في الذهن وهو أحد أهم وظائف العقل، وإذا لم يكن التذكر حاصلا عند الانسان ما استفاد الانسان من علومه شيئاً.
وفي هذا المجال نرى تعبيرات مختلفة في القرآن، فقد يذكر الموضوع الاستعانة بالأداة( لعل) التي تفيد بيان الهدف في موارد كهذا المورد، وتاةً اخرى يعبر عن الموضوع باسلوب التوبيخ واللوم مثل (أفَلا تَتَذَكَّرُون)(1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – كما في سورة (الانعام: 80)، (هود: 24)، (النحل: 90)، (المؤمنون: 85)، (الصافات: 155).
[140]
وقد يبين الموضوع باسلوب التوبيخ لأولئك الذين لا ينتفعون بالعقل والفكر، فلا يحفظون الحقائق ولا يتذكرونها، كما هو الأمر في: (قليلا ما تَذَكَّرُون)(1).
* * *
وقد تحدثت الآية العاشرة عن (التفكر) بعد استفهام استنكاري: (قُلْ هَلْ يَسْتَويَ الأعْمىْ وَالْبَصير)؟ وقالت لائمة: (أفلا تتفكرون)، وكما أشرنا سابقاً الى أنَّ الفكر يعني تحليل وتجزئة المسائل للوصول الى أعماقها، وهو سبيل الفهم للأكثر والأفضل.
وقد تنوّعت تعبيرات القرآن في هذا المجال، فتارةٌ يكون الاسلوب هكذا (لعَلَّكُمْ تَتَفكَّرُون) (البقرة / 219)، وتارة يكون: (لِقَوْم يَتَفَكَّرُون) (يونس / 24)، (والرعد / 31)، (والنحل / 11)، وتارة اخرى يكون: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في أنْفُسِهِمْ) (الروم / 8).
* * *
وتحدثت الآية الحادية عشرة عن «الفقه» الذي يعني الفهم العميق، حيث قالت: «انظرو كيف نصرّف الآيات» بأنواع من البينات (لَعَلَّهُم يَفْقَهُونَ) فقهاً
عميقاً.
وقد جاءت العبارة هنا بصيغة: (لَعَلَّهُم يَفقهُونَ)، كما قد جاءت في مكان آخر بصيغة: (لِقَوْم يَفْقَهُونَ) (الانعام / 98)، وفي آية اخرى باسلوب: (لَو كانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة / 81)، وفي اخرى: (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ الاّ قَليلا) (الفتح /15) وكلها تبين الأهمية القصوى للفهم والادراك العقلي.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – النحل: 92.
[141]
وكما قلنا سابقاً، فان كلمة «الفقه» تعني إدراك الامور الخفية بالاستعانة بمشاهدة الامور الجلية. وهذا الادراك هو أحد أبعاد الادراك العقلي.
* * *
وتحدثت الآية الثانية عشرة عن «الشعور»، فبعد أن نهت المؤمنين عن نعت الشهداء بالأموات قالت: إنهم أحياء ولكن لا تشعرون أي لا تدركون.
وقد يراد بالشعور هنا معنى الاحساس الظاهري، أو الاحساس الباطني، وقد استعمل بكلا المعنيين في القرآن المجيد.
وقد ذمّ القرآن في موارد مختلفة. اولئك الذين لا يشعرون ولا يستخدمون شعورهم(1).
* * *
وقد تحدثت الآية الثالثة عشرة عن «البصيرة» بعد ما أشارت الى المتقين، حيث قالت: إنَّ المتقين إذا ما ابتلوا بوساوس الشيطان تذكروا الله وأبصروا وادركوا الحقيقة فنجوا من شباك الشياطين.
إن «البصيرة» و«الابصار» هو الرؤية وقد تتم الرؤية بواسطة العين الظاهرة فيكون بصراً حسياً، وقد تتم بواسطة العين الباطنية أي العقل فذلك الادراك العقلي، والمراد من البصر في هذه الآية هو المعنى الثاني.
وقد يكون الانسان على نفسه بصيراً: (بَلِ الإِنسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)(القيامه / 14) وقد يكون الرسول وأتباعه بصيرين على ما يدعون إليه: (قُلْ هذِهِ سَبِيلي أَدْعُو إلَى الله عَلى بَصِيرَة أَنا وَمَنِ اتَّبَعَني) (يوسف / 108).
وقد استعملت البصيرة في جميع هذه الموارد بمعنى المعرفة الحاصلة عن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – كما في الآيات الآتية، (الشعراء: 113)، (الحجرات: 2)، (البقرة: 9)، (آل عمران: 69)، (الانعام: 36 و123)، (المؤمنون: 56).
[142]
طريق العقل قطعاً.
* * *
وقد تحدثت الآية الرابعة عشرة والاخيرة عن «الدراية» التي تعني الذكاء والخبرة والاحاطة بالمسائل الخفية غير المحسوسة، حيث قالت: (وما تدري نفسٌ ماذا تكسبُ غداً وما تدري نفسٌ بأي أرض تموت).
وقد استعملت الدراية في القرآن بصيغ السلب دائماً، ويفيدنا في هذا أن الدراية مرحلة عميقة من الفهم والادراك لا يحصل لكلِّ انسان.
* * *
نستنتج من الآيات السابقة النتائح الآتية:
1 ـ إنَّ القرآن يعتبر العقل من المصادر الاصلية للعلم والمعرفة، وقد أولاه أهمية قصوى.
2 ـ القرآن يدعو الجميع للتعقل والتفكّر في جميع الامور.
3 ـ التفت القرآن التفاتاً خاصاً الى ماهيّة الارواح وأبعادها المختلفة، وأكّد على كل منها.
4 ـ عبر القرآن عن نشاطات الروح في مجال إدراك الواقعيات تعبيرات مختلفة، وقد استخدم كل تعبير في محله.
إلاّ ان القرآن ذكر موانع عديدة تحول دون الادراك الصحيح للعقل، سنبحثها في فصل (حجب المعرفة) ان شاء الله.
* * *
إيضاحات:
1 ـ الادراكات العقلية برؤية فلسفية:
بالرغم من ان أغلب الفلاسفة يعتبرون الدراك العقليأحد المصادر
[143]
المهمة للعلم والمعرفة، إلاّ أن الفلاسفة الحسيّين يخالفون هذا الأمر، ولا يعيرون للادراكات العقلية أهمية واعتباراً ـ كما أشرنا الى ذلك سابقاً ـ ويحصرون طرق المعرفة بالتجارب الحسية متذرّعين بالحجج الواهية الآتية:
1 ـ اختلاف الفلاسفة في المسائل العقلية، فان كلَّ طائفة منهم تعرض ادلة ظاهرها يوحي بأنها منطقية.
2 ـ وقوع كثير من العلماء بأخطاء معتقداتهم بحيث يضطر البعض للاعتراف بخطئه ويسعى لتصحيحه.
3 ـ كما يجب إضافة أمر آخر الى الأمرين السابقين وهو: إن التقدم والتطور السريع للعلوم الطبيعية في القرون الاخيرة حلَّ الكثير من لاغاز العالم وأسراره عن طريق التجربة الحسية، وهذا الأمر قَوّى فكره الاستناد الى التجربة الحسية (في مجال المعرفة) فقط، وألغى بقيّة الطرق.
ونقرأ في (فلسفة التاريخ): إن موضوعاً كهذا الموضوع سبب انكار الحقائق (الحسية وغير الحسية) من قبل السوفسطائيين في اليونان القديمة. فمن جهة نظروا الى اختلاف العلماء، ومن جهة اخرى نظروا الى عوام الناس، فبعضهم يؤيدون إدعاء وكيلي المتنازعين في المحكمة، ويعطون الحق بيد كل من الطرفين وكأن كلا لطرفين على حق، ولهذا قويت عندهم فكرة أن لا حقيقة واقعاً.
ينبغي الالتفات الى عدة امور لرفع كل هذا الالتباس:
الأمر الاول: هو وجوب فصل «الادراكات البديهية» عن «النظرية» عند التحقيق في مسألة الادراكات العقلية، وذلك لأن الاخطاء لا تحصل في البديهيات، فلا يشك أحد في ان الاثنين نصف الاربعة، ان أن شيئاً لا يمكن ان يكون موجوداً ومعدوماً في آن واحد ومكان واحد، واذا شاهدنا اشخاصاً يشككون في هذا الأمر أو يعتقدون، خلاف ما هو بديهي فهم يتلاعبون بالألفاظ لا اكثر، فيفسرون (النقيضين) او «الضدين» بمعان غير تلك المعاني المتعارف عليها،
[144]
والا فلا خلاف في اصل الموضوع.
الامر الثاني: لا يخطأ الاستدلال إذا استند الى مقياس دقيق، فالخطأ ينشأ عندما يستند الدليل الى مقياس غير دقيق، ولهذا نشاهد الاتفاق الكامل في مسائل الرياضيات وقوانينها، لانها تعتمد على أسس دقيقة، ونمتلك هناك معايير واضحة لامتحان وسقم النتيجة لأي مسألة فالنتائج تكون قطعية كذلك.
الأمر الثالث: إن قولنا بوجود أخطاء في الادراكات العقلية، دليل على قبولنا لها لا على نفيها، وذلك لأن مفهوم حديثنا عن الأخطاء في الادراكات هو أننا نقلب بعض الحقائق ونخطّيءُ عقائد الآخرين على أساس تلك الحقائق المقبولة لدينا.
مثلا عندما حكمنا بصحة أحد رأيي الفلاسفة المختلفين، فأننا نعلم ان صحة اعتقادين متضادين محال، وهذا إدراك عقلي بديهي، وقضية القائلين: «إن الحس لا اعتبار له لأنه يخطأُ» تماثل هذه القضية، وكما ذكرنا سابقاً، فان تخطئتنا للباصرة في ادراكها لخط دائري ممتد ناشئة عن معرفتنا بأن هذا الخط نقطة نورانية متحركة، وبما أن «النقطة» تضاد «الخط» حكمنا بخطأ الباصرة في ادراكها للخط الممتد، وهذا اعتراف ضمني يوجد حقائق وامكانية ادراكها.
وآخر الحديث، نقول: في الحقيقة إن جميع المنكرين للادراكات العقلية يريدون اثبات مدعاهم بنفس الادراكات، أي انهم ينقضون مدعاهم عملياً، وقد هبوا لحرب الادراكات العقلية بنفسها.
* * *
2 ـ شأن العقل في الروايات الاسلامية:
اكدت الروايات الاسلامية على أنّ للعقل أهمية قصوى أكثر مما هو متوقع، وأشادت به بعناوين مختلفة مثل: أساس الدين، وأكبر غنىً، وأفضل رأس، واعلى قضية، وأفضل صديق، وأخيراً المقياس والمعيار للتقرب الى الله ونيل الثواب
[145]
الالهي.
ونكتفي هنا بذكر اثنتي عشرة رواية فقط من بين عشرات بل مئات الروايات المأثورة والمنقولة عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). والأئمة(عليهم السلام).
ففي هذا المجال:
1 ـ قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «قِوامُ المرءِ عَقلُه، ولا دينَ لِمن لا عقلَ لهُ»(1).
2 ـ قال امير المؤمنين (عليه السلام): «لا غنى كالعقل ولا فقر كالجهل»(2).
3 ـ وقال في حديث آخر: «إنَّ الله تبارك وتعالى يحاسب الناس على قدر عقولهم»(3).
4 ـ وجاء في حديث للامام الصادق (عليه السلام): «إنَّ الثواب على قدر العقل»(4).
5 ـ كما جاء في حديث للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم): «ما قسّم الله للعباد شيئاً أفضل من العقل… وما أدّى العبد فرائض الله حتى عَقَلَ عنه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل»(5).
6 ـ وجاء في حديث ان الامام موسى بن جعفر(عليه السلام) خاطب هشام بن الحكم قائلا: «يا هشام! ما بعث الله أنبياءه ورسله الى عباده إلاّ ليعقلوا عن الله،
فاحسنهم إستجابة أحسنهم معرفة، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلا، وأكملهم عقلا أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة»(6).
7 ـ وقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث آخر: «لكل شيء آلة وعُدّة، وآلة المؤمن وعدَّته العقل، ولكلِ شيء مطية ومطية المرء العقل، ولكلّ شيء غاية وغاية العبادة العقل»(7).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – بحار الانوار الجزء 1 الصفحة 94 حديث 19.
2 – نهج البلاغة الكلمات القصار، الجملة 54.
3 – بحار الانوار الجزء 1 الصفحة 106 حديث 2.
4 – اصول الكافي الجزء 1 الصفحة 12 حديث 8 (كتاب العقل والجهل).
5 – اصول الكافي الجزء 1 الصفحة 12 حديث 11.
6 – الكافي الجزء 1 الصفحة 16.
7 – البحار الجزء 1 الصفحة 95 حديث 34.
[146]
8 ـ وجاء في حديث للامام الصادق (عليه السلام): «إذا أراد الله أن يزيل من عبد نعمة كان أول ما يغير منه عقله»(1).
9 ـ ويقول الامام علي (عليه السلام) في هذا المجال: «العقل صاحب جيش الرحمن، والهوى قائد جيش الشيطان، والنفس متجاذبة بينهما، فأيهما غلب كان في حيّزه»(2).
10 ـ ويقول في حديث آخر: «العقول أئمة الافكار والافكار أئمة القلوب، والقلوب أئمة الحواس، والحواس أئمة الأعضاء»(3)، (وبهذا فان أعضاء الانسان تستند على حواسه وحواسه تستعين بعواطفه، وتعتمد عواطفه على أفكاره، وأكفاره على عقله).
11 ـ وجاء في حديث للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنَّ الرجل ليكون من أهل الجهاد ومن أهل الصلاة والصيام، وممَّن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يُجزى يوم القيامة إلاَّ على قدر عقله»(4).
12 ـ وقال الامام الباقر (عليه السلام): «لا مصيبة كعدم العقل»(5).
* * *
3 ـ المخالفون لتحكيم العقل:
إنَّ لهذا الجوهر الانساني (العقل) شأناً رفيعاً وصفات ايجابية كثيرة جداً، والمذهلُ حقاً أنه بالرغم من اتصاف العقل بهذه الصفات وامتلاكه هذا الشأن المرموق نجدُ مَنْ يذمّونه وَمَن يتأسفون لأنهم عقلاء، والاغرب من ذلك أنهم يمتلكون الحجج ـ حسب زعمهم ـ على أدعاءاتهم الجوفاء!
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – البحار الجزء 1 الصفحة 930 حديث 20.
2 – غرر الحكم.
3 – البحار الجزء 1 الصفحة 96 حديث 40.
4 – مجمع البيان الجزء 10 الصفحة 324.
5 – البحار الجزء 71 الصفحة 165.
[147]
فتارة يقولون: إنَّ العقل يحد الانسان من تصرفاته ويسلبه حريته، حيث يجعل أمامه موانع تحول بينه وبين ما يريد أن يقوم به من عمل حراماً كان او حلالا حسناً أو قبيحاً خيراً أو شرّاً، فلو لم تكن لنا عقول لكنّا أحراراً.
وتارة يقولون: إنه يسلب راحة الانسان حيث نرى العقلاء والذكياء من الناس لا راحة لهم، إلاّ أن البسطاء من الناس فرحون وسعداء دائماً لانعدام تأثير العقل عليهم.
واذا قرأنا أشعاراً مفادها ذمُّ العقل او الانتقاص منه أو الاستهانة به فمن الواضح كونها مزاحاً أو سفسطة او كناية عن مفاهيم اخرى ويستبعد أن يكون مرادهم ذم العقل، بل إنهم يقصدون أن هناك اموراً مؤلمة تحيطهم، والناس في غفلة عنها.
أو أن قصدهم من الجنون المذكور في بعض الأشعار كصفة للعقل، هو الجنون العرفاني والمراد منه العشق الالهي، والتضحية بكل شيء في سبيله.
وعلى أية حال، صحيح ان العقل يقيد من حرية الانسان وبعض تصرفاته،
إلاّ ان هذا فخر له، لأنه يرشدهُ نحو التكامل إنَّ هذا الادعاء يُشْبِهُ ادعاء من قال: «إن الاحاطة بعلم الطب يحد من انتخاب الانسان لأنواع الأطعمة ومن امور اخرى». وهل هذا نقص؟! أم أنه ينقذ الانسان من الاصابة بالامراض وفي بعض الأحيان من التسمم القاتل.
اما القول بأن العقل يزيد من هموم الانسان وأحزانه، فهذا يرفع من منزلة الانسان، لأن العاقل من يتحسّس آلام المضطهدين والمظلومين ويتألم من سلوك المعاندين وبالتالي فهو دليلٌ على الكمال، وكما جاء في المثل: (ما أن يكون ضعيفاً ونحيفاً كسقراط في زهده او سميناً وبديناً كالخنزير).
نعم، اذا غفلنا عن مسألة التكامل الانساني واعتبرنا الأصل في الحياة هو اللذة المادية، فان ما يتفوه به بعض المؤيدين لإصالة اللذة المادية صحيح، لكن هذا الحديث مضحك ولا قيمة له من وجهة نظر الانسان الموحّد أي الذي يؤمن
[148]
بالرسالة والهدف وتكامل الانسان.
إضافة الى هذا، فان المؤيدين لإصالة اللذة مضطرون لأن يسلموا ويخضعوا لكثير من القوانين الاجتماعية الحادة من حرياتهم وتصرفاتهم، وأن يفرضوا على أنفسهم العناء من هذه الناحية، ومن هنا ندرك كيف ان الانسان يسقط في الهاوية عند ابتعاده عن تعاليم الوحي والانبياء.
الى هنا ننهي البحث عن المصدر الثاني من مصادر المعرفة (العقل) وننتقل الى المصدر الثالث بالرغم من بقاء بحوث كثيرة لم تطرح في هذا الفصل.
* * *
المصدر الثالث:
التأريخ
[149]
والآثار التأريخية
[150]
3 ـ التاريخ والآثار التاريخية
تمهيد:
تعرَّض القرآن للقضايا التاريخية باسلوبين:
1 ـ الاسلوب المدوّن، أي ان القرآن المجيد يَسردُ للمسلمين بعض الحوادث التاريخية للأقوام السالفة بألفاظ وعبارات شيقة ودقيقة، ويبين الامور الغامضة من تاريخهم، ويشير الى عواقب أعمالهم، وذلك لتوعية المسلمين وتعريفهم بالقضايا المختلفة، ولكي يرى الناس حقائق من حياتهم في مرآة تاريخ السالفين.
2 ـ الاسلوب الثاني، التكويني، أي كشف القرآن عن الآثار التاريخية التي خلفتها الاقوام الغابرة، الآثار الصامتة ظاهراً، والمدويّة باطناً، الآثار التي يمكنها ان تصوّر لنا التاريخ الغابر، الآثار التي تعتبر مرآة أمام الانسان يرى فيها وجه حياته في الحاضر والمستقبل.
* * *
نبدأ اولا بقراءة نماذج من كلا القسمين في الآيات التالية:
1 ـ (لَقَدْ كَانَ في قصَصِهِمْ عِبرَةٌ لأُلي الأَلبَاب)
[151]
(يوسف / 111)
2 ـ (فَاقصُصِ القَصَصَ لَعلّهُم يَتَفَكَّرُون)
(الاعراف / 176)
3 ـ (ذَلِكَ مِنْ أنباءِ القُرى نَقُصُّه عَليكَ مِنهَا قَائمٌ وَحصِيد)
(هود / 100)
4 ـ (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيكَ أحسَنَ القَصَصِ بمَا أَوحَيْنَا إليْكَ هَذا القُرآنَ وَإنْ كُنتَ مِنْ قَبلِهِ لَمِنَ الغَافلين)
(يوسف / 3)
5 ـ (فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخِرَةِ وَالاُولى * إنَّ في ذَلِكَ لَعِبرَةً لِمنْ
يَخْشى)
(النازعات / 25 ـ 26)
6 ـ (أفَلَمْ يَسيروا في الأرضِ فَتَكُونَ لَهُم قُلوبٌ يَعقِلُونَ بهَا أو آذانٌ يَسمَعُونَ بِها)
(الحج / 46)
(افَلَم يَسيروا فِي الأرضِ فَيَنظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذينَ مِن قَبلِهم دَمَّر الله عَلَيهم وَلِلكافرينَ أمثالُها)
(محمد / 10)
8 ـ (قَد خَلَتْ مِنْ قَبلِكُمْ سُنَنٌ فَسيرُوا في الأرْضِ فَانْظُروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبينَ)
(آل عمران ـ 137)
9 ـ (قُل سِيروا في الأرضِ فَانْظُروا كَيفَ بَدءَ الخَلْقَ ثُمَّ الله يُنشِيءُ النَّشْأَةُ الأَخِرةَ إن الله عَلى كلِّ شيء قَديرٌ)
(العنكبوت / 20)
10 ـ (ألَمْ تَرَ إلى الَّذي حَاجَّ إبراهيمَ في رَبِّهِ أن أتَاهُ الله المُلْكَ)
[152]
البقرة / 258)
11 ـ (ألمْ تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَاد * إرَمَ ذَاتِ العِمَادِ)
(الفجر / 6 ـ 7)
12 ـ (أَلَمْ تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأصْحَابِ الفِيل)
(الفيل / 1)
* * *
شرح المفردات:
1 ـ إن كلمة «قصص» تعني التتبع لآثار شيء ما(1)، وقد سميت القصة قصة لأن فيها تتبعاً للاخبار والحوادث المختلفة، وعليه فالقصة لا تعني الرواية فحسب، بل تعني ـ لغوياً ـ التتبع لآثار الاشياء.
كما تطلق «القصص» على كل شيء متتابع ومتسلسل.
وبما أن (المِقَصّ) يقص الشعر على التوالي قيل له (مِقَصّ)، والقُصّة تعني مجموعة الشعر الامامي(2).
2 ـ اما كلمة «عِبْرة» فاشتقت من مادة (عبور) و(عَبْر) وتعني التنقل من
حالة الى حالة اخرى، و«العبور» في الأصل ـ يعني عبور الماء سباحة أو بالزورق أو على الجسر وأمثال ذلك، وقد استعملت هذه المفردة بمعنى أوسع وهو التنقل من حالة الى حالة اخرى، ويقال لقسم من الحديث (عبارة) لأنه عابر من لسان المتكلم الى اذن السامع.
أمّا (العبرة) فهي كيفية صالحة للمشاهدة ينتقل الانسان بها الى شيء غير
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ينبغي الالتفات الى أن (قصص) كما هي مصدر لقصَّ يقصّ، هي جمع (قصة)، والمراد منها في سورة يوسف في الآيتين (3 و111) هو المعنى الثاني.
2 – لسان العرب، ومفردات الراغب، ومجمع البحرين.
[153]
مُشاهَد(1).
وقد ذكر البعض أن «العبرة» تعني الدلالة التي توصل الانسان الى مراده(2).
كما جاءت هذه المفردة بمعنى التعجب (3) (وقد يكون هذا الاطلاق الأخير لأن كثيراً من الامور التي يكتشفها الانسان عن طريق الحوادث المهمةّ والجلية تثير العجب).
3 ـ كلمة «السير» تَعني الحركة على الارض، واذا قيل (سيروا في الارض) فان القيد الأخير تأكيد للسير، وقد قال الراغب في مفرداته: ذُكِرَ معنيان للسير في الارض: أحدهما الحركة الجسمانية على الارض (ومشاهدة الكائنات وآثارها المختلفة). والثاني هو الحركة الفكرية ودراسة الكائنات، وقد صرح البعض: إن السير يعني العبور المستمر في جهة واحدة(4).
أما كلمة (السيرة) فتعني الطريقة والاسلوب. واستعمالها اشارة الى تاريخ حياة الاشخاص، من هذا الباب.
4 ـ أما «الرؤية» فقد جاءت لمعنيين، احدهما المشاهدة بالعين، والآخر العلم والمعرفة أو المشاهدة الباطنية(5)، وقد استعملت في القرآن الكريم في موارد كثيرة بالمعنى الثاني أي بمعنى العلم والخبرة، وأما «الرأي» فيعني الاعتقاد القلبي والنظرية سواء كان اعتقاداً يقينياً أو ظنياً، وأما «الرويّة» و«التروّي» فيعنيان التفكير أو السعي والتتبع للحصول على النظرية.
5 ـ كلمة «نظر» في الأصل تعني دوران العين أو حركة الفكر لادراك أمر ما، أو مشاهدته، وجاء أيضاً بمعنى البحث والتفحص وتارة جاء بمعنى المعرفة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – مفردات الراغب.
2 – مجمع البيان الجزء 5 الصفحة 271.
3 – لسان العرب.
4 – مجمع البيان الجزء 5 الصفحة 268.
5 – وفعلها يتعدى لمفعول واحد على المعنى الاول، ومفعولين على المعنى الثاني (لسان العرب والمفردات).
[154]
الحاصلة بعد الفحس، وقد ذكر صاحب مجمع البحرين ثلاثة معان للنظر: 1 ـ مشاهدة الشيء 2 ـ التدقيق في الشيء بواسطة العين 3 ـ التفكر للحصول على العلم أو الظن(1).
أما صاحب لسان العرب فقد شرح النظر بأنه المشاهدة، بالعين والثاني المشاهدة بالقلب، والمفيد أنه استشهد بعد ذلك بحديث للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال فيه: «النظر الى وجه العالم عبادة»، وفي تفسير هذا الحديث ينقل عن ابن الاثير أنه قال: معنى الحديث هو أن الناس حينما كانت أعينهم تقع على علي (عليه السلام) كانوا يقولون:
«لا إله إلاّ الله ما أشرف هذا الفتى لا إله إلاَّ الله ما أعلم هذا الفتى…»(2).
* * *

 

شاهد أيضاً

السيد رئيسي افتتح معرض القدرات التصديرية: قوة الإنتاج لا تقلّ عن القوة العسكرية

لفت رئیس الجمهوریة الإسلامية في إيران السید إبراهیم رئیسي إلى أنّ الحظر شكل من أشكال ...