الرئيسية / القرآن الكريم / نفحات من القران

نفحات من القران

جمع الآيات وتفسيرها:
بعد أن أشارت الآية الاولى الى المصير المؤلم لبعض الامم السالفة قالت: (لَقَدْ كانَ في قصَصِهِم عِبْرَةٌ لأُولي الأَلباب) فالتفكير في مصير هؤلاء يُعد الاسلوب الأَمثَل لأُولي الالباب لمعرفة عوامل السعادة والتعاسة، وتمييز طريق الهلاك عن طريق النجاة.
* * *
والآية الثانية خاطبت الرسول قائلة: (فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلّهُم يَتَفَكَّرُون)وهذا يدل على أن البيان الصحيح لتاريخ السالفين موجب لصحوة الأفكار
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – مفردات راغب مادة نظر.
2 – لسان العرب الجزء 5 مادة نظر.
[155]
ومصدر المعرفة.
* * *
والآية الثالثة بعد أن بيّنت مصير بعض الأقوام السالفة مثل قوم نوح وشعيب وفرعون ولوط وعاد وثمود، قالت: (ذلِكَ مِنْ أنباءِ الْقُرى نَقُصُّه عَلَيكَ مِنها قائمٌ وَحَصِيد) (اي من القرى من هو باق لحدّ الآن ومنها من زال وفنى) (ما ظَلمناهُمْ وَلكِن ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ) ثم أضافت في النهاية (إنَّ في ذلِكَ لاَيَةً لِمَنْ خافَ عَذابِ الاخِرةِ).
* * *
والآية الرابعة التي جاءت في بداية سورة يوسف، هَيَّأَتْ أَذهانَ المستمعين في البداية لتلقي وادراك ما سَيُقال فقالت: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيكَ اَحْسنَ القَصَصِ بِما أَوْحَيْنا اِلَيْكَ هَذا الْقُرآنَ وَإنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الغافِلِين).
فقد استندت الآيات الاربع الى موضوع «القصة» والقصص» كوسيلة للمعرفة.
* * *
والآية الخامسة بعد اشارتها الى تعذيب فرعون قالت: (فَأَخَذَهُ الله نَكالَ الآخِرَةِ وَالاُولى * إنَّ في ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمنْ يَخْشَى).
إنَّ هذه الآية ذكرت (العبرة) التي تعني الانتقال والعبور من حالة صالحة للمشاهدة الى حقائق مشاهدة لها واعتبرتها وسيلة للمعرفة.
* * *
[156]
وقد أكدت الآية السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة على مسألة «السير في الأرض»، ودعت الناس إليه باساليب خطابية مختلفة، فمرة خاطبتهم بـ: (أفلم يَسيرُوا في الأرْضِ فَيَنْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ومرة (فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبينَ) بعد ما ذمتهم لعدم سيرهم في الارض.
وفي آيات أُخَر خُوطِبَ جميع الناس أو المسلمين بالقول: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سنَنٌ فَسيرُوا في الأَِْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبينَ).
وفي آية اخرى هناك دعوةٌ للناسِ لأن يسيروا في الارض للبحث عن بدء الخلق والاستفادة من ذلك للعلم بكيفية النشأة الآخرة.
* * *
وقد أكدت الآيات العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة على مسألة المشاهدة و«الرؤية» ليس بالعين الباصرة، بل بعين القلب.
إن الخطاب في الآيات الثلاث موجَّهٌ الى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) إلاَّ أن المراد بها جميع المؤمنين، بل الناس كافة، والخطاب بصيغة استفهام تقريري، حيث خاطبه الله تارة بالنحو الآتي:
ألم ترَ الى الذي (أي نمرود ذلك السلطان الطاغي المغرور) حاجّ ابراهيم في ربّه، والى ايّ نهاية انتهى به المطاف؟ وتارة يخاطبه بهذا الخطاب: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعاد إرَمَ ذاتِ الْعِماد).
وخاطبه تارة اخرى بنحو آخر قائلا له: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأصْحابِ الفِيل)، مذكّراً بقصة اصحاب الفيل القادمين من اليمن لهدم الكعبة فانزل الله عليهم طيوراً ـ بالرم من ضعفها ـ ترميهم بحجارة من سجى تحملها بمناقيرها فهلكوا بهذه الاحجار.
ومن المسلم به أنّه لا الرسول ولا غيرَه من المسلمين رأى ابراهيم ونمرود
[157]
وسمعَ محاجتهما، وكذا الأمر بالنسبة لقوم عاد، فلم يروهم ولم يروا مدنهم العامرة يومذاك، وحتى بالنسبة لأصحاب الفيل فان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وُلِدَ في السنة التي هجم فيها (ابرهة) طبقاً للرواية المشهورة، فلم يرَ شيئاً من الحادث وكذا أكثر المسلمين، وعلى هذا فالمراد من الرؤية هو التدقيق في تاريخهم.
إن ما يلفت النظر هنا هو أن الآيات الخمس الاولى ركّزت بحثها على التاريخ المدوّن أي ما جاء في صفحات الكتب التاريخية بينما ركزت الآيات الاربع الاخيرة بحثها على التاريخ التكويني الحي أي الآثار الباقية عن الاقوام الغابرة في بقاع مختلفة من العالم.
من الممكن أن تكون الآيات الثلاث الاخيرة فيها اشارة الى التاريخ المدون او التاريخ الخارجي أو كليهما، ويتضح من مجموع هذه الآيات (وأمثالها في القرآن الكريم) الأهمية القصوى التي أولاها القرآن لقسمي التاريخ كمصدر للمعرفة والعلم.
انَّ الله عزّ وجلّ يدعو الناس تارةً لأن يشاهدوا بأم أعينهم قصور الفراعنة وآثار دمار مدن عاد وثمود وقصور نمرود وأعوانه والبلاد التي جُعِلَ عاليها سافلها التابعة لقوم لوط لكي يعرفوا أنَّ مَصير المتجَبّرين سيؤول الى هذه النهاية.
وتارة نجد القرآن نفسه يشرح بدقة هذه الحوادث ويسلط الاضواء عليها ويعدُّ العِبَر بعد العِبَر ذاكراً عاقبة (المكذبين) و(الظالمين) و(الكافرين) و(المفسدين) في ضمن بحوثه التاريخية هذه.
في الحقيقة إن القرآن تارة يأخذ بأيدي الناس الى «مصر» ويريهم الآثار التاريخية ويمثل لهم الراقدين تحت التراب ويصور أمامهم العروش التي عصفت بها الرياح، وتارة اخرى يريهم الذين أُركسوا في العذاب وهُدّمت عروشهم، والخلاصة: فان القرآن يريهم ما خفي على العيان من قصص الأسلاف.
إنّه يمضي بهم الى المدن الخربة كمدينة (سدوم) مثلا مركز قوم لوط
[158]
ليشاهدوا عن كثب ما حلّ بها ومن هناك الى جنة شداد، ثمّ الى بلاد بابل، (مركز حكومة نمرود)، ثم الى مناطق اخرى.
إنه يجعل من المدن المدمّرة عبرة لمن اعتبر ومن كل قصر مهدّم نصيحة جديدة.
والخلاصة: إن القرآن يستند كثيراً في مجال المعرفة الى التاريخ المدون في الكتب، والملقى على وجه الارض، وهذه، مسألة جديرة بالاهتمام كثيراً.
* * *
إيضاحات:
1 ـ مرآة التاريخ:
إنّ أهم ما يحصل عليه الانسان في حياته هو تجاربه الشخصية حيث تفتح له بها آفاق جديدة وواسعة في الحياة ليسعى جاهداً للوصول الى التكامل
الأمثل.
لكن ما هو مقدار التجارب التي يستطيع الانسان تحصيلها خلال عمره القصير البالغ مثلا عشرين سنةً او خمسين او ثمانين؟
هذا إذا قضى عمره في ميادين التجربة ولم يِقضِهِ لاهثاً وراء التوافه.
اننا، لو استطعنا أن نجمع تجارب جميع من عاش في عصر واحد، أو تجارب جميع من عاش في القرون والعصور الماضية، لَحَصَلْنا على تجارب كثيرة بالتأكيد، وستكون تلك التجارب مصدراً مهماً لمعرفتنا وخبرتنا.
إن التاريخ ـ شرط أن يدوّن بالطريقة الصحيحة والكاملة ـ يجعل تجارب البشر على مرّ القرون أمام اباحثين والدارسين له، وحتى اذا كان ناقصاً فانه يضم بعض التجارب العصور الغابرة.
إن أهمية التاريخ ناشئة من أنّ ما يحدث الآن قد تكرر نموذج او نماذج منه
[159]
في التاريخ سابقاً، وما يقال عن التاريخ من أنه «يعيد نفسه» حقيقة لا تنكر وقد تستثنى موارد منه إلاّ أن اكثر الحوادث داخلة في اطار هذا القانون.
وقد أشار الامام علي(عليه السلام) لهذا الموضوع بوضوح في خطبة له، حيث قال فيها: «عباد الله إن الدهر يجري بالباقين كجريه بالماضين».
وقد جاء في حديث شريف أن ما يجري في الامة الاسلامية قد جرى مثله في بني اسرائيل.
ومن هنا تتضح أهمية وشأن التاريخ في مجال المعرفة ونستطيع القول بجرأة: إنه بالتحليل والدراسة الدقيقة لتاريخ البشر نجد.
عوامل الفشل والسقوط.
وعوامل الانتصار والفوز.
وعوامل ازدهار الحضارات.
وعوامل سقوط وانقراض الحكومات (الدول).
وعاقبة الظلم والاستبداد.
وعاقبة العدل والعدالة.
ونتائج وحدة الكلمة والحركة والسعي.
ودور العلم والمعرفة.
وعواقب الجهل والبطر والكسل، كلها قد انعكست في مرآة التاريخ.
وإن أراد أحد أن يمنحه الله حياة ثانية فحريٌّ بنا أن نقوله له: إنك إذا درست التاريخ بدقة لوجدت انك لم تمنح حياة ثانية فحسب، بل وُهِبَت الآلاف المضاعفة.
وما أجمل ما خاطب به الامام أمير المؤمنين7 ولدَهُ الاكبر الامام الحسن7: «أي بني إني وإن لم أكن عُمّرتُ عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في خبارهِم وسرتُ في آثارهم، حتى عُدْت كاحدهم، بل كأني بما انتهى
[160]
الىَّ من امورهم قد عمرتُ مع أولهم الى آخرهم»(1).
ومع اننا لا ننكر لنواقض والاشكالات على التاريخ المتداول بين أيدينا، ولكن رغم هذه النواقص ـ التي سنشير اليها فيما بعد ـ فهو غني بالعلم والمعرفة.
* * *
2 ـ جاذبية التاريخ:
لِمَ كان التاريخ معلماً؟ ليست الاجابة عن هذا السؤال صعبة جدا، وذلك لا مكانية تشبيه التاريخ بالمختبر البكير الذي تخضع فيه قضايا الانسان المختلفة للاختبار.
وعلى هذا الاساس، فكما ان العلوم التحليلية حلت الكثير من مسائلها وقدّمت الكثير من البراهين لاثبات الواقعيات بالاختبار، كذلك التاريخ ذلك المختبر العظيم حيث تختبر فيه الكثير من القضايا والمسائل، ويميز فيه الذهب الصادق عن الكاذب، وبه تزول الأوهام عن الأذهان.
إذا حللت ظواهر الاجسام أو تركيباتها في مختبرات الكيمياء والفيزياء، فانك في مختبر التاريخ تحلل ألغاز انتصار وفشل الأقوام، وسبب سيادة وتطور أو انحطاط الحضارات، وردود الفعل وصفات ومعنويات الاقوام والأشخاص، واسلوب عملهم بجاذبية وجمال فائق.
وبذلك يكون التاريخ وسيلة مناسبة لدارسة عوامل السعادة وشقاء البشر.
واذا شاهدنا في القرآن الكريم تأكيداً على تاريخ الاسلاف، وشاهدنا فيه من السور الدالّه على المباحث التاريخية حتى أن بعض السور تدور معظم آياتها أن كلّها حول تاريخ الاقوام السالفة فذلك كله ناشيء من هذه الملاحظة التي أشرنا بها.
وقد ينكر المعاندون بعض المسائل النظرية، إلاّ أنّه لا يمكنهم انكار
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – نهج البلاغة ـ وصيته للامام الحسن المجتبى(عليه السلام).
[161]
واقعيات التاريخ القطعية، خاصةً وأن القرآن يأخذ بأيدي الناس الى ما خلّفته الأقوام الغابرة، ويروي قصصهم على قبورهم وقمم مدنهم الخربة.
إن التاريخ ـ في الحقيقة ـ فرع من المسائل التجريبية، وبتعبير آخر يمكن ادغامه في مصدر «الحس والتجربة» إلاّ أنه يختلف عن الحس والتجربة اختلافاً طفيفاً فالحس والتجربة يتعلقان بالحاضر لكن التاريخ يتعلق بالماضي، وان الحس والتجربة قد يتعلقان بذات الفرد فقط بينما التاريخ يتعلق بجميع ذوات البشر.
ولكن الأهمية الفائقة لهذا الفرع من التجربة تفرض علينا دراسته كمصدر مستقل للمعرفة.
* * *
3 ـ شوائب التاريخ:
بالرغم من ان التاريخ مرآة كبيرة وجميلة تعكس الواقعيات إلاّ أن المؤسف فيه هو وجود أياد ملوَّثة سعت وتسعى دائماً لتغيير وتشويه الوجه الشفاف لهذه المرآة، ولهذا السبب فان هناك كثيراً من الشوائب في التاريخ تحول دون معرفتنا للحقيقة ودون تمييزنا الصادق عن الكاذب منه.
إن سبب التشويه واضح، حيث لم يكن المؤرخون محايدين دائماً، بل كثيراً ما يؤرخون التاريخ بالشكل الذي يتناسب مع دوافعهم الشخصية والتكتلية، هذا من جهة، ومن جهة اخرى فان جبابرة كل عصر سعوا لإِغراء المؤرخين بالاموال وغيرها، ليملوا عليهم ما يحلو لهم.
وبالرغم من المساعي التي تُبذل بعدَ زوال كلٍّ من الحبابرة والظالمين وتوفر أجواء حرة أكثر في سبيل اصلاح الاخطاء، وتصحيح ما لحق بالتاريخ من فساد، إلاّ أن المؤرخين قد لا يوفّقون في هذا المجال لاصلاح الخطأ، أو تكون اصلاحاتهم غير كافية.
[162]
والملفت للنظر أن قضايا التاريخ تتبدّل كلما تبدلت الحكومات المستبدة ذات الميول والتجاهات المتضاربة، فـ «بنو امية» مثلا حرفوا التاريخ الاسلامي بشكل، و«العباسيّون» حرفوا بشكل آخر، كما أن الذين خلفوا العباسيين صاغوه بشكل آخر.
إنَّ (ستالين) كتب تاريخ الثورة الشيوعية في روسيا بشكل، وقد دُرِّس في جميع المدارس آنذاك، والذين خلفوه كانوا يعتبرونه جلاداً مصاصاً للدماء فجمعوا تلك الكتب ودوّنوا تاريخ الثورة بصيغة اخرى، وهكذا فعل كل من خلف الحكومة في الاتحاد السوفيتي فكتب التاريخ بما يتناسب مع ميوله الشخصية والمذهبية.
ولهذا السبب، فان البعض أساء الظن بالتاريخ وقال فيه ـ مبالغةً ـ هذه العبارة: «إن التاريخ مجموعة حوادث لم تحدث أبداً، وأقوام لم توجد أبداً»!!
إلاّ أن الانصاف يفرض علينا أن نعدّ التاريخ أحد مصادر المعرفة بالرغم من الغبار الذي غطّاه، وذلك لأن التاريخ كأي خبر آخر منه «متواتر» ومنه «موثوق» ومنه «ضعيف» ومنه «مجهول».
ولا يمكن انكار ما تواتر في التاريخ عن جُند المغول وجيش هتلر والحوادث المفجعة في «الاندلس»، والمئات من هذه الحوادث، والذي يصلح للنفي والاثبات والاشكال هو جزئيات التاريخ، وهي بدورها إذا ثبتت باخبار الثقاة صلحت للقبول. بالطبع فان الاخبار الضعيفة في هذا المجال ليست قليلة.
وهذا حكم عادل بحق التاريخ، فينبغي عدم الأخذ بكل ما جاء في التاريخ، كما ينبغي عدم نبذ كل ما نقل فيه.
وقد سَلِمَ قسمان من التواريخ من أي تحريف وتلويق وهما:
التواريخ التي ظللت في صورة آثار تكوينية في الخارج، فلا يمكن تحريفها ببساطة، وقد أكد القرآن المجيد على هذا القسم كثيراً، وآيات «السير في
[163]
الارض» بهدف التعرف على تاريخ الاسلاف ناظرة الى هذا القسم منه.
والأعظم من ذلك هي التواريخ التي وصلتنا عن طريق «الوحي» مثل تواريخ القرآن التي تعتبر أصيلة وخالصة من جميع الرغبات والنزعات، فكما أن الله عزّ وجلّ أفضل مقنّن فهو أفضل مؤرخ كذلك، لأنه خبير بجميع الجزئيات ومنزه عن التجاهات الفردية والجماعية، ومع توفر هذين الشرطين فهو أفضل مؤرخ روى لنا التاريخ.
وقد يتعجب البعض ويسأل: لماذات يعيد الله تعالى قصة نوح أو موسى أو فرعون أو مواجهة الانبياء للمستكبرين عدة مرات؟
لقد غفلوا عن أن كل حكاية ناظرة الى الحادث من زاوية واحدة فقد يكون لكل حدث تاريخي زوايا وجوانب متعددة، فقد ينظر ـ مثلا ـ الى تاريخ بني اسرائيل من حيث مواجهتهم لطاغوت زمانهم، وقد ينظر لتاريخهم من حيث عنادهم لأنبيائهم، وقد ينظر الى تاريخهم من حيث عواقب الاختلاف والتشتت وعدم الاتحاد، او من حيث آثار ونتائج نكران النِعَم، والخلاصة: إن كثيراً من الحوادث التاريخية كالمرآة ذات الأبعاد المختلفة، يسلط كلُّ وبعد الاضواء على جانب من الجوانب (وسيأتي شرح هذا بالتفصيل في بحث تواريخ القرآن).
* * *
4 ـ فلسفة التاريخ:
إن المهم في التاريخ هو العثور على «اصول» و«نتائج» الحوادث.
فاذا حصلت ثورة في بقعة ما من العالم ـ مثلا ـ ينبغي أولا دراسة العوامل التي أدت الى هذه الثورة والتحقق منها بدقة.
ثانياً النظر في نتائج هذه الثورة. وهذان الامران هما اللذان يخرجان التاريخ عن كونه مجرد حكايات مسلّية، ويبدلانه الى مصدر مهم للمعرفة.
[164]
لكن يؤسفنا أن يكتفي المؤرخون بذكر الحوادث التاريخية، في مرحلة تبلورها فقط، وقلّما يتجهون نحو اصول الحوادث ونتائجها، ولم يتركوا في مجال تحليل القضايا التاريخية آثاراً تُذكر.
إلاّ أن القرآن قرن تدوين الحوادث مع البحث عن أُصولها ونتائجها فتارة بعد ذكره لمقطع تاريخي يقول:
(فانظُروا كَيفَ كانَ عاقبةُ الْمُكذِّبينَ) (آل عمران / 137).
وتارة يقول: (وَانظُرو كَيفَ كانَ عاقبةُ المُفْسِدينْ) (الاعراف / 86).
وتارة يقول: (فانظُرو كَيفَ كانَ عاقبةُ الْمُجرِمين) (النمل / 69).
وتارة يقول: (انَّ الله لا يُغَيِّرُ ما بِقَوم حَتّى يُغيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ).
(الرعد / 11).
والجدير بالذكر أن للتاريخ فروعاً عديدة أهمها تاريخ الانسان والمجتمعات البشرية، وتاريخ الحضارات، وتاريخ العلوم والفنون البشرية، وهي تواريخ محورها الأساس هو الانسان.
يالهم من بسطاء اولئك الذين يظنون أن التاريخ ـ بالرغم من كل فروعه وتشعباته ـ وليد قسري للقضايا الاقتصادية وخاصةً وسائل الانتاج، أي ان التاريخ خلقته وسائل الانتاج واجهزته التي صنعها الانسان بنفسه!
وعلى هذا الاساس يمكننا القول: إن هؤلاء باسلوبهم الخاطىء وتفكيرهم الشاذ لم يعرفوا الانسان ولا التاريخ أبداً.
* * *
5 ـ التاريخ «النقلي» و«العلمي» و«فلسفة التاريخ»:
قسم أحد العلماء المعاصرين التاريخ ـ باعتبار ـ الى ثلاثة أقسام:
1 ـ التاريخ النقلي: وهو عبارة عن مجموعة من الحوادث الجزئية المعينة
[165]
التي حدثت في الماضي، وهو أشبه ما يكون بالقلم الذي يصور حادثة أو حوادث، لهذا فانه جزئي دائماً وليس كلياً، ويتحدث عمّا كان لا عمّا يكون، ويتعلق بالماضي لا بالحاضر، ونقلي لا عقلي.
وهذا الفعر من التاريخ يمكنه ـ عن طريق المحاكاة ـ أن يكون معلماً مفيداً، وعبرة يعتبرها الناس، وهو أشبه بتأثّر الانسان بجليسه، وأشبه بالاسوة التي يعرضها القرآن للناس ليعتبروا منها ويقتدوا بها.
2 ـ التاريخ العلمي: وهو التاريخ الذي يتحدث عن قواعد وسنن الأسلاف التي تُستنبط بعد تحليل حوادث العصور السابقة، وفي الحقيقة فان التاريخ النقلي كالمادة الخام لهذا التاريخ.
ومن ميزات هذه السنن هي امكانية تعميمها، وكونها علمية، وامكانية جعلها مصادِر للمعرفة، وإحاطة الانسان ـ عن طريقها ـ بالمستقبل.
وبالرغ من ان هذا النوع من التاريخ كلي وعقلي، فانه علم بما كان لا بما يكون.
3 ـ فلسفة التاريخ: وهو علم يتحدث عن تحول المجتمعات من مرحلة الى أُخرى، أو بتعبير آخر: هو علم بما يكون لا بما كان.
ويمكن توضيح هذا بالمثال الآتي:
إن «علم الأحياء» علم يبحث عن القواعد الكلية التي تحكم حياة الموجودات الحية، إلاّ أن نظرية «تكامل الانواع» إذا قلنا بها ـ تبحث عن كيفية تحول وتبدل نوع من الحيوانات الى نوع آخر، إذن، موضوع البحث في فلسفة التاريخ هو كيفية حركة وتكامل التاريخ، إن هذا الفرع من التاريخ يتسم بجانب كلي وعقلي، ورغم ذلك فانه ناظر الى مجريات التاريخ من الماضي الى المستقبل وفائدة هذا النوع من التاريخ لا تخفى على أحد(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ملخص من كتاب فلسفة التاريخ تأليف الشهيد المطهري.
[166]
وتجدر الاشارة هنا الى أن ما ذكرناه في شروحنا للاقسام الثلاثة كان صحيحاً وإن لم يتفق شيئاً ما مع الاستعمالات العصرية لمفردتي «العلم» و«الفلسفة» وان المراد كان ايصال المفهوم الى أذهان القراء فقط.
فضلا عما ذُكر سابقاً نضيف هنا القول بامكانية ادغام القسم الثاني والثالث في قسم واحد، ذلك لأن القوانين الكلية التي رسمت التاريخ وتُستخرج وتُِستنبط من التاريخ النقلي، تارة تكون ناظرة الى الوضع الراهن للمجتمعات، وتارة اخرى تكون ناظرة الى تحول وتكامل المجتمعات.
والمهم هنا هو أن القرآن المجيد لم يقتنع بالسرد المجرد لحوادث التاريخ بل أشار أيضاً الى السنن والقوانين الكلية التي حكمت المجتمعات، القوانين التي يمكنها أن تزيل القناع عمّا كان ويكون، أو عن أي تغير وتحول تاريخي كأيّ تقدم أو سقوط أو فشل حصل للمجتمعات.
يشير القرآن ـ مثلا ـ الى هذه السنة: (ذلِكَ بِانَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أنْعَمَها على قَوم حتّى يُغَيِّروا ما بِأَنْفُسِهم) (الأنفال / 53).
وينبغي الالتفات الى أن القرآن ذكر هذه السنة بعد ما أشار الى قصة قوم فرعون وعذابهم بسبب ذنوبهم.
ويقول في آيات اخر (بعد اشارته الى تاريخ الاقوام القويّة التي بادت بسبب تكذيبهم الرسل وشركهم وذنوبهم وظلمهم): (فَلَمْ يَكُّ يَنْفَعُهُمْ اِيمانُهُمْ لَمّا رَأوا باسَنا سُنَّةَ الله التي قَدْ خَلَتْ في عِبادِهِ) (المؤمن / 85).
نعم تنبغي الوقاية قبل العلاج، وهذا قانون كلي، لأنّ الانسان لو ابتلي بجزاء أعماله فلا فرصة حينئذ لجبران الماضي.
الإجابة على إشكال:
إن قبول وجود قانون كلي في تاريخ الانسان يجسد مفهوم الجبر في التاريخ ولا يتفق وحرية الارادة والختيار. وَهذا ما قد يقال.
لكن الالتفات الى نقطة في هذا المجال يرفع الاشكال بالكامل والنقطة
[167]
هي:
إنَّ قولنا بوجود قوانين وسنن كلية معناه أن أعمال البشر الاختيارية (سواء الفردية منها او الجماعية) لها مردودات وانعكاسات قهرية، فمصير الأمم الصامدة والعارفة والمجدّة ـ مثلا ـ هو النصر، ومصير الامم المشتتة والجاهلة هو السقوط والفشل.
هذه سنة تاريخية، فهل ان مفهوم هذا القانون الكي هو أن الانسان مجبور، أم إنَّه تأكيد لتأثير ونفوذ إرادة الانسان في تعيين مصيره؟
وهذا الأمر أشبه ما يكون بقولنا: إنّ انسان يموت اذا تناول سُمّاً، وهذا المردود قهري ولا يتنافى واختيار الانسان وأصل إرادته.
* * *
6 ـ التاريخ في نهج البلاغة والروايات الاسلامية:
بما أن نهج البلاغة كتاب عظيم ذا محتوى تربوي غني جداً، وبما أن التربية بلا معرفة، والمعرفة بلا تربية أمر محال، فقد أكد هذا الكتاب على القضايا التاريخية كثيراً.
إن أمير المؤمنين(عليه السلام) عند حديثه عن الحوادث التاريخية يصورها وكأنه يأخذ بأيدي الناس الى مكان الحدث ويريهم فرعون وجنوده ويقتفون آثار مستضغفي بني اسرائيل ومن ثم يشاهدون غرقهم في نهر النيل.
إنه يصور قوم نوح وقوم عاد وثمود تحت تأثير الدمار الشامل الذي خَلَّفَهُ الطوفان والصواعق والزلازل والامطار الحجرية، والناس يشاهدون أخذ هذه الامم الطاغية واللاهية مع قصورهم ومدنهم وبطغيانهم وهلاكهم في طرفة عين بحيث لم يبق إلاّ آثار الخراب والصمت القاتل المهيمن عليها، وكل من سَاحَ في نهج البلاغة مرَّ بهم ورجع بكنز هائل من العلم والمعرفة والخبرة. إن قدرة نهج
[168]
البلاغة في تصور الحوادث قدرة عجيبة حقاً، وكذا الأمر عند بيانه لفلسفة
التاريخ.
وقد شرحنا سابقاً كلام الامام علي(عليه السلام) للامام الحسن(عليه السلام) حول تأثير التاريخ على طول عمر الانسان، طول يمتد بامتداد أعمار جميع البشر من حيث المعرفة والتجربة.
وهناك عبارات جميلة له(عليه السلام) حول جري السنن التاريخية حيث يقول:
«عباد الله إنَّ الدهر يجري بالباقين كجريه بالماضين، يعود ما قد ولّى منه، ولا يبقى سرمداً ما فيه، آخر فعاله كأوّله، متشابهة اموره، متظاهرة أعلامه»(1).
وفي تفسيره للايمان باعتباره ذا أربعة أعمدة الصبر واليقين والعدل والجهاد)، يقول: «اليقين منها على أربع شُعَب، على تبصرة الفطنة وتأوّل الحكمة، وموعظة العبرة وسنة الأولين»(2).
ويقول(عليه السلام) في موضع آخر:
«واعلوا عباد الله انكم وما انتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى
قبلكم، ممن كان اطول منكم اعماراً، واعمر دياراً، وابعد آثاراً، اصبحت
اصواتهم هامدة، ورياحهم راكدة، واجسادهم بالية، وديارهم خالية، وآثارهم عافية، فاستبدلوا بالقصور المشيدة، والنمارق الممهدة، الصخور والاحجار المسندة،
والقبور اللاطئة المُلْحَدة التي بُني على الخرب فناؤها وشيّد بالتراب
بناؤها»(3).
ويقول في خطبة اخرى:
«فاعتبروا بما اصاب الامم المستكبرين من قبلكم. من بأس الله وصولاته ووقائعه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – نهج البلاغة، الخطبة 157.
2 – نهج البلاغة، الكلمات القصار، الجملة 31.
3 – نهج البلاغة، الخطبة 226.
[169]
ومثلاته. واتّعظوا بمثاوى خدودهم ومصارع جنوبهم»(1).
كما يقول في نفس الخطبة:
«فانظرو كيف كانو حيث كانت الاولاد مجتمعة والاهواء مؤتلفة. والقلوب مهتدلة. والايدي مترادفة. والسيوف متناصرة، والبصائر نافذة والغرائم
واحدة، الم يكونوا أرباباً في اقطار الأرضين؟ وملوكاً على رقاب العالمين؟!
فانظروا الى ما صاروا اليه في آخر امورهم، حين وقع الفرقة، وتشتّت الألفة،
واختلفت الكلمة، والافئدة، وتشعبوا مختلفين، وتفرقوا متحاربين، قد خلع الله
عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته، وبقي قصص اخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين»(2).

 

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...