الرئيسية / القرآن الكريم / نفحات من القران

نفحات من القران

قد يكون التعبير بـ «الغلاف» يختلف عن التعبير بـ «الأكنة»، وذلك لأن الغلاف يستر المغلَّف ويغطيه من الجهات، بينما يغطي الستار جهة واحدة من المستور، وبتعبير آخر: تارة تعُطّل الموانع مصادراً واحداً من مصادر المعرفة كالفطرة لوحدها أو العقل لوحده، وتارة اخرى تعطل جميع المصادر وتجعلها في غلاف يحول دون المعرفة.
نعم، كلما تلوّث الانسان بالذنوب والفساد أكثر ابتعد عقله وروحه من المعرفة وحُرِم منها اكثر.
* * *
وتحدثت الآية الثامنة والتاسعة عن الطبع على القلوب الذي يحول دون
[276]
المعرفة، وقد اعتبرت الآية الثامنة الطبع سبباً لعدم السمع (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ)، واعتبرت الآية التاسعة الطبع سبباً لعدم الفقه والفهم (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ)، والمراد في الموردين واحد، فكما قلنا: إن المراد من عدم السمع هو عدم الادراك والوعي والفهم.
وهذه المرحلة أشد من المراحل السابقة، فالمرحلة الاولى هي جعل الاكنة على القلوب، ثم الغلاف عليها، وفي النهاية يطبع عليها للحيلولة دون نفوذ أي شيء فيها، كما ذكرنا ذلك في بحث شرح المفردات.
طبعاً: إن ابتلائهم بهذا المصير ليس اعتباطياً، بل لأسباب أشارت إليها لآية السابقة حيث قالت: (اِذا أنزلت سُورةٌ أن آمِنوا بالله وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتأذَنَك أُولُوا الطوْل مِنْهُمْ وَقالُؤا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ القاعدِين رضوا بأن يكونوا مع الخوالِف وَطُبع عَلى قُلوبِهم فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ).
إذن إعراضهم عن الجهاد وتـخلفهم عـنه هـو السبب في الـطبع على
القلوب.
وآية اخرى أشارت الى سبب آخر من أسباب الطبع، حيث قالت: (أوَلَمْ يهدِ لِلَّذينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِنْ بَعد أهلها أنْ لَو نَشاء أصبْناهُم بِذُنُوبِهِم) أي انهم يذنبون رغم رؤيتهم وعملهم بأحوال السابقين وابتلائهم بالعذاب الالهي من جراء ذنبوهم، فطبع على قلوبهم.
ومما يذكر هنا ان الطبع جاء في الآية الثامنة بصيغة المضارع «نطبع» وفي التاسعة بصيغة الماضي «طبع» وهذا تلميح الى أنَّ الطبع نتيجة سوء أعمالهم وتصرفاتهم.
يقول بعض المفسرين : إن المراد من « الطبع » في مثل هذه الآيات هو
نفس السبك والنقش الذي يستخدم للدراهم والمسكوكات، وهو نقش ثابت
[277]
وباق، لا يتغير بسهولة(1)، فانَّ نَقْشَ الكفر والنفاق والاثم نُقِشَ على قلوبهم فلا يمحى بسهولة.
* * *
وتحدثت الآية العاشرة والحادية عشرة عن «الختم» وكما قلنا سابقاً في شرح المفردات: إن الختم يعني الانتهاء والفراغ من شيء، وبما أن الرسائل تختم عند الفراغ منها استعملت هذه المفردة هناك ايضاً، وختم الشيء قفله وشده بحيث لا يمكن لأحد فتحه، والمراد من الختم على القلوب والأسماع والابصار في الآيات، هو سلب قدرتها عن التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر وذلك بسبب أعمال أصحابها وتصرفاتهم، ولهذا يذكر القرآن في الآية السابقة: (اِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ ءأنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)
(البقرة / 6).
المسلم به هو ان هذا الخطاب لا يعم الكافرين كلهم بل يخص المتعصبين والمعاندين منهم، أي اولئك الذين عرقوا بذنوبهم الى درجة حيث أصبحت قلوبهم ظلماء، والاّ فالنبي أُرسل مبشراً ومنذراً للكافرين والمنحرفين.
والـجدير ذكره هنا هو أن الآيات تحدثت عـن الختم على الابصار والسمع كما تحدثت عن الختم على القلوب، وهذا تلميح منها الى أن السمع والبصر قد يتعطلان، أي قد يتعطل الادراك الحسي كما يتعطل العقلي، وكما تعلم ان أغلب العلوم البشرية تحصل بواسطة هذين الحسين، وحتى حقانية الوحي ودعوة الانبياء تكتشف بهما، ومع تعطلهما فان طرق الهداية والنجاه ستغلق أمامهم، وهذا من سوء أعمالهم بأنفسهم، ولا يستلزم جبراً كما يدعيه بعض الظانين.
وقد جاء هذا التعبير في مجال الطبع كذلك، حيث يقول تعالى في الآية (108)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير المنار الجزء 9 الصفحة 33.
[278]
من سورة النحل: (اُولئِكَ الَّذِينَ طَبعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ
وَأَبْصارِهِمْ).
والآية التي سبقت الاخير أشارت الى أن هذا الامر ليس عاماً وشاملا لجميع الكفار، بل يختص بمن شُرِح صدره لكفر، حيث يقول في الآية (106) من نفس السورة: (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً).
* * *
وقد تحدثت الآية الثانية عشرة عن أقفال القلوب التي قد تكون أشد من الختم(1)، حيث قالت: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفالُها) أي أن آيات القرآن تنفذ في القلوب ولو من نوافذ صغيرة، وذلك لأن منطق القرآن هو البيان البديع، والبلاغة في التعبير، والعمق والدقة في التحليل، وهو نور وضياء خاص ينفذ في قلب كل مؤهل ولو بأقلٍّ تأهيل، ويستحوذ على القلوب ويهز الضمائر، رغم هذا فانه لا ينفذ في قلوب هؤلاء ولا يهز ضمائرهم أبداً، وذلك لانغلاق قلوبهم.
إن «أقفال» جمع «قفل» ومن مادة «قُفول» ويعني الرجوع، وبما أن كلَّ من أتى باباً مقفوله رجع استعملت هذه المفردة في هذا المجال.
إنَّ التعبير بـ « الاقفال » قد يكون اشارة الـى تعدد أقفال القلب بحيث اذا ما فتح قفل بقيت اقفال اخرى، وهذه في الحقيقة أسوء مرحلة وأشدها من مراحل حرمان ادراك الحقائق.
ويلاحظ هنا عدم اضافة «قلوب» الى الاقفال بل جاءت بصيغة النكرة، وكأن هذا إشارة الى أن هذه القلوب ليست لهم، والأعجب من هذا هو اضافة «الأقفال» الى «القلوب» وكأنّ قلوبهم أهل للاقفال فقط لا لشيء آخر.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – وقد أشار الفخر الرازي في تفسيره الى هذا الأمر.
[279]
* * *
وفي الآية الثالثة عشرة تعبير يهز الضمائر حيث يقول تعالى: (اِنَّها لا تَعَمَى الأَبْصارُ وَلْكَنْ تَعَمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج / 46)، أي ان الحاسة الباصرة اذا فقدت فهذا ليس بعمى، لإمكان أن يسد العقل اليقظ فراغها، وانما الشقاء والبؤس والتعاسة في القلوب اذا عميت، فعمي القلوب أكبر حاجب عن إدراك الحقيقة، والانسان بنفسه يعمي قلبه، ولقد أثبتت التجربة ان الانسان إذا ما جعل عصابة على عينيه أو مكث في ظلام لمدة طويلة، فان سيفقد باصرته تدريجياً، كذلك الأمر بالنسبة للذين يغمضون عيون قلوبهم عن الحقائق، أو يمكثون مدة طويلة في ظلمات الجهل والغرور والإثم فان قلوبهم ستعمى، وتكون غير قادرة على إدراك أي حقيقة.
يُشكِكُ البعض أنه لا يمكن أن يراد من القلب (الذي في الصدر ويضخ الدم الى جميع أعضاء البدن) العقل والروح.
إلاّ أنه بملاحظة استعمال « الـصدر » بمعنى الـذات والفطرة يتضح لـنا أن المراد من (القلُوبُ الِّتِي فِي الصُّدُورِ) هو الادراك العقلي المودع في طبيعة الانسان.
إضافة الى هذا، فان القلب أول عضو في بدن الانسان يتأثر بعواطف وأحاسيس وادراكات الانسان، نلاحظ ان اتخاذ قرار مهم ، أو حصول حالة غضب شديدة ، أو الاحساس بالحب القوي تجاه شخص ما يُزيد من دقات القلب ، فإذا استعمل القلب الظاهري كناية عن العقل ، فلأجل العلاقة الوثيقة التي بينه وبين الروح(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – للمزيد من العلم راجع (التفسير الأمثل) الجزء 1 ذيل الآية 7 من سورة البقرة والجزء 14 صفحة 131.
[280]
* * *
وقد تحدثت الآية الرابعة عشرة والاخيرة عن آخر مرحلة لحرمان الانسان من المعرفة، والتي يتعطّل فيها العقل والفطرة والعين والاذن عن العمل بالكامل، فيهوى الانسان الى مستوى الانعام بل أضلّ.
والآية تلميح الى فريق من اهل النار وكانهم خلقوا لأجلها لا لشيء آخر:
(لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُؤنَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالاَنْعامِ بَلْ هُمْ اَضَلُّ اُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)
وعليه، فانهم فقدوا «هويتهم الانسانية»، وأغلقوا أبواب الرجوع على أنفسهم، فهووا من قمم السعادة السماوية المعدة لهم الى شقاء جهنم التي أُعدت لأولئك الذين غلقوا جميع أبواب المعرفة على أنفسهم، وهو مصير صنعتهُ نفوسهم وذنوبهم وعصيانهم.
* * *
النتيجة الأخيرة:
إن في القرآن الكريم نماذجاً كثيرة تشبه الآيات الاربعة عشرة التي ذكرناها في أول هذا الفصل، وانتخبنا هذه الاربعة عشرة للمواصفات التي تتحلى بها، وقد انتهينا الى حقيقة واضحة وهي أنه قد تعرض آفات لمصادر المعرفة بالخصوص العقل والفطرة والحس، وبعض تلك الآفات خفيفة طفيفة، وبعضها شديدة، وبعضها بدرجة من الشدة حيث تترك الانسان في ظلمات مطلقة تمنعه من استيعاب أوضح الحقائق الحسية.
وقد سعينا لمتابعة هذا الانحراف التدريجي لجميع مراحله مع الاستشهاد
[281]
بآيات القرآن، ولا ندعي أن الترتيب الطبيعي لهذا الانحراف هو نفس الترتيب الذي جاء في الآيات عيناً، بل نقول: إن الآيات المذكورة قد بيّنت نفوذ الآفات في جميع.
وما أجمل تعبير القرآن في هـذا المجال ، ومـا أدقه ؟ فتارة تحدث عن العوامل الخارجية مثل « تزيين الشيطان » وتـارة تحدث عن انحراف القلب والفكر.
وتارة عن صدأ القلوب.
وتارة عن تحول هذا الانحراف الى مرض مزمن.
وتارة عن الأكنة المجعولة على القلوب.
وتارة عن تغلُّف القلوب بالكامل.
وتارة عن الطبع على القلوب والنقش عليها.
وتارة عن وضع القلوب في أوعية وختم تلك الأوعية.
وتارة عن تجاوز الأكنة القلوب لتشمل السمع والبصر.
وتارة عن تقفل القلوب.
وتارة عن العمى الكامل.
وأخيراً عن سلب الانسان هويته الانسانية وإسقاطه الى درجة الأنعام بل درجة أدنى منها.
أما دواعي هذه المآسي والمصائب؟ فهو ما نتناوله في بحثنا اللاحق، لأن الهدف من بحثنا الماضي كان التعريف بالآفات والحجب وتوضيح أمرها بصورة اجمالية.
ثم نصل الى مرحلة علاج هذه الأمرض وكيفية رفع الأكنة ومسح الصدأ والرين والوقاية من الوصول الى مرحلة لا خروج منها.
وننهي بحثنا هذا بحديث عن الامام الصادق(عليه السلام):
[282]
«إنّ لك قلباً ومسامع وإن الله إذا أراد أن يهدي عبداً فتح مسامع قلبه، وإذ أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه فلا يصلح أبداً وهو قول الله عزَّوجلَّ (عَلَى قُلُوب أَقْفالُها)(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير نور الثقلين الجزء 5 الصفحة 41.
[283]
[284]
حُجُب المعرفة وآفاتها
«بالتفصيل»
[285]
[286]
تمهيد:
كان الحديث في البحث السابق عن انسداد أبواب المعرفة وطرقها بالاجمال.
وحديثنا الآن عن «العلل والعوامل» لهذه الظاهرة المؤلمة التيى يمكنها أن تؤدي بالانسان الى السقوط الى درجة الأنعام والبهائم.
حديثنا عن الامور التي تسبب ظهور الصدأ على قلب الانسان، وجعل الوقرفي الاذان، والعمى في القلب، واختلال توازن العقل، واخيراً تسبب عدم رؤية الحق او رؤيته معكوساً!
تابع القرآن هذه المس.لة المهمة في آيات عديدة وبيّن العلل الأساسية لهذه الظاهرة، ويمكن تلخيص العلل في ثلاثة أقسام:
1 ـ الصفات والاخلاقيات التي يمكنها أن تكون حاجباً عن الرؤية الروحية.
2 ـ الأعمال والسلوك التي تسوّد مرآة العقل.
3 ـ العوامل الخارجية التي تؤثر على فكر الانسان وعقله وعواطفه وفطرته.
وسنبحث هذه العناوين الثلاثة كلا على حده (وأؤكد هنا على أننا نطرح العلل التي انعكست في القرآن الكريم بوضوح فحسب).
* * *
[287]
القسم الاول:
الصفات التي تحول
دون المعرفة
[288]
القسم الاول:
الصفات التي تحول دون المعرفة
إن هذه الصفات التي ذكرت في القرآن بصراحة تارة وبالكناية تارة اخرى عبارة عن:
1 ـ حجاب اتخاذ الهوى إلهاً:
قبل كل شيء نصغي خاشعين للآيات التالية:
1 ـ (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ اِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْم وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ
وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشـاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا
تَذَكَّرُون)
(الجاثيه / 23)
2 ـ (كُلَّما جائَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَريقاً كَذَّبُوا وَفَرْيقاً يَقْتُلُون وَحَسِبُوا ألاّ تكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِم ثُمَّ عَمُؤا وَصَمُّوا كَثِيْرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصيْرٌ بِما يَعْمَلُونَ)
(المائدة / 70 ـ 71)
3 ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ اِلَيْكَ حَتّى اِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا
لِلَّذِينَ اُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولْئِكَ الَّذِيْنَ طَبَعَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوائَهُمْ)
[289]
(محمد / 16)
* * *
شرح المفردات
«الهوى» بمعنى رغبة النفس وميلها الى الشهوات ويقال انها مشتقة من «اَلهوي» الذي يعني السقوط من الارتفاع، وذلك لأن الهوى يسبب سقوط الانسان في المصائب في الدنيا، وابتلاءه بالعذاب في الاخرة، ومن هنا قيل لجهنم «هاوية» لأن قعرها منحفض للغاية.
وقد ذكر البعض معنيين لهذه المفردة : ( الصعود والارتفاع ) و( السقوط )، وذكر بعض آخر معنى واحداً لها وهو (الارتفاع والسقوط الى الأسفل) وهذا في الحقيقة تركيب من المعنيين السابقين.
وقال البعض: إن الهُوىّ يعني «السقوط» والهَويّ يعني «الصعود»(1).
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
إتباع الهوى يُعمي القلب:
تحدثت الآية الاولى عن اتخاذ الهوى إلهاً واتباعه، والتضحية لأجله بكل ما يملك، وكل من كان كذلك فسوف يختم على قلبه وعلى سمعه ويجعل على
بصره غشاوة، فلا يهتدي بعد ذلك، فلنقرأ الآية: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ اِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْم …).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – راجع مفردات الراغب، ومجمع البحرين، وكتاب العين، واقرب الموارد، والمنجد.
[290]
والآية الثانية تحدثت عن فريق من اليهود المعاندين حيث كلما جاءتهم رُسُل الله وأتوا بما يخالف أهواهم، قاموا بتكذيب بعضهم وقتل البعض الآخر، إن عنادهم هذا جعل حجاباً بينهم وبين الحقائق، فيرون أنفسهم آمنين من عذاب الله، تاب الله عليهم، وشملتهم رحمته الواسعة في المرة الاولى، لكن في المرة الثانية شملتهم نقمته، وذلك لنقضهم عهدهم وطغيانهم، فعموا وصُمّوا.
وهذه من المردودات السلبية لاتباع الهوى، حيث يهرقون دماء الانبياء ولا يدركون قبح عملهم.
إن التعبير بـ «يقتلون» يدل على أن ديدن هذا الفريق من اليهود هو قتل الأنبياء لما يأتون به من الشرائع المخالفة لأهوائهم.
* * *
والآية الثالثة تشير الى فريق من المنافقين الذين يستمعون للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبمجرد ابتعادهم عنه استهزؤا به أمام المؤمنين.
يقول القرآن عن هذا الفريق من المنافقين: (أُولئِكَ الَّذِيْنَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوائِهِم).
إن هذه الآيات الثلاث تبين بوضوح العلاقة بين اتباع الهوى وفقدان قدرة التمييز.
لِمَ لا يكون اتباع الهوى مانعاً عن إدراك الحقيقة وقد استحوذ حبه على
جمع جوانب الانسان، فلا يرى شيئاً غيره ولا يفكر إلاّ به؟ وقد سمعنا قول الرسول كثيراً حيث يقول فيه: «حُبُّكَ لُلشَّيء يُعْمِي وَيُصِمُّ»(1).
كما سمعت في هذا المجال حدياً آخر نقل عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وعن اميرالمؤمنين: «أمّا اتباع الهوى فيصدُّ عن الحق»(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – روضة المتقين الجزء 13 الصفحة 21.
2 – البحار الجزء 7 الصفحة 75، ونهج البلاغة الخطبة 42.
[291]
إن هذه المسألة واضحة الى درجة أنها اصبحت مثلا في كلام العرب: «صاحب الحاجة أعمى لا يرى إلاّ حاجته»(1).
إن الانسان الذي خسر قلبه وروحه في حب الجاه والمال والشهوة ، وعبّاً كل رأس مال وجوده في هذا المجال ، لا يرى شيئاً في الدنيا غير هذا الحب ، وقد جعل هذا الحب ستاراً ضخماً على عقله وفكره.
وما أجمال ما قاله علي(عليه السلام) في إحدى خطبه: «مَنْ عشقَ شيئاً أعشى بصره»(2).
وقد نقلت الرواية التالية في شأن نزول الآية (23) من سورة الجاثية التي أشرنا إليها سابقاً:
انّ ابا جهل طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد ابن المغيرة (فقد كانت
الكعبة محترمة في الجاهلية ايضاً ومحلاّ للطواف) فتحدثنا في شأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال ابوجهل والله إني لأعلم انه صادق، فقا له مَهْ، ومالك على ذلك؟ قال، يا ابا عبد شمس كنا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تم عقله وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن، والله إني لأعلم انه صادق، قال: فما يمنعك ان تصدقه وتؤمن به؟ قال: تتحَدث عني بنات قريش أني اتبعت يتيم ابي طالب من أجل، كسرة، واللات والعزّى إن اتبعته أبدا. فنزلت «وختم على سمعه وقلبه»(3).
وما أجمل ما قاله علي(عليه السلام) عن الهوى: «آفة العقل الهوى»، كما قال في محل آخر: «الهوى آفة الألباب»(4).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – نهج البلاغة الخطبة 109.
2 – تفسير المراغي الجزء 5 الصفحة 157.
3 – تفسير المراغي الجزء 25 الصفحة 157.
4 – غرر الحكم.
[292]
2 ـ حجاب حب الدنيا
يقول القرآن في هذا المجال:
(ذلِكَ بِأَنَّهُم اسْتَحَبّوا الْحِياهَ الدُّنْيا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْم
الْكافِرِيْنَ * أُولئِكَ الَّذِيْنَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)
النحل / 107 ـ 108)
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
إن الآية تشير الى قوم أسلموا رغبة في الاسلام ، ثم ارتدوا عنه ، فلمحت
الآية الى أن ارتدادهم لم يكن لرؤيتهم في الاسلام ما يخالف الحق ، بل لأنهم استحبوا الدنيا على الاخرة ، ورجحوها عليها ، فودعوا الاسلام واتجهوا نحو وادي الكفر تارة اخرى، ولم يرَ الله فيهم الأهلية للهداية مرة اخرى، وذلك لحبهم للحياة الدنيا، فطبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأغلق عليهم أبواب المعرفة فأصبحوا من الغافلين.
إن حب الدنيا سواء كان في غطاء حب المال والثروة أو في غطاء حب الجاه والمقام، أو في غطاء حب الشهوات المختلفة، كالريح العاصف للذي يهب في باطن الانسان فيفقده توازن عقله بالكامل.
نعلم ان الميزان الدقيق يُجعل في محفظة تحول دون تأثير النسيم عليه، وحتى الوزّان ينبغي له حبس أنفاسه حتى الانتهاء من الوزن، وذلك للحيلولة دون تأثير امواج الهواء الخارج من رئته على تعادل الميزان، فما فائدة ميزان كهذا عند
[293]
هبوب ريح عاصف؟
إن حب الدنيا سواء كانت بشكلها القاروني أو الفرعوني أو السامري أو غير ذلك، لا يسمح لفكر الانسان أن يحكم على الامور صحيحاً، واذا صرح الله تعالى في الآية السابقة بانه طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، فلذلك مردود حب الدنيا الطبيعي، وبما أنهم يتجهون نحو السبب فيبتلون بالمسبَّب.
ويشاهد في الأحاديث الاسلامية تعابير جميلة في هذا المجال، يقول الامام الباقر(عليه السلام).
«مثلُ الحريص على الدنيا كمثل دودة القز كلما ازدادت من القز على نفسها كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غماً»(1).
كما نُقل حديث آخر عن امير المؤمنين(عليه السلام) يقول فيه: «الدنيا تفرّ وتضرّ وتمرّ»(2).
ويقول الامام نفسه في رسالته كتبها لأحد أصحابه ينصحه فيها ويقول: «فارفض الدنيا فانّ حب الدنيا يُمر، ويُصم ويبكم ويُذلُّ الرِّقاب فتدارك ما بقي من عمرك ولا تقل غداً أوْ بعد غد فانّما هلك من كان قبلك باقامتهم على الأماني والتسويف»(3).
* * *
3 ـ حجاب الكبر والغرور وسكرة القدرة!
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – البحار الجزء 7 الصفحة 23 الحديث 13.
2 – نهج البلاغة.
3 – البحار الجزء 70 الصفحة 75، اصول الكافي الجزء 2 باب ذم الدنيا والزهد فيها الحديث 23.
[294]
1 ـ (اَلَّذِيْنَ يُجادِللُونَ فِي آياتِ الله بِغَيْر سُلْطان آتاهُمْ كَبُرَ مَقَتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِيْنَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلٍّ قَلْبِ مُتَكَبِّر جَبّارِ).
2 ـ (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُه أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِيْنَ آمَنُوا هُدَى وَشِفاءٌ وَالَّذِيْنَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكان بَعِيْد).
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
الجبارون والمعرورون لا يدركون الحق!
تحدثت الآية الاولى عن «مؤمن آل فرعون» صاحب الضمير الحي الذي كان في بلاط فرعون يؤ د موسى بن عمران ويؤمن به سراً، فصرحت الآية: (اَلَّذِيْنَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطان آتاهُمْ كَبُرَ مَقَتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِيْنَ آمَنوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّر).
نعم، إن عناد الحق والاصرار في ذلك العناد يجعل حجاباً على فكر الانسان ويسلبه حسن معرفته، فيبلغ به الأمر الى أن يصبح قلبه كالوعاء المغلق لا يخرج محتواه الفاسد ولا ينفذ فيه المحتوى السليم والمفيد.
يقول البعض في الفرق بين «البجار» و«المتكبر» ان «التكبر» يقابل «الخضوع للحق» و«الجبروت» يقابل «الشفقه والمحبة للخلق»، فالظَّلَمَة المغرورون لا يخضعون للحق ولا يرحمون الخلق.
[295]
* * *
والآية الثانية نقلت أقوال فريق من المتكبرين المعاندين حول القرآن حيث كانوا يقولون: لِمَ لَمْ ينزّل القرآن أعجمياً كي نهتم به أكثر وكي يفهمه غير العرب؟ (قد يكون مرادهم هو الحؤول دون فهم الناس له).
فأجابهم القرآن: لو نزّل القرآن أعجمياً لأشكلتم إشكالا آخر وهو «لولا فصلت آياته» أي ان محتوام معقد ومبهم ولا نعي شيئاً منه، ثم قلتم، عجيب أن يكون القرآن أعجمياً ونازلا على عربي؟!
ثم أمر الله الرسول ب.ن يقول لأولئك المغرورين:
(هُوَ لِلَّذِيْنَ آمَنُوا هُدَى وَشِفاءٌ وَالَّذِيْنَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذنِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ
عَلَيْهِمْ عَمىً أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكان بَعِيْد)
وواضح ان الذي ينادى من مكان بعيد لا يسمع ولا يُرى.
إذا أنكرت أعينهم نور شمس القرآن الساطعة فذلك لرمدها، واذا أنكرت آذانهم نداء الحق المدوّي فلذك للوقر الذي فيها.
حجاب الغرور في الأحاديث الاسلامية:
1 ـ جاء في حديث للامام الباقر(عليه السلام): «ما دخل قلب امرىء شيء من الكبر إلاّ نقص من عقله ما دخله من ذلك قلَّ ذلك أكثر»(1).
2 ـ وقد خاطب امير المؤمنين(عليه السلام) فريقاً من المنحرفين في كلماته القصار قائلا: «بينكم وبين الموعظة حجاب من العزّة»(2).
عندما يتمحور حب الذات في نفس الانسان، يسعى الانسان لأن يجمع كل شيء في نفسه، وعندما يصل الى مستوى «العجب» يرى نفسه أعلى وأرفع من أي
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – البحار الجزء 75 الصفحة 186 باب وصايا الامام الباقر(عليه السلام) الحديث 26.
2 – نهج البلاغة: الكلمات القصار رقم 20082.
[296]
انسان آخر، وعندما يصل الى مستوى «الانانية» يرى نفسه المقياس الوحيد للقيم والجمال.

شاهد أيضاً

أدعية أهل البيت عليهم السلام في تعقيب الصلوات

الثاني : اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ عن فقه الرضا عليه‌السلام : ص ١١٥ ، بعد ذكر ...