الرئيسية / القرآن الكريم / نفحات من القران

نفحات من القران

[259]
إنهم يفرحون لهذه اللـحظات كثيراً ، وكأنـهم التقوا بالمراد وعانقوه ، فيصرخون وتعلو اصواتهم، مما يزيد ويفاقم هذه الحالة عندهم، ثم يرمون بحالة شبيه بالاغماء ، وبعدما يصحون ويهدءون من هذه الحالة ، يحكون للناس ما رأوا ظناً منهم أنه كشف.
إنـهم في الحقيقة يسعون نـحو السراب ظناً منهم أنه مـاء ، ورغم عدم وصولـهم الى شيء، يبتلون بأمور بعيدة عن الحق والحقيقة.
وبعبارة مختصرة: لا يمكننا تصديق كل من ادعى الكشف والشهود، وكذا لا يمكننا اعتبار كل تمثل وكل نداء إلهياً واقعياً، وذلك لأن هناك كشفاً شيطانياً.
وقد جاء في حديث للامام علي(عليه السلام) مع حسن البصري: أن الامام(عليه السلام) مر بالحسن البصري وهو يتوضأ فقال: يا حسن اسبغ الوضوء، فقال: يا امير المؤمنين لقد قتلت بالامس اناساً يشهدون ان لا اله الا الله وحده لا شريك له وان محمداً عبده ورسوله، يصلون الخمس، ويسبغون الوضوء. فقال له امير المؤمنين(عليه السلام): قد كان ما رأيت فما منعك ان تعين علينا عدونا. فقال: والله لأصدقنك يا امير المؤمنين لقد خرجت في اول يوم فاغتسلت وتحنطت وصببت عليّ سلاحي وانا لا شك في ان التخلف عن ام المؤمنين عائشة هو الكفر، فلما انتهيت الى موضع من الخريبة ناداني مناد «يا حسن الى اين ارجع فان القاتل والمقتول في النار» فرجعت ذعراً وجلست في بيتي، فلما كان في اليوم الثاني لم أشك ان التخلف عن ام المؤمنين عائشة هو الكفر، فتحنطت، وصببت عليّ سلاحي وخرجت اريد القتال، حتى انهيت الى موضع من الخريبة فناداني مناد من خلفي: «يا حسن الى اين مرةً بعد اخرى فان القاتل والمقتول في النار» قال علي(عليه السلام): صدقك افتدري من ذلك المنادي؟ قال: لا. قال(عليه السلام): ذاك اخوك ابليس، وصدقك ان القاتل والمقتول منهم في النار، فقال الحسن البصري الآن عرفت يا اميرالمؤمنين ان
[260]
القوم هلكى(1).
إن نداءات كهذه أشير إليها في القرآن بصفة وحي الشياطين ، حيث يقول تعالى في سورة الانعام الآية (112): (وكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواً شَياطِينَ الإنْسِ وَالْجِنَّ بَعْضُهُمْ اِلى بَعْض زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورا).
إنها نوع من الامتحان للتمييز بين صفوف المؤمنين وغيرهم، فقد جاء في الآية (121) من نفس السورة:
(وَاِنَّ الشَّياطِيْنَ لَيُوحُونَ اِلى أَوْلِيائِهم)
وللسبب الذي مضى، نرى كتب الصوفيين مليئة بهذا النوع من المكاشفات، مكاشفات غربية وموحشة، ومردوداتها السلبية كثيرة، نشير الى بعض منها هنا بشكل مختصر:
1 ـ كتب محي الدين العربي في كتابه «مسامرة الأبرار» إن الرجبيين لأشخاص مرتضاون برياضات خاصة، ومن صفاتهم أنهم يرون الرافضين (الشيعة) في حالة الكشف في صورة خنازير.
2 ـ وكتب الشيخ عطار في كتابه «تذكرة للأولياء» عن «يزيد البسطامي»: طِفْتُ البيت فترة، وعندما وصلت الى الحق، رأيت أن الكعبة تطوف حولي!… إن الله بلغ بي الى درجة حيث أستطيع أن أرى الخلق جملة بين اصبعي!!(2).
3 ـ وقد جاء في نفس الكتاب، أن يزيد قال: عرض عليَّ الحقُ الفي مقام عنده وفي كل مقام سلطان، وما قبلتُ(3).
إن هذه إدعاءات لم تُسمع من نبي مرسل ولا من إمام معصوم ، بل إن
أدعيتهم ومناجاتهم في جنب بيت الله التي تكون في غاية التذلل والتواضع تكشف عن أن كشفاً كهذا إن لم يكن فهو ـ قطعاً ـ أوهام وتخيلات شيطانية ترتسم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – احتجاج الطبرسي الجزء 1 الصفحة 250.
2 – تذكرة الاولياء الصحفة 102.
3 – تذكرة الاولياء الصفحة 101.
[261]
في أذهان البعض، لأسباب وعوامل مختلفة، أشرنا الى بعضها سابقاً ، وإن سعة هذه الأوهام تتوقف على مدى وطول امنيات الشخص وتخيلاته.
* * *
سؤال:
ثمت سؤال يطرح نفسه هنا، وهو: هل من طريق لتمييز المكاشفات «الرحمانية» عن «الشيطانية» و«الحقيقية» عن «الوهمية» أم لا؟
* * *
الجواب:
نعم توجد ثلاث علائم تتميز بها ـ اجمالا ـ المكاشفات الشيطانية عن الرحمانية، وهي: إن الرحمانية اضافة الى كونها يقينية وقطعية تقترن بمستوى عال من الايمان واليقين والمعرفة والاخلاص والتوحيد والعمل الصالح. بينما تفتقد المكاشفات الشيطانية هذه المواصفات، وعلى هذا الأساس فلا اعتبار يقول من يدعي المكاشفات الرحمانية وهو يفتقد هذه المواصفات.
ولقد قرأنا في رواية مضت أن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «العلم نورٌ يقذفه الله في قلب من يحب، فينفتح له، ويشاهد الغيب، وينشرح صدره فيتحمل البلاء، قيل: يا رسول الله وهل لذلك من علامة؟ قال: التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله».(1)
ثم إن المكاشفات الحقيقية تتفق دائماً مع الكتاب والسنة، وفي نفس الاتجاه الذي يتجه إليه كلام الله والمعصومين (عليهم السلام)، ولا تميل بقدر لأنملة عن جادة الاطاعة الربانية، وغير ملوّثة بأصغر إثم أو ذنب.
وثالثاً، إن محتوى المكاشفات الحقيقية تتفق دائماً مع العقل اتفاقاً كاملا، وتكون بعيدة عن الامنيات والأوهام غير المعقولة ، فالذي يقول: «إني رأيت
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير الصراط المستقيم الجزء 1 الصفحة 267.
[262]
الرافضية ـ مكاشفة ـ كالخنازير»، في الحقيقة رأى نفسه في مرآة ذاته. والذي يقول: «عندما وصلت الى الحق، فرأيت بيت الله يطوف حولي» فانه مُصاب بوكع في رأسه، وشخصاً كهذا يرى نفسه مستغنياً عن الطواف، ويرى الطواف أدنى من شأنه، بينما الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بعظمته لم ير نفسه مستغنياً عن ذلك، وقد حج حتى في آخر سنة من عمره الشريف ودى المناسك.
وآخر الحديث في الكشف والشهود هو هذا:
لا يمكن عدّ الكشف والشهود كمصدر عام للمعرفة مثل «العقل» و«الحس» و«التاريخ» بل انه مصدر خاص، وله شروط ومواصفات صعبة (دقِّق).
* * *
[263]
حُجُب المعرفة
وآفاتها
[264]
[265]
حُجُب المعرفة وآفاتها
تمهيد:
توقفنا حتى الآن ـ في طينا الطُرُق العلم والمعرفة ـ في محطات واجتزناها.
لقد قبلنا وجود واقعيات خارج اطار الذهن، وقبلنا كذلك امكانية إدراك تلك الواقعيات الى حد ما، وقد عرفنا بدقة مصادر المعرفة الستة.
كما علمنا أن خمسةً من مصادر المعرفة أي «الحس» و«العقل» و«الفطرة» و «التاريخ » و « الـوحي » عـامة ويستطيع الـجميع الاستعانة بها للوصـول الى المعرفة المرادة، إلاّ أن المصدر السادس وهو الشهود الباطني مصدر خاص بفريق من المؤمنين وأولياء الله، ولا يعم الجميع.
بقي محطتان ينبغي العبور منهما للوصول الى المراد ، الاولى « مواضع طرق المعرفة »، والاخرى «ممهدات المعرفة»، والبحث الآن يصب في الموانع.
مما لا شك فيه : ان العين لوحدها لا تكفي لرؤية الأشياء والأشخاص، بل ينبغي أن لا يكون هناك حجاب يحول دون الرؤية ، فان كان هـناك دخان أسود أو غبار أو ضباب غليظ بيننا وبين الشيء المراد رؤيته فانّا لا نرى ما أمامنا وحوالينا القريب مـنّا ، فضلا عن البعيد ، كذا الأمر بالنسبة للشمس فلا يمكن رؤيتها إذا حالت الغيوم بينها وبيننا رغم نورها الساطع.
إذا لبس شخص نظارة سوداء ، فطبيعي أن لا يرى شيئاً ، واذا لبس نـظارة
[266]
ملونة فانه سيرى الاشياء ملونة كذلك ( حسب لون نظارته )، وإذا كان عدستا نظراته غير مصقولتين جيداً فانه سيرى الاشياء معوجة ، واذا كان شخص مبتل بمرض اليرقان فانه سيرى الأشياء صفراء، وإذا كان أحولا فانه سيرى صوراً لا تتطابق مع الواقع.
وأمثال هذه الموانع بالضبط قد تحصل للعقل والفطرة ، وقد تحصل موانع في فهم التاريخ وحتى الوحي وكلمات المعصومين(عليهم السلام)، فقد يُساء فهمه لنفس الموانع والحجب التي تحصل للانسان في مصادر المعرفة الاخرى، ومن هنا نفهم أهمية بحث موانع المعرفة وندرك أهمية العلم بها للوصول الى المعرفة.
وبما أن القرآن منطلق بحثنا في التفسير الموضوعي، فنسعى لمعرفة الموانع والحجب التي ذكرت فيه بالدرجة الاولى، لأنه هو أساس بحثنا.
بَحَثَ القرآن موانع المعرفة بنحوين: الاول بحوث كلية و «منذرة» والثاني: بحوث جزئية و«تعليمية»، ونذهب الآن الى البحوث الكلية.
* * *
حُجُب المعرفة:
نصغي خاشعين أولا الى الآيات التالية:
(اَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سَوءُ عَمَلِهِ فَرآهُ حَسَناً)
(فاطر / 8)
2 ـ (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُؤا يَعْمَلُونَ)
(الانعام / 43)
3 ـ (فَأمّا الَّذِيْنَ فِي قُلُوبِهِمْ زِيغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ
الْفِتْنَةِ)
(آل عمران / 7)
4 ـ (كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)
[267]
(المطففين / 14)
5 ـ (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِيْنَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)
(الحج / 53)
6 ـ (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِم أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفي آذانِهِمْ وَقْرَاً)
(الاسراء / 46)
7 ـ (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهَمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا ما
يُؤْمِنُون)
(البقرة / 88)
8 ـ (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِم فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ)
(الاعراف / 100)
9 ـ (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ)
(التوبة / 87)
10 ـ (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصارِهِمْ
غُشَاوَةٌ)
(البقرة / 7)
11 ـ (أَفَرَأَيْتَ مَنِ التَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْم وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشاوَةٌ)
(الجاثية / 23)
12 ـ (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفالُها)
(محمد / 24)
13 ـ (اُنَّها لا تَعْمَى الأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتي فِي
الصُّدُورِ)
(الحج / 46)
14 ـ (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْينٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ
[268]
آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالاَنْعامِ بَلْ هُمْ اَضَلُّ اُولئِكَ هُمُ
الْغافِلونَ)
(الأعراف / 179)
* * *
شرح المفردات:
قبل كل شيء ينبغي الخوض في البحث عن المفردات الجميلة التي استعملت في الآيات السابقة التي أشارت الى حجب المعرفة وموانعها، لأن كلا منها تشير الى مرحلة من مراحل انحراف ذهن الانسان وحرمانه من المعرفة، فتبدأ بالمراحل الأضعف، وتنتهي بمراحل أشد وأقوى من الحرمان بحيث تسلب الانسان قدرته على التمييز، بل تصوّر له الحقائق بالعكس فيرى الشيطان ـ من جرائها ـ مَلَكاً بريئاً، والقُبح حُسناً، والباطل حقاً!
* * *
إنّ «زيغ» تـعني ـ كما يقول كثير من أئـمة اللغة ـ الانـحراف ، أو الانـحراف عن الحق والحقيقة، ولهذا جاء في القرآن: (رَبّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا)(1).
و« رَانَ » من مادة « رَيْن » وهو الصدأ الذي يـصيب بعض الفلزات هذا ما قاله الراغب في مفرداته، وقد قال بعض أهل اللغة: « إنّه يشر أحمر يرتسب من الهواء ويظهر على بعض المعادن مثل الحديد». وهذا الصدأ علامة للتفسخ والتلف وزوال شفافية ولمعان الفلز.
وقد فسر البعض هذه المفردة بـ «غلبة أمر على أمر آخر» أو «الوقوع فيما لا مخرج منه».
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – آل عمران: 8.
[269]
وقد قيل للشراب «رَيْنه» لانه يتغلب على العقل(1).
«الوَقْر» هو الثقل في السمع بدرجة يستصحب السمع بها.
أمّا «الوِقْر» فهو الثقل الذي يوضع على ظهر الانسان أو رأسه، كما يقال «وِقْر للحمل الثقيل، ولهذا قيل لصاحب العقل «ذي وقار».
« الغشاوة » تطلق على كل شيء غطّى شيئاً آخر ، ومن هذا الباب قيل
للستارة غشاوة، وقد اُطلق، «غاشية» على يوم القيامة من حيث ان الخوف الناشيء منها يغطي جميع الناس ويخيّم عليهم، وقد اطلقت هذه المفردة على الليل الأظلم كذلك لأنه كالستار يغطي الأرض ، كما اطلقت على « الخيمة »
كذلك.
« أكِنة » جمع كِنان ، وفي الاصل تعني غطاء يُستر به شيء ، و « الكِنّ » يعني الوعاء الذي تحفظ به الأشياء، وقد أطلقت هذه المفردة على البيت أو على أي شيء يحفظ الانسان من الحرارة والبرودة، وجعل الأكِنة على القلوب يعني: سلب قدرتها في التمييز.
«الغُلْف» جمع «أغلُف» ومن مادة «غِلاف» وتعني غلاف السيف او غلاف أي شيء آخر، و«قلوب غلف» تعني قلوباً لا تفهم ولا تعي شيئاً، وكأنها مُغلَّفة.
« قَسَتْ » من مادة « قَسْوَة » ، وَالقساوة تعنى الصلابة والغـلظة ، ويـقال للدراهم الزائفة « قسّي »، والقلوب القاسية هي الصلبة والغليظة تجاه الحق والعدالة.
و« نَطْبع » من مادة « طَبْع » ويعني الختم النقش، ومن هذا الباب تستعمل المفردة هذه في مجال المسكوكات الذهبية والفضية ، ويقال للخاتم الذي تختم به الكتب والرسائل طابع، وعندما تستعمل هذه المفردة في مجال العقل فتعني أنه مُغطَّى ومختوم عليه فلا يفهم ولا يعي شيئاً ، وكأن أبوابه مغلقة ومختوم عليها ، أما مفردة « طَبَع » فتعني الصدأ الذي يعلو السيف كما تطلق على المعاصي والذنوب
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير الفخر الرازي ذيل الآية 14 من سورة المطففين والمنجد مادة (رين).
[270]
التي تعلو القلب وتغطيه.
و« الخَتْم » يعني الانتهاء والفراغ من الشيء ، وبما أن الرسائل تختم عند الفراغ منها ، قبل لوسيلة الختم خاتم، وفي الماضي كان كثير من الناس ينقشون أسمائهم على نصوص ما يتختمون به ، فيختمون بها الرسائل ، ولهذا اُطلق على خاتم اليد خاتماً.
وكان وما زال العرف ( اذا ارادوا أن يغلقوا بيتاً أو صندوقاً بحيث لا يفتحه أحد) يغلقون الباب أولا بحبل أو قفل ، ثم يصبون مادة لصقة أو طين لزج على القفل أو الحبل ثم يختمون على تلك المادة ، بحيث اذا أراد شخصٌ فتح الباب أو الصندوق اضطرَّ لأن يكسر الختم.
إن استعمال القرآن لهذه المفردة في مجال العقول ، إشارة الى انها عقول
مقفلة ومختوم عليها ولا تعي شيئاً بدرجة لا يمكن طريق فيها نحو العلم والمعرفة.
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
4النفوذ التدريجي لآفات المعرفة:
(الانحرافات والرين والأمراض والأكنة والأقفال):
كما قلنا سابقاً: إن أهمية بحث «موانع المعرفة» تستدعي عرض الموضوع في مرحلتين:
المرحلة الاولى: ونبحث فيها ـ اجمالا ـ عن وجود الموانع والحجب وكيفية تأثيرها على العقل، وكيفية تلوث مصادر المعرفة بها تدريجياً، الى درجة تنتهي الى تعطيلها.
المرحلة الثانية: ونبحث فيها عن جزئيات وخصائص كل من هذا الموانع والآفات وللقرآن بحث واسع وجذّاب في هذا المجال.
وتذهب في البداية الى المرحلة الاولى، ومما تجدر الاشارة إليه، هو ان القرآن تحدث عن موانع المعرفة والآفات ونفوذها التدريجي والغامض، بشكل حيث
[271]
عرّف سالكي طريق العلم، والمعرفة بها تعريفاً كاملا، وأنذرهم كراراً بأن لا يفنوا عمرهم ساعين نحو السراب ظناً منهم أنه ماء، وبعد سنوات من السعي الحثيث ينتهون الى الباطل.
* * *
والآن نبحث معاً الآيات المذكورة:
الحديث في الآية الاولي والثانية يدور حول تزيين الاعمال، فتارة يزينها الشيطان للانسان (كما جاء ذلك في الآية الثانية) وتارة تكون ذهنيات الانسان ونفسه أو عوامل اخرى هي التي تزين للانسان سوء أعماله (كما جاء ذلك في الآية الاولى، حيث ان العفل فيها مبني للمجهول) فقالت: (اَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سوء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فإن الله يُضلُّ مَنْ يَشاء وَيَهْدي منْ يشاء) فان الاول يتجه نحو الهاوية والثاني نحو الصراط المستقيم، واذا ما صدر منه عملٌ سيءٌ أسرع الى التوبة وجبران ما عمل.
وتضيف الآية الثانية: إن قلب الانسان يقسو في المرحلة الاولى، ثم يتأهل لتقبل وسوسة الشيطان فتتمثل الأعمال السيئة حسنةً أمامه، ومن هنا نرى بعض الناس غير نادمين على أعمالهم السيئة، بل قد يفرحون ويتباهون بها، ويصرون على منطقيتها وصحتها.
وقد حصل هذا الأمر لأخوة يوسف، فعندما ألقوه في البئر وجاءوا أباهم بقميصه ملطخاً بدم كاذب ادعوا أكل الذئب له، وانهم صادقون في كلامهم.
فأجابهم أبوهم: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) (يوسف / 18).
أي ظننتم أنكم أحسنتم عملا بهذه الجـريمة ، وانكـم ستحلون مـحل
يوسف في قلبي، وأن يوسف انتهى أمره الى الأبد، غافلين عن أنكم تهيؤن
[272]
بعملكم هذا مقدمات عزه وسلطانه، وان مكانه سيبقى فارغاً في قلبي حتى أراه مرة اُخرى.
وممّا يستحق الاشارة إليه هو ان القرآن ينسب تزيين الأعمال تارة للشيطان وتارة لنفس الانسان، وتارة يأتي التزيين في صيغة فعل مبني للمجهول وتارة ينسبه الى الله تـعالى كما جـاء ذلك في الآية ( 4 ) من سورة النحل: ( اِنَّ الَّذِينَ
لا يُـؤْمِنُؤنَ بـِالآخِرَةِ زَيَّنـا لَهُمْ اَعمـالَهم) ، وهذه ترجع الى أن مـقدمات هذا الأمر تبدأ من نفس الانسان، فيتمسك بها الشيطان ويفعل فعلته ، وبما أن الله سبب الأسباب وخالق العلل والمعلولات فتنسب إليه نتيجة الأعمال، وتقتضي
حكمته بأن يبتلي البعض بمصير كهذا وما أصعب حال الذي تتمثل السيئات أمامه حسنات!
* * *
وقد تحدثت الآية الثالثة عن المراحل الاولى لانحراف القلب، وبعد
تقسيمها للآيات الى محكمات (وهي ذات المفاهيم الواضحة) ومتشابهات (وهي ذات المعاني المعقدة) قالت: (فَأَمّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُؤنَ ما تَشابَهَ مَنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنةِ وابتغاءَ تَأويلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأويلَهُ إلاّ الله والراسخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا)، فالراسخون في العلم يفسرون المشتشابهات بالمحكمات، واما الذين في قلوبهم زيغ فيأخذون بالمتشابهات ويفسرونها برأيهم ابتغاء الفتنة.
إنهم يتمسكون بما تشابه من القرآن لتبرير نواياهم غير الخالصة، ولهذا
نرى كثيراً من المنافقين وأصحاب البدع وأتباع المذاهب المنحرفة يستغلون صفاء قلوب المخلصين والمؤمنين بآيات الله بالكامل ، ويبررون بدعهم بالاستعانة بـ « التفسير بالرأي » والاستعانة بالآيات المتشابهة. وبتعبير آخر: بما
[273]
أن قلوبهم وأفكارهم منحرفة فيرون آيات الله منحرفة ايضاً، كالمرآة المعوجة تنعكس فيها الصور معوجة.
* * *
والآية الرابعة تشير الى الصدأ والرين الذي يعلوا القلوب ، فإنه كالغبار الذي يـعلو القلوب بسبب الذنوب والمعاصي ، فيتراكم الغبار عليها حتى تتحجر ، ويغطي الصدأ القلب كله، حيث قالت الآية: (كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِم
ما كانُؤا يَكسِبُون)فلا عجب في عدم تمكّنهم من رؤية الحقيقة.
* * *
وتحدثت الآية الخامسة عن تفاقم الحالة السابقة وتبدلها الى مرض باطني، فبعد إشارتها الى الالقاءات والوساوس الشيطانية حتى للانبياء والمرسلين قالت: (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِيْنَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ).
نعم، إن هذه القلوب التي لا تستلذ بطعم الحقيقة، بسبب مرضها، وحلاوة الحقيقة عندما كالمرارة، مؤهلة لوسوسة الشياطين.
ومما يلتف النظر هنا أن جملة (فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ). تكررت اثنا عشر مرة في القرآن، مما يكشف الأهمية التي أولاها الله لهذه المسألة، مع الالتفات الى أن أغلب هذه الآيات عنت المنافقين وصُرّح بذلك في عدد منها(1).
إلاّ أن المرض جاء في بعض من هذه الآيات بمعنى «الشهوات والميول والهوى»، كما هو الحال في الآية (32) من سورة الاحزاب، حيث يقول فيها تعالى: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَولِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ).
وعلى أية حال ، فان المستفاد من الآيـات هو أن الانسان كما يصاب جسمه بامراض، كذلك روحه فانها قد تصاب أمراض سببها «النفاق» تارة و«الاهواء والميول» تارة اخرى، وتغيّر عند عروضها ـ ذائقة روح الانسان بالكامل، كما
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الانفال: 49، والاحزاب: 12 و 32.
[274]
نرى ذلك في أمراض الجسم فقد تُغير مزاجه بشكل تجعله يستلذ بالأغذية الشاذة والكريهة ولا يستلذ بالأكلات اللذيذة والمفيدة، فان انساناً كهذا غير قادر على إدراك الحقائق ووعي الامور وفهمها.
ومن الـمؤسف أنّهم كما استمروا في طريقهم كلـما تفاقـم عندهم المرض ،
فاذا كانوا في مرحلة الشك. فسيتفاقم عندهم ويشتد ويصل تدريجياً الى مرحلة الانكار ومن الانكار الى مرحلة أخطر وهي الاستهزاء ومخالفة الحق، يقول القرآن في هذا المجال: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمْ الله مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (البقرة / 10).
* * *
تحدثت الآية السادسة عن جعل الأكنة والحجب على القلوب، وليس حجاباً واحداً بل حُجب وأكنة وذلك للحيلولة دون فمهم القرآن، حيث جاء فيها: (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِم أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِم وَقْرَاً).
ذكر بعض المفسرين أن التعبير بالأكنة يدل على تعدد الكِنان(1). ومما لا شك فيه أنه لم يجعل وقر في آذانهم الظاهرية بل الروحية كي لا يسمعون من الحق شيئاً، كما لم تجعل الأكنة على القلوب التي هي وسيلة نضح الدم في الأوعية، بل جعلت الأكنة على أرواحهم وعقولهم.
وقد وقع كثير من المفسرين ـ عند الاجابة على هذه المسألة ـ في إشكال، فتارة قالوا: انها معجزة حيث كان الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يختفي عن انظار اعدائه المعاندين، فلا يكادون يسمعون شيئاً من كلامه، وذلك كي لا يؤذوه(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتارة قالوا، إن الله يمنع لطفه عن اشخاص كهؤلاء فيتركهم لحالهم، وهذا هو معنى جعل الأكنة على القلوب والوقر في الآذان.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – روح المعاني الجزء 15 الصفحة 82.
[275]
إلاّ أن ظاهر هذه الآية ( التي تماثل آيات اخرى من القرآن ) شيء آخر ،
وفي الحقيقة إن هذه استعمالات مجازية في حق المعاندين والمعصبين والمغرورين والغارقين في الاثم، وبتعبير آخر: ان حرمانهم من إدراك الحقيقة نتيجة لـصفائهم وأفعالهم القبيحة ، فقد جـعل الله هذه الميزة في هذه الأعـمال ، فهي كخاصية القتل بالنسبة للسلم، فلا يُلام خالق السم والنار إذا فتناول شخص سماً أو ألقى نفسه في النار فمات ، فانه في مورد كـهذا ينبغي لوم القائم بالعمل فقط.
* * *
وقد نقلت الآية السابعة ما كان يقوله اليهود للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الانبياء الاخرين، حيث كانوا يقولون: (وَقالُوا قُلُوبنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا ما يُؤْمُنُون)، نعم لعنهم الله لكفهرم، وأبعدهم عن رحمته، وإن اشخاصاً كاليهود كيف يمكنهم استذواق حلاوة الحقيقة.

 

شاهد أيضاً

الثورة الإسلامية والغزو الثقافي

النمط من إدراك المصالح والمفاسد البشرية والأخلاق الاجتماعية على العالم أجمع، وعلى الجميع أن يذعنوا ...