ويقول في خطبة اخرى:
«وان لكم في القرون السالفة لعبرة، أن العمالقة؟ وابناء العمالقة اين
الفراعنة وأبناء الفراعنة(3)؟ اين اصحاب مدائن الرّس(4) الذين قتلوا النبيين، واطفئوا سنن المرسلين، احيوا سنن الجبارين؟ اين الذين ساروا بالجيوش، وحزموا بالألوف، وعسكروا العساكر ومدّنوا المدائن؟(5)».
كما أن الروايات الاسلامية اولت عناية كبيره لهذه المسألة، واعتبرتها أحد المصادر المهمّة للمعرفة وبالأخصّ للمسائل الاخلاقية، وتهذيب النفوس، والالتفات الى واقعيات الحياة.
وقد جاء في رواية أن الامام امير المؤمنين(عليه السلام) عندما كان في طريقه مع
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – نهج البلاغة، الخطبة 192، (الخطبة الناصعة).
2 – نفس المصدر.
3 – العمالقة: أقوام قوية ومتمكنة وجبارة وظالمة كانوا في شمال العراق، وقد فتحوا «مصر» وحكموها لفترة في عهد الفراعنة.
4 – يعتقد الكثير ان اصاحب الرس قوم سكنوا اليمامة جنوب الحجاز، وكان لهم نبي باسم حنظلة، وقال البعض انهم قوم شعيب، ويعتقد بعض آخر أن مدنهم كانت بين الشام والحجاز (يراجع تفسير نمونة الجزء 15 الصفحة 92 للتفصيل الأكثر).
5 – نهج البلاغة، الخطبة 182.
[170]
عسكره الى صفين وصل الى مدينة (ساباط) ثم الى مدينة (بهرسير)(1) (المناطق التي كانت مركزاً لحكومة الساسانيين) التفت احد صحابته فجأة الى آثار كسرى (والملك الساساني المعروف) وانشد البيت:
جرت الرياحُ على مكان ديارهم ***** فكأنّهم كانوا على ميعاد
فقال الامام(عليه السلام): لِمَ لم تقر. هذه الآيات: (كَمْ تَرَكَوا مِنْ جَنّات وَعُيُون وَزُرُوع وَمَ قام كَرِيم وَنِعْمَة كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَاَورَثْناها قَوماً آخَرِينَ فَما بَكَتْ عَلَيهِمُ السَّماءُ وَالاَْرْضُ وَما كانُوا مُنظَرِينَ)(2).
وقد جاء في حديث الامام الصادق(عليه السلام): إنّ داود(عليه السلام) خرج من المدينة وهو يقرأ (الزبور)، وما من جبل أو حجراً وطير أو حيوان وحشي إلاّ ويقرأ معه، وهو مستمر في طريقه حتى وصل الى جبل، يعيش على قمته نبي عابد اسمه
(حزقيل)، أدرك مجيء داود عندما سمع ترتيل الجبال والطيور والوحوش، وعندما سأل داود النبيَّ: هل تأذن لي بالصعود إليك؟ فأجابَهُ النبي العابد: لا، فبكى داود، فأوحى الله الى (حزقيل) بأن لا يوبّخ داود، وأن يطلب من الله تعالى حسن العاقبة، فقام حزقبل وأخذ بيد داود وجاء به الى محله.
فسأله داود: هل عزمت على الذنب يوماً؟
فاجاب: لا.
ثم سأل: هل حصل عندك الغرور والعجب لكثرة عبادتك؟
أجابه: لا، ثم سأله: هل رغبت في الدنيا وهل أحببت شهواتها ولذاتها؟
أجاب: نعم، نعم قد يخطر هذا في قلبي.
فسأله: ماذا تفعل آنذاك؟ أجاب: أدخل في هذا الوادي واعتبر بالذي فيه.
فدخل داود الوادي، فرأى أريكة من حديد وعليها جمجمة متآكلة وعظاماً
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يقول البعض انها مشتقة من الاصل الفارسي أي (بوارد شير) او (دهار دشير) وهي احدى المدائن السبعة التي كانت تقع غرب نهر دجلة (معجم البلدان الجزء 1 الصفحة 515).
2 – بحار الانوار الجزء 68 الصفحة 327.
[171]
رميمة ولوحة مكتوبة، فعرف داود: أن ذلك يتعلق بملك مقتدر حكم سنينَ طويلة وبنى مدناً كثيرة. وقد بلغ به الأمر الى ما تراه … (1).
* * *
آخر الحديث حول التاريخ المعلِّم:
إنَّ ما ذكرناه عن التاريخ كمصدر للمعرفة والعلم مشروط بالمور الآتية:
أولا: أن لا يدرس الانسان التاريخ للتسلية.
ثانياً: أن يدرس العلاقة الحقيقية بين القضايا التاريخية وأعمال الانسان، ولا يحُلل القضايا التاريخية على أساس التبريرات الوهمية كالحظ والصدفة، أو المصير المحتوم أو القضاء والقدر (على التفسير الذي يعتقد به الجاهلون، والذي تُسلب على أساسه قدرة الانسان في الاختيار).
ثالثاً: أن يستنبط القوانين التاريخية الكلية من الحوادث الجزئية، وأن يحقق في اصول ونتائج كل حادثة ثم يجعل نفسه مصداقاً لهذه القوانين ويخرج بالنتيجة.
رابعاً: أن لا يسعى ليجرّبَ الحوادث (التي جربت قبله) بنفسه، وذلك لكي لا يكون مصداقاً لهذا الحديث « من جرّب المجرَّب حلّت به الندامة».
خامساً: أن يكون ناقداً للحوادث التاريخية ومميزاً للمسلَّمات عن المشكوكات والأساطير عن الواقعيات.
وخلاصة الحديث هو أن يتلقى التاريخ كمصدر مُلْهُِم للمعرفة والخبرة في خياته، وليس بشكله المحرَّف.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – بحار الانوار الجزء 14 الصفحة 22 (ملخص الحديث).
[172]
[173]
المصدر الرابع:
الفطرة
والوجدان
والشعور الباطني
[174]
4 ـ الفطرة والوجدان والشعور الباطني
تلميح:
عندما يصل الانسان الى سنّ الرشد، يتعرف على بعض الحقائق من دون معلم كاستحالة اجتماع الضدين أو النقضيضين حيث تكون واضحة عنده.
ويدرك حسن وقبح كثير من الامور، فالظلم عنده قبيح والعدل والاحسان عنده حسن.
وعندما يقول بمعم مشين، يسمع صوتَ رادع باطني يؤنبه على عمله، وعندما يأتي بعمل حسن يشعر بالطمأنينة والرضا النفسي.
يستأنس بالجمال ويحب العلم والمعرفة.
يحس في باطنه ارتباطاً بمبدأ مقدس، وبتعبير آخر: إن في باطنه ما يجرّه ويجذبه الى الله عزّ وجلّ.
وهذا يكشف عن وجود مصدر للمعرفة في باطن الانسان غير المصادر التي قرأنا عنها سابقاً، يطلق عليه «الفطرة»، وتارة «الوجدان» واخرى «الشعور الباطني».
ولتعيين حدود العقل وحدود الفطرة نتأمل الايضاحات الآتية:
إنّ الرُّوحَ ظاهرة عجيبة ذات جوانب وأبعاد متعددة، ندرك بعضها، ونجهل الآخر، كما أن لها نشاطات مختلفة بمحاذاة جوانبها المختلفة.
[175]
وَإن العقل يشكل قسماً من الروح، ووظيفته التفكير، كما أن هناك قسماً آخر وهو الحافظة ووظيفتها حفظ المعلومات وخزنها وتقسيمها وتبويبها واستخراج المراد والمطلوب منها ـ بشكل معجز ـ من بين الملايين من المفاهيم والحوادث والذكريات.
والقسم الآخر هو العواطف أو مركز الحب والعشق والعداء والخصومة والبغضاء.
والقسم الآخر هو الأعمال الباطنية كالاختيار والارادة والعزم والتصميم.
والخلاصة ينبغي القول: إن الروح بحر عظيم ملؤُهُ العجائب والغرائب، وإن القوانين التي تحكمها قوانين متنوعة ومعقدة للغاية.
إلاّ أنه يمكن تقسيم الروح الى قسمين كليين:
1 ـ القسم الذي يتعلق بالتفكير والادراكات النظرية، أي ما يكتسبه الانسان عن طريق الاستدلال.
2 ـ القسم الذي يتعلق بالادراكات البديهية الضرورية، أي ما هو حضوري ومعلوم عند الانسان بلا دليل أو برهان.
وكلما تحدثنا عن الفطرة والوجدان، فان مرادنا هو القسم الأخر من الادراكات.
(الفطرة): وتعني الخلقة الاولى، أي خلق الروح والنفس ممتزجة مع مجموعة من المعلومات الفطرية.
و(الوجدان): ما يجده الانسان في نفسه من دون حاجة لتعلمه.
و(الشعور الباطني): الادراك الباطني للانسان الذي يستلهم منه
الانسان، وعلى أية حال، فان مما لا شك فيه أن هذا الشعور أحد مصادر العلم ومعرفة الحقائق، الذي قد يعبر عنه بـ «القلب» وهو يختلف بوضوح عن «العقل» الذي هو مركز الادراكات النظرية بالرغم من أنهما فروع لشجرة واحدة وثمرتان
[176]
لروح الانسان (فتأمل).
بالطبع، ليس كل ما قيل هنا متفق عليه من قبل الفلاسفة جميعهم، بل أردنا الارشارة الى هذا الموضوع، وسنعيد الاشارة إليه مرّةً اخرى بشكل استدلالي ان شاء الله.
وبعد الالتفات الى هذه الملاحظة، نتأمل في القرآن لنرى كيف يكشف لنا عن هذا المصدر.
* * *
نقرأ أولا الآيات الآتية:
1 ـ (وَنفس وَمَا سَوّاهَا * فَاَلهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها)
(الشمس / 7 ـ 8)
2 ـ (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظالِمُون)
(الانبياء / 64)
3 ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ والأرضِ لَيَقُولَنَّ الله)
(لقمان / 25)
4 ـ (فَإذا رَكِبُوا في الفُلكِ دَعَوا الله مخلصين لَهُ الدّينَ فَلَمّا نَجّاهُم إلى البَرِّ إذا هُم يُشرِكُونَ)
(العنكبوت / 65)
5 ـ (صِبغَةَ الله وَمَنْ أحسَنُ مِنَ الله صِبغَةً وَنَحنُ لَهُ عَابدُون)
(البقرة / 138)
6 ـ (خَلَقَ الإنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيان)
(الرحمن / 3 ـ 4)
7 ـ (عَلَّمَ الإنسانَ مَالَمْ يَعْلَم)
(العلق / 5)
[177]
8 ـ (فَأقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ الله اَلَّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدّينُ القَيِّمُ وَلكِنَّ أكثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُون)
(الروم / 30)
* * *
معاني المفردات:
إنَّ كلمة «الهمها» مأخوذة من مادة «الإلهام» أي ـ كما يصرح به كبار اهل اللغة ـ الشيء الذي يقع في قلب الانسان، ويقول الراغب في مفرداته: «الإِلهام: إلقاء الشيء في الروع ويختص ذلك بما كان من جهة الله وجهة الملأ الأعلى». والروع يعني القلب. اما الرَّوْع فيعني الخوف والانبهار.
ثم استشهد بالآية (فَالْهَمَها فُجُورَه ا وَتَقْواها) كدليل على ما قاله.
وقد جاء في لسان العرب: أنها من مادة (لَهْم) وتعني البلع، والالهام يعني التلقين الالهي، وهو نوع من أنواع الوحي (الوحي بمعناه العام).
ومع الالتفات الى أصل هذه الكلمة يمكن العثور على سبب الاطلاق، وكأن الروح تفتح فم الانسان وتلقي فيه حقيقة بواسطة التعليم الالهي فيمضغها
فمه.
(الفطرة) جاءت من مادة فَطْر، ويعتقد البعض انها في الاصل تعني
«البَقْر» وهو الشقّ(1)، بينما يعتقد البعض الآخر أنها تعني الشق طولا، ثم استعملت بمعنى الخلق، وكأنّ ستار العدم يُبْقر ويُمزّق فتخرج منه الموجودات الحية، كما يقال للعمل المنافي للصوم كتناول الطعام (إفطار)، فيقال: إن ذلك بسبب بِقْر شيء ممتد ومتصل.
ويقال للنبات الذي يفطر الأرض ويبقرها «فُطر» لانه يبقر الارض ويخرج
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – لسان العرب.
[178]
منها، هنا يطلق على حلب الثدي بالأصابع «فَطْر».
كما ان العجين اذا اختمر وصُيِّرَ خبراً اطلق عليه «فَطْر»(1).
وعلى كل حال، فان المراد من هذه المفردة في الآيات هو الخلقة الالهية الاولى، والهداية التكوينية نحو حقائق مودعة في روحِ الانسان وهو مجبول عليها.
وأمّا كلمة (النفس) ـ وكما أشرنا سابقاً ـ فتعني «الروح» وقد يطلق على ذات الشيء «نفس الشي» كما جاء ذلك في القرآن الكريم (ويحذّركم الله نفسه) كما قد جاءت هذه المفردة بمعنى «الدم» و«العين» و«الشخص»(2).
كما أنها قد تطلق اطلاقاً خاصاً على «النفس الامارة» إلاّ أنها جاءت في الآيات هنا بمعنى «الوجدان» الذي يشكل قسماً من روح الانسان.
وكلمة (صِبْغَة) مشتقة من مادة «صَبَغَ» أي طلى لوناً، ويطلق على نتيجة العمل «صبغة»، و«صِبْغ» يعني الطعام الذي يؤكل مع الخبر بحيث يكون الخبز كالصبغة لذلك الطعام، وادعى البعض أنه يعني زيت الزيتون الذي يغمس فيه الخبز ويؤكل.
ويقول الراغب: إن «الصبغة» المذكورة في الآية إشارة الى العقل الذي جُبِلَ عليه الانسان وميّزه عن الدواب، وهو كالفطرة(3).
إن التعبير بالصبغة، كما يقول عدد من أئمة اللغة ـ قد يكون بسبب انَّ «النصارى» يغسلون الوليد بعد اليوم السابع بماء ممزوج بمادة صفراء اللون (غسل التعميد) معتقدين ان هذا الصبغ يطهره وينزهه، والقرآن يصرح لهم: إن صبغة الاسلام والتوحيد أحسن من هذه الصبغة وأشرف.
وعلى هذا، فالتعبير بالصبغة يتناسب كثيراً مع الفطرة والخلقة الاولى،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – كتاب العين، ولسان العرب، ومفردات الراغب.
2 – مجمع البحرين الطريحي، مادة نفس، ومفردات الراغب.
3 – مفردات الراغب، مادة (صبغ).
[179]
خاصة وأن بعض الروايات فسرت الصبغة بـ «الاسلام والولاية»(1).
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
في الآية الاولى بعد أن أقسم الله بالنفس وبالذي سوّاها وما فيها من قابليات، أشار الى المصدر المُلْهِم للمعرفة وهو «الوجدان الاخلاقي»، وقال: إن الله ألهم الانسان المعرفة في مجال التقوى والفجور.
وقد جاء في آية اخرى ما يماثل مفاد هذه الآية، فبعد إشارته الى خلق الانسان قال: وهديناه النجدين.
وينبغي الالتفات هنا الى أن «نجد» ـ في الأصل ـ المكان المرتفع ويقابله «تَهَامة» اي الارض المنخفضة، إلاّ أن النجد هنا ـ بقرينة ما قبل وما بعد الآية، وبقرينة بعض الروايات التي فسرت النجد ـ كناية عن الخير والشر وعوامل السعادة والشقاء(2).
كما ان الآية: (إنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إمّا شاكِرَاً وإمّا كَفُوراً) (الانسان / 3) قد تشير الى نفس المعنى، او على الاقل تندرج «الهداية الفطرية» في المفهوم العام للهداية التي جاءت في هذه الآية.
* * *
والآية الثانية ناظرة الى تحطيم الاصنام من قبل بطل التوحيد ابراهيم الخليل(عليه السلام): ومحاكمة عبدة الاصنام له في بابل، فعندما سُئِلَ: (أأَنْتَ فَعلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إبْراهِيمَ)
(عليهم السلام)(فَعَلَهُ كَبِيرَهُم هذا فَسَئَلُوهُمْ إنْ كانُوا يَنْطِقُونْ).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير البرهان الجزء 1 الصفحة 167 ـ 158.
2 – تفسير القرطبي الجزء 10 الصفحة 7155، ومجمع البيان الجزء 10 الصفحة 494.
[180]
ثم قالت الآية: (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إنَّكُمْ أَنْتُمْ اَلْظالِمُون) أي ظالمون لأنفسهم ولمجتمعهم وربّهم وخالقهم الذي يغدق عليهم النعم.
يعتقد بعض المفسرين: ان عبارة (فَرَجَعُوا اِلى اِنْفُسِهِمْ) تعني لوم احدهم الآخر، إلاّ أن هذا خلاف ظاهر الآية، فالتفسير الاول أصح.
نعم، إنه الضمير الذي يجعل عبدة الأصنام المغرورين يلومون أنفسهم ويوبّخونها.
إن التعبير بـ (ألنَّفْس اللَّوّامَة) في الآية الشريفة: (لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوامَة)(سورة القيامة / 2)، خاصة وان الله قرنها بيوم القيامة، إشارة واضحة الى هذه المحكمة الباطنية والوجدان الفطري.
والآية الثالثة تشير الى مر المشركين، حيث يعرضون عن أتباع آيات الله عندما يُدعون إليها ويصرون على اتباع ما كان عليه آباؤهم، فيقول الله في هذا المجال: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرضِ لَيَقُولَنَّ الله)، وبالرغم من ذلك لم يخضعوا للهِ تعالى، بل لأصنامهم التي صنعوها بأيديهم لجهلهم! (اَلْحَمْدُ للهِ بَلْ اَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ).
وجوابهم على هذا السؤال عن خلق السموات والارض، يمكن ان يكون نابعاً عن «الفطرة»، ويوضّح حقيقة أن الانوار الالهية متأصّلة في الانسان منذ تكوينه فطرياً ولكن الناس غافلون عن هذا الحكم الفطري، فيذهبون عنهُ شططاً.
* * *
وتشير الآية الرابعة الى نفس المفاد الذي جاء في الآية الثالثة، فقد وضّحت التوحيد الفطري الذي يتجلى في باطن الانسان عندما يمرّ بالأزمات والشدائد، ومثال ذلك أن الناس عند ركوبهم السفينة ومواجهتهم الامواج المتلاطمة والزوابع والعواصف يذكرون الله، لانهم لا يجدون احداً يستطيع انقاذهم آنذاك من الشدائد
[181]
غير الله.
فعندما تُرفع ستائر التقاليد الخرافية والاوهام والتعاليم الخاطئة وتتجلى فطرة البحث عن الله، يذكرونه ويدعونه بإخلاص كامل.
وما أن أي يهدأ البحر أو يصلوا الى الساحل، حتى تساورهم الأفكار الملوثة بالشرك مرة اخرى وتستعيد الأصنام وجودها في قلوبهم وتسدل ستاراً على فطرتهم مرة ثانية؟
* * *
والآية الخامسة، بعد ما عَدَّتْ التوحيد دين وملة ابراهيم وانبياء آخرين كإسماعيل واسحاق ويعقوب وموسى وعيسى(عليه السلام) قالت: (صِبغَةَ الله وَمَنْ أحسَنُ مِنَ الله صِبغَةً وَنَحنُ لَهُ عَابدُون).
إنَّ النصارى الذين يعتقدون بالتثليث، ويغسلون أولادهم بغسل التعميد، ويضيفون ـ احياناً ـ مادة صفراء الى الماء الذي يُغسل به، ويشرعون عملهم باسم «الأب» و«الابن» و«روح القدس» يعتبرون هذا العمل مطهراً لهم من الذنوب التي ورثها من آدم(عليه السلام)(1).
إنَّ القرآن أبطل هذه الأفكار جميعها وصرح: إن صبغة الله أحسن من هذه الصِبَغ الخرافية، فسلموا لهذه الصبغة لتطهر أرواحكم من كل شرك وإثم وعبادة للأصنام.
وقد جاء في الروايات ـ كما قلنا سابقاً ـ أن المراد من الصبغة هو الاسلام
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – لقد جاء في قاموس الكتاب المقدس: أن غسل التعميد أحد القواعد المقدسة التي كانت معروفة قبل ظهور المسيح(عليه السلام)، وهو من فرائض الكنيسة، ويستعملون فيه الماء ويثلثون عليه، ويعتبرونه مطهراً من النجاسات ويعتقد الكثير من المسيحيين أن الغسل هذا وجب على اولاد المؤمنين (القاموس الصفحة 257 ـ 258).
[182]
والولاية(1)، وهذا تأكيد على وجود إلهامات فطرية في ذات الانسان.
* * *
والآية السادسة والسابعة تحدثنا بعد الاشارة الى خلق الانسان تحدثتا عن تعليمه البيان وما لم يعلم.
وقد عرّفت آيةٌ اخرى الخالق عزّ وجلّ بأنه الذي علَّم الانسان الكتابة، حيث قالت: (اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) (العلق / 4).
وعلى هذا فهو معلم البيان كما هو معلم بالقلم، وهو معلم الانسان ما لم يعلم، وهذه التعاليم قد تكون تلميحاً الى التعاليم الفطرية المودعة في باطن الانسان بشكل معلومات ملخصة وأولية، وقد تكون تلميحاً للوسائل والأسباب والمقدمات التي جعلها الله في الانسان، والتي تمكنه من اختراع اللغة والخط واكتشاف واقعيات الكون الاخرى.
وعلى المعنى الاول تكون الآيات شاهداً على بحثنا.
* * *
اما الآية الثامنة في البحث فقد تحدثت عن دين الفطرة وأمرت الرسول بأن: (أقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حِنِيفاً فِطْرَةَ الله اَلَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ
الله).
الجميل هنا أن القرآن لم يذكر كون معرفة الله فطرية فحسب، بل ان الدين بجميع أبعاده وجوانبه فطري.
والأمر كذلك بالضرورة، وذلك لتنسيق الموجود بين جهاز «التكوين» وجهاز «التشريع» أي ان ما جاء مفصلا في عالم التشريع، جاء بصورة مجملة في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير الميزان الجزء 1 الصفحة 316، وتفسير الدر المنثور الجزء 1 الصفحة 141.
[183]
عالم التكوين، وعندما يتفق نداء الفطرة مع نداء الانبياء والشريعة، فان هذا التفاق يجعل الانسان في طريق الهدى.
وسنخوض تفصيلا في هذا الموضوع عند بحثنا في التوحيد الفطري في المجلد الثاني ان شاء الله.
* * *
النتيجة:
طبقاً لما قرأناه، فالقرآن المجيد يعتبر «الفطرة» أو «الوجدان» مصدراً غنياً للمعرفة، وقد دعا الجميع ـ بتعابير مختلفة ـ للالتفات الى هذا المصدر لأهميته البالغة.
* * *
إيضاحات:
1 ـ فروع الفطرة والوجدان:
إنَّ المعلومات الفطرية والوجدانية لها فروع مختلفة وأهمها الفروع الأربعة التالية، والجميل أن كل آية من الآيات التي جاءت في أوّل البحث أشارت الى فرع من هذه الفرع، وهي:
1 ـ إدراك الحسن والقبح ـ أي الاخلاق التي يطلق عليها ـ احياناً ـ «الوجدان الاخلاقي»، وتعني أن الانسان يعدُّ كثيراً من الصفات حسنةً مثل «الاحسان» و«العدل» و«الشجاعة» و«الايثار» و«العفو» و«الصدق» و«الامانة» وغير ذلك من الصفات، من دون أن يتعلمها من أحد.
ويعد قبالة هذه الصفات، صفات قبيحة مثل «الظلم والجور» و«البخل» و«الحسد» و«الضغينة» و«الكذب» و«الخيانة» وأمثالها.
[184]
والآية: (فَاَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) تشير الى هذا النوع من التعاليم الفطرية.
2 ـ إدراك البديهيات العقلية: التي تعتبر أساس الاستدلالات النظرية، ولا يمكن اقامة البرهان في أي موضوع من دون الاستناد اليها.
وتوضيح ذلك: أن في الرياضيات مجموعة من القضايا البديهية تنتهي إليها جميع الاستدلالات الرياضية وهي وجدانية، مثل (الكل أكبر من الجزء)، واذا تساوى أحد شيئين متساويين مع شيء آخر، تساوى كلٌّ منهما مع الشيء الآخر، أو اذا أنقضنا مقدارين متساويين من شيئين متساويين أو اضفنا ذلك المقدار الى كلٍّ منهما فالنتيجة تساويهما كذلك.
وكذلك الأمر بالنسبة للاستدلالات العقلية الفلسفية، فلا يمكن الاستدلال من دون الاستناد الى قضية استحالة اجتماع الضدين او النقيضين وغير ذلك مثلا.
ويستخدم القرآن ـ احياناً ـ هذه الاصول المسلّم بها لاثبات قضايا مهمة، كما في قوله: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر / 9) ويقول في آية اخرى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمى وَالْبَصيرُ اَمْ هَلْ تَستَوي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) (الرعد / 16).
3 ـ الفطرة المذهبية ـ أن الانسان يتعلم بعض القضايا والمسائل العقائدية من دون الاستعانة بمعلم او استاذ كمسألة معرفة الله والمعاد وقضايا عقائدية اخرى يأتي شرحها في المجلد الثاني ان شاء الله.
والآية: (فَاِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا الله مُخلِصينَ لَهُ الدِّينَ) تشير الى هذا القسم من المعرفة الفطرية.
ولهذا السبب نرى الايمان بمبدأ مقدس موجوداً على مرِّ العصور، كما أن لدينا قرائن تثبت تجذّر هذا الايمان عند الانسان البدائي كذلك ولا يمكن اتساع هذا المعتقد واستمراره عند البشر عبر مرّ العصور إلاّ اذا كان متجذّراً في فطرة
[185]
الانسان.
4 ـ محكمة الوجدان: إن في باطن الانسان محكمة عجيبة يمكن تسميتها «القيامة الصغرى»، تحاكم الانسان على أعماله، فتشجعه على الحسنات،
وتوبخه على السيئات، ونجد هذه التشجيعات والعقوبات في باطننا جميعاً
(بالطبع مع وجود اختلاف)، وهي نفسها التي نقول عنها تارة: (إن ضميرنا
راض)، وتارة: (إن ضميرنا يؤنبنا) الى حد حيث يسلب منا النوم، بل قد يؤدي ـ احياناً الى نتائج مفجعة مثل الانتحار والجنون والابتلاء بأمراض نفسية والآية: (فَرَجَعُوا اِلى اَنْفُسِهِمْ) تشير الى هذا القسم.
* * *
2 ـ هل توجد معرفة فطرية؟
بالرغم من ان الجميع يشعرون بوجود هذا المصدر في ذواتهم اجمالا، أي يشعرون بوجود مجموعة من الخطابات والالهامات، او بتعبير آخر وجود ادراكات لا تحتاج الى معلم أو استاذ، إلاّ أن بعضاً من الفلاسفة شكك في هذا المصدر، وعلى العموم توجد ثلاث نظريات في هذا المجال:
الف ـ نظرية الذين يعتقدون أن كل ما لدى الانسان من معلومات موجود في باطنه، وما يتعلمه في الدنيا، يتذكره في الحقيقة، لا أنّه يتعلمه من جديد! هذا ما نقل عن افلاطون واتباعه(1).
ب ـ نظرية اولئك الذين يدّعون أن المعرفة بجميع أقسامها عند الانسان فطرية، بالرغم من اذعانهم لِقابلية الانسان على ادراك القضايا المختلفة،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يقول افلاطون: إن الروح قبل حلولها في البدن ودخولها في العالم المجازي كانت في عالم المعقولات والمجردات و«المُثل»، أي انها أدركت الحقائق ونسيتها بمجرد دخولها في عالم الكون والفساد، إلاّ انها لم تنمحِ عنها بالكامل، فالانسان كالظل والشبح فما هو في «المُثل» يتذكره بمجرد الالتفات إليه، فكسب العلم والمعرفة تذكر في الحقيقة، واذا كان الانسان جاهلا منذ البدء فلا يمكنه تحصيل العلم (مسير الحكمة في اروبا الجزء 1 الصفحة 23 ـ نظريات افلاطون).