الرئيسية / القرآن الكريم / نفحات من القران

نفحات من القران

وهذه الحالات تجعل ستار عجيب على عقله تحجب الحقيقة عنه، فيرى جميع القيم منحسره في نفسه، وينسى غيره.
ولهذا، فان أول خطوة في مجال تهذيب النفس هو الترفع عن «الكبر والغرور»، ولا يتأهل الانسان للقرب من الله من دون ذلك.
3 ـ وقد جاء في كلام لأمير المؤمنين(عليه السلام) : « سرّ آفات العقل الكبر »(1)، كما جاء في كلام آخر له: «العجب آفة»(2).
* * *
4 ـ حجاب الجهل والغفلة
1 ـ (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِيْنَ لا يَعْلَمُونَ)
(الروم / 59)
2 ـ (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آبائُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ * وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْبدِيْهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ * وَسواءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)
(يس / 6 / و 9 و 10)
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – غرر الحكم.
2 – غرر الحكم.
[297]
جمع الآيات وتفسيرها:
أكدت الآية الأولى على أن الله ضرب للناس في هذا القرآن من كلِّ مثل ، فتارة بآيات الآفاق والأنفس وتارة بالوعد والوعيد، وتارة بالأمر والنهي، وتارة بالبشرى والانذار، وتارة بالسبل العاطفية والفطرية، وتارة بالاستدلال، ورغم هذا البيان فان فريقاً من الجاهلين والغافلين يجحدون بآيات الله ويقولون: أنتم مبطلون أي على باطل. ويضيف الله في الآية: هذا كله لأجل أن الله طبع على قلوبهم وذلك يجهلهم.
إن الآية ـ في الحقيقة ـ تشير الى أسوأ أنواع الجهل وهو «الجهل المركب» الجهل الذي يحسبه صاحبه علماً، ولا يصغي لمن أراد ايقاظه من غفلة الجهل هذه، ولهذا فان شخصاً كهذا يضلُّ جاهاً جهلا مركباً الى أبد الدهر.
اذا كان اخطاب موجهاً لجاهل «جهلا بسيطاً» أي لا يعلم ويعلم أنه لا يعلم، ومستعد في نفس الوقت لقبول نداء الحق والهداية، فان الأمر اتجاهه بسيط، والحجاب المانع يطبع على القلب عندما يكون الجهل مركباً وممتزجاً بروح العناد وعدم التسليم لنداء الحق.
وقد نقل في بعض التفاسير شعر جميل لشاعر عربي يقول فيه:
قال حمار الحكيم يوماً ***** لو تنصفوني لكنتُ أركب
لأنّني جاهل بسيط ***** وصاحبي جاهل مركب(1)
* * *
وتشير الآية الثانية الى فريق من الغافلين الذين صدر حكم العذاب بحقهم وذلك لجهلهم وعنادهم وأنّهم ليسوا أهلا للهداية.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – روح المعاني الجزء 21 الصفحة 55 ذيل الآية 59 من سورة الروم.
[298]
ثم صوّر القرآن الحُجُب التي قد تحيط العقل تصويراً عجيباً حيث قال: (إنَّا جَعَلْنا فِي أعْناقِهِم أغْلالا فَهيَ اِلى الاذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنا مِنْ بَينِ أَيدِيهِم سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْناهُم فَهُمْ لا يُبْصِرُون).
إنَ عبارة (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِم سَداً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً) إشارة الى الحجب التي تحول دون رؤية آيات الافاق والكون.
إن الأغلال التي جاءت في الآية قد تكون اشارة الى الحجب التي تحول دون رؤية آيات الأنفس، والأسوأ من هذا كله هو جعل الغشاوة على الابصار بحيث لا امكان للرؤية، وهي ستار الغفلة والجهل والغرور.
وبديهي أن أشخاصاً كهؤلاء مع كل هذه الحجب ، سواء أنذرهم الرسول أم لم ينذرهم وسواء سمعوا آيات القرآن من شفاه محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) الطاهرة أم لم يسمعوا ، فهُم لا يؤمنون ولا يهتدون ، إنهم رهائن لا لغل واحد، بل لأغلال عديدة ( فالأغلال جاء بصيغة الجمع لا المفرد ). وقد فسر البعض السد ( الذي يجعل امام الشخص ) بالحجب التي تحرم الانسان من الهداية النظرية والاستدلال، والسد ( الذي يجعل من الخلق ) بالحجب التي تمنع من الهداية الفطرية والرجوع
إليها(1).
* * *
حجاب الجهل في الأحاديث الاسلامية:
1 ـ قال الامـام امير المـؤمنين(عليه السلام) عن الجهـل : « الجـاهل مـيت بـين الأحياء »(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير الفخر الرازي الجزء 26 الصفحة 45 ذيل الآيات المذكورة في بحثنا.
2 – غرر الحكم الصفحة 99.
[299]
2 ـ كما قال في محل آخر: «الحمق من ثمار الجهل»(1).
واضح، كما ان الميت فاقد الادراك والاحساس كذا الجاهل العنود، لا نتوقع منه الفهم الحقيقي للامور.
3 ـ من خصائص الجاهلين بالجهل المركب أنهم يعدون العلماء الحقيقيين ضالين، ولهذا جاء في حديث الامام موسى بن جعفر(عليه السلام): «تعجب الجاهل من العاقل أكثر من تعجب العاقل من الجاهل»(2).
4 ـ ننهي البحث بحديث للامام امـير المـؤمنين(عليه السلام) حيث يقول فيه : « إن قلوب الجُهّال تستفزها الأطماع وترتهنها الُمنى وتستعقلها الخدايع»(3).
* * *
5 ـ حجاب النفاق
1 ـ ( يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمـا يَخْدَعـُونَ اِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمـا يَشْعُـرُونَ * فِي قُلُـوبِهِمْ مَـرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَـرَضاً وَلَهُمْ عَـذبٌ أَليمٌ بِـمـا كانُـوا يَكْذِبُـونَ)
(البقرة / 9 ـ 10)
2 ـ (مَثَلُـهُمْ كَـمَثَلِ الَّـذِي اسْتَوْقَدَ نـاراً فَلَمّا أضـاءَتْ مـا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُـورِهِمْ وَتَرَكَـهُمْ فـِي ظُلُمـات لا يُبْصِـرُونَ * صُمٌّ بُكْـمٌ عُمْـيٌ فَهُـمْ لا يَرْجِعُونَ)
(البقرة / 17 ـ 18)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – نفس المصدر الصفحة 41.
2 – سفينة البحار الجزء 1 الصفحة 199.
3 – الكافي الجزء 1 الصفحة 23 كتاب العقل والجهل الحديث 18.
[300]
3 ـ (اِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِيْنَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هـؤُلاء دِيْنُهُـمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَاِنَّ اللهَ عَزِيْز حَكِيمْ)
(الانفال / 49)
4 ـ (وَاِذْ يَقُولُ الْمُنـافِقُونَ وَالَّذِيْنَ فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مـا وَعَـدَنا اللهُ وَرَسُولُهُ اِلاّ غُرُورا)
(الاحزاب / 12)
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
المنافقون عمي القلوب:
إنّ في أوائل سورة البقرة ثلاث عشرة آية تحدثت عن النفاق والمنافقين، وقد صورتهما بدقة متناهية وبتعابير وافية، والآية الاولى هي من ضمن الآيات التي جاءت هناك.
يقول القرآن في هذه الآية: إن احد أخطاء المنافقين أنهم يخادعون الله وكذا المؤمنين، وفي الحقيقة لا يخادعون إلاّ أنفسهم وهم لا يشعرون ولا يعلمون، وذلك لأن النفاق قد غطّى قلوبهم بستاره السميك، ثم يضيف القرآن: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً).
من الـواضح، إن المـراد من المـرض في الآية هـو « مرض النفاق » الذي يتغلب على قلوبهم، فالانـسان المـريض لا يستطيع ان يفكر تفكير سليماً (لأن العقل السليم في الجسم السليم)، وكذلك حواسه الظاهرية، ولهذا نرى بعض المـرضى تـبدو ألـذ الاغـذية عنـدهم كـريـهة الطـعم، وبـعض الأغذية
كـريهة الطعم لذيذة.
[301]
* * *
وقد شبهت الآية الثانية المنافقين بالذي ضلَّ متورطاً في ظلمات الليل، ثم استوقد ناراً ليرى مما حوله، فجاء ريح عاصف وأطفأ ما استوقده فبقي في الظلمات تارة اخرى، فلا يبصر ولا يسمع ولا ينطق شسيئاً، ولا طريق له للرجوع.
قد يكون المراد من النور الذي جاء في الآية هو نور الايمان الظاهري الذي يراه المنافق ويستضيء به ما حوله ويحفظ نفسه وماله تحت ظله.
أو أن المراد منه هو نـور الفطرة الذي جُبل عليه الانسان، والمنافقون يستثمرون هذا النور في البداية، ولا يمضي زمن طويل حتى تأتي زوبعة النفاق فتطفئه.
* * *
تحدثت الآيـة الثالثة والـرابعة عن المـنافقين مرضى القلـوب، وبقرينة الآيات السابقة ندرك أن المراد من «الذين في قلوبهم مرض» هو نفس المنافقين وان العطف عطف تفسيري(1)، إلاّ أن الآية الثالثة تحدثت عن موقفهم في معركة بـدر، والـرابعة عن موقفهم في معركة الاحزاب، والفرق هو انهم كانوا في «بدر» في صفوف المشركين لان المشركين يوم ذاك كانوا القوة الراجحة، وفي معركة الاحزاب كانوا مع المسلمين.
كانوا يقولون: «اغترَّ هؤلاء المسلمون بدينهم، وقد خطوا هذه الخطوة الخطيرة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – لقد جاء في تفسير الميزان الصفحة 164 و 302، وكذلك تفسير الفخر الرازي الجزء 15 الصفحة 176: إن المراد من الذين في قلوبهم مرض هو ضعف الايمان وهم غير المنافقين. لكن لا يتناسب ضعف الايمان مع المرض في القلب، إضافة الى أن الآيات الثلاثة عشرة التي جاءت في اوائل سورة البقرة استعملت هذا التعبير في حقهم. كما يبدو بُعد الرأي الذي يفسر المرض بالترديد والشك، لان المرض نوع من الانحراف، بينما الشك نوع من الفقدان.
[302]
(الجهاد) رغم قلة العدّة والعدد ظناً منهم بالنصر، أو بالشهادة التي مصيرها الموت»!
بالطبع، إنهم غير قادرين ـ بسبب المرض للذي في قلوبهم ـ على الادراك الصحيح لعوامل النصر الحقيقة أي الايمان والثبات والفتوة التي هي وليدة الايمان فما كانوا يدركون أن من يتوكّل على الله القادر فهو حسبه وهو ناصره، والشاهد على هذا الحديث هو ما حصل في صدر الاسلام، حيث ان بعض المسلمين رفض الهجرة الى المدينة، والعجيب في الأمر أن قريشاً عندما تحركوا نحو بدر لقتال المسلمين، اصطف هؤلاء المسلمون (المنافقون) في صفوفهم، وكانوا يحدثون أنفسهم أنهم سيلتحقون بجيش محمد اذا كان جيشه ذا عدد كبير، وسيبقون مع جيش قريش اذا ما كان عدد المسلمين قليلا(1).
وهل للنفاق مفهوم غير هذا الذي تجسد في هذه المجموعة؟ وإذا لم يكونوا منافقين، فمن هم المنافقون؟
وقد حصل هذا الأمر بالذات في معركة الأحزاب فان شخصيات كثيرة من المنافقين كانت قد حشرت نفسها مع المسلمين، وعندما شاهدوا كثرة الاحزاب قالوا بصراحة: ما وعدنا الرسول إلاّ كذباً وباطلا.
وهذا هو حجاب النفاق الذي لا يسمح لهم من إدراك الحقائق، رغم أنهم شاهدوا بأم أعينهم أن النصر ليس بكثرة العدد، بل بالايمان والثبات الناشيء عنه.
سؤال:
يطرح سؤال هنا وهو: كيف يكون النفاق حجاباً يجب عن الحقائق؟
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير الفخر الرازي الجزء 15 الصفحة 176 ذيل الآية 49 من سورة الانفال.
[303]
الجواب:
يـمكننا الاجابة على هذا السـؤال بالالتفات الى ملاحظة في هذا المجال وهي: إن روح النفاق تستلزم أن يتحرك الانسان مع كل التيارات وأن يكون مع جميع الفرق، وأن يتخذ صبغة الـمحيط الـذي يعيش فيه، فيفقـد فـي النهاية اصالته واستقلاله الفكري، إن طريقة تفكير انسان كهذا تكون متطابقة دائماً مع طريقة تفكير الفريق الذي يكون معهم، فلا عجب أن يكون حكمه غير صحيح.
وقد جاء في بعض التفاسير: إن التـعبير بـ «فـي قلوبهم مـرض» يصدق في موارد كهذه الموارد، من حيث ان غاية القلب (العقل) الخاص هو معرفة الله وعبوديته، وكل صفة منعت وحجبت عن غاية القلب هذه، قيل لها مرض (لانها تحجب الهدف وتمنعه من الظهور)(1).
ولـهذا جاء في سورة المـنافقين الآية 7: (وَلـكِنَّ الْمُنـافِقِيْنَ لا يَفْقَهُـونَ).
كما قد جاء في حديث الامام البـاقر(عليه السلام): «إن القلوب أِبعة: قلب فيه نفاق وايمان وقلب منكوس وقلب مطبوع وقلب أزهر أجرد» فقلت ما الأزهر؟ قال: «فيه كهيئة الشِّراج، فأما المطبوع فقلب المنافق، وأما الأزهر فقلب المؤمن إن أعطاه شكر وان ابتلاه صَبَر، وأما المنكوس فقلب المشرك»(2).
وننهي حديثنا هذا بكلام للامام امير المؤمنين(عليه السلام):
«النفاق على أربع دعائم على الهوى والهوينا والحفيضة والطمع»(3).
ونعلم أن كلا من هذه الامور الأربع تشكل حجاباً سميكاً أمام نظر العقل.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير الفخر الرازي الجزء 2 الصفحة 64 ذيل الآية 10 من سورة البقرة.
2 – اصول الكافي الجزء 2 الصفحة 442 باب «في ظلمة قلب المنافق» حديث 1.
3 – اصول الكافي الجزء 2 الصفحة 393 باب «صفة المنافق والنفاق».
[304]
6 ـ حجاب التعصب والعناد
1 ـ ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ اِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَاِنْ يَرَؤا كُلَّ آيَة لا يُؤْمِنُوا بِهـا حَتّى اِذا جائُوكَ يُجدِلُوَكَ يَقُولُ الَّذِيْنَ كَفَرُوا اِنْ هذا اِلاّ أَساطِيْرُ الأَوَّلِيْنَ)
(الانعام / 25)
2 ـ ( وَاِذا قَـرَأْتَ الْقُـرْآنَ جَعَلْنـا بَيْنَـكَ وَبَيْـنَ الَّـذِينَ لا يُـؤْمِنُـؤنَ بِالآخِرَةِ حِجـاباً مَسْتُوراً * وَجَـعَلنـا عَلى قُلُـوبِهِـمْ أَكِـنَّةً اَنْ يَفْقَهُـوهُ وَفِـي آذانِهِمْ وَقْـراً وَاِذا ذَكَـرْتَ رَبَّـكَ فِـي الْقُـرآنِ وَحْـدَهُ وَلَّـوا عَـلَى أَدْبـارِهِـمْ
نُـفُورا)
(الاسراء / 45 ـ 46)
3 ـ ( فَـاِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَـوْتَى وَلا تُسْـمِـعُ الصُـمَ الـدُّعـاءَ اِذا وَلّـوا
مُـدْبِرِيْنَ وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْي عَـنْ ضِلالَتِهِـمْ اِن تُسْـمِعُ اِلاَّ مَـنْ يُؤْمِنُ بِـآياتِـنا فَهُمْ مُسْلِمُونْ)
(الروم / 52 ـ 53)
4 ـ ( وَلَقَـدْ ضَـربنـا لِلنّـاسِ فِـي هَـذا القُرآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلً وَلَئِئنْ جِئْتَهُـم بِآية لَيَقُولَنَّ الَّـذِيـنَ كَفَـروا اِنْ أَنْتُـمْ اِلاَّ مُبْطلُونَ * كَذلِكَ يَطْبَعُ الله عَلـى قُلُـوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ )
(الروم / 85 ـ 89)
5 ـ (وَقالوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةِ مِمّا تَدْعُونا اِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بِيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ اِنَّنا عامِلونَ)
[305]
(فصلت / 5)
* * *
تجمع الآيات وتفسيرها:
الموتى المتحركون:
حضر عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ابو سفيان والوليد ابن المغيرة والنضر بن الحارث وابو جهل وافراد آخرون واستمعوا الى حديث الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا للنضر ما يقول محمد؟ (وكان النضر تاجراً يسافر الى ايران وله اطّلاع واسع بالاساطير والقصص التاريخية الايرانية) فقال: لا ادري ما يقول لكني اراه يحرك شفتيه ويتكلم باساطير الاولين كالذي كنت احدثكم به عن اخبار القرون الاولى وقال ابوسفيان اني لا ارى بعض ما يقول حقا.
فقال ابوجهل: كلا. فانزل الله تعالى: (ومنهم من يستمع اليك وجعلنا على قلوبهم اكنه ان يفقهوه)(1).
وقال بعض المفسر تفسير هذه الآية انهم لما أصروا على الكفر وعاندوا وصمموا عليه فصار عدو لهم عن الايمان والحالة هذه كالكنان المانع عن الايمان(2).
ولهذا نزلت هذه الآية وقالت بصراحة: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ اِلَيْكَ …).
وقد قال بعض المفسرين في تفسير هذه الآية:
(وَجَعَلْنا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً): إن عناد هؤلاء الكفرة واصرارهم في معاداة الحق،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير الفخر الرازي الجزء 12 الصفحة 186.
2 – تفسير الفخر الرازي الجزء 12 الصفحة 187.
[306]
يجعل ستاراً على قلوبهم تحول دون ايمانها(1).
* * *
وقـد تحدثت الآية الثانية عن الحجاب الذي كان يُجعل بين الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)وبين فريق من المنافقين عندما كان يتلو القرآن الكريم.
وقد فسـر البعض هذا الحجـاب بسـتار حقيقي كان يجعله الله بين الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وبينـهم بحيث لا يرونه، إلاّ انه مع الالتفات الى الآيات التي لحقت هذه الآية من نـفس السـورة، يتضح لنا أن الحجاب لم يكن سوى «حجاب التعصب والعنـاد والغـرور والجهل» الذي كتم حقـائق القرآن عن عقولهم وادراكهم.
والشاهد على ذلك هو قوله تعالى: (وَاذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرآنِ وَحْدَهُ وَلَّوا عَلَى أَدْبارِهِمْ نُفُورا) فالمستفاد من هذا التعبير هو أنهم كانوا يصغون في البداية الى حديث الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ثم يولون مدبرين لعدم سماح العناد لهم لادراك القرآن، وادراك حديث التوحيد.
ونشاهد في نفس السورة تعابيرات اخرى تحـكي روح العنـاد المنجسمة فيهم، ومع هذا، فهل يمكنهم إدراك حقيقة ما؟
* * *
وخـاطبت الآية الثـالثة الرسـول(صلى الله عليه وآله وسلم) قائلة له: إنـك لا تُسمع الموتى ولا الصم عندما يولـون مدبرين، كما أنـك لا تستطيع هدايـة العمى وانقاذه من
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – نفس المصدر السابق الصفحة 187.
[307]
الهلاك، فما يسمع كلامك إلاّ الذين آمنوا بآيات الله وسلموا للحق (أي الذين تتلهف قلوبهم تلهف للـحق، فان قلوباً كهذه كالأرض المعدَّه للزرع، تسطع عليها الشمس، وتقطر السماء عليهـا قطرات الحيـاة، فتنمو فيها البذور بسرعة، وأما القلوب التي عطّلتها حُجب التعصب والجهل فانها محرومة من هذه الحقائق)(1).
* * *
والآيـة الـرابعة تحدثت عن اولئك الكفار الذين وقفوا أمـام الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)عناداً، وخالفوا كل ما جاء به، فكـانوا يرمون الرسـول والقرآن بالباطل تارة، وتارة اخرى يقولون: إن ما جاء به الرسول سحر وأساطير الاولين ولا مجال للحق فيه: فتحدث في هذه عن هؤلاء وقال: (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِيْنَ لا يَعْلَمُونَ). لأنـهم لا يعلمون شيئـاً عن هذا الكتـاب السماوي الذي هو مصدر للحقائق
كما ان الآية توضح العلاقة بين «الجهل» و«العناد».
* * *
وعكست الآية الخامسة النموذح الكامل من العناد، فما قيل الى الآن كان خطاباً بين الله ورسولن، أما هنا فهم يعترفون بأنفسهم بأن على قلوبهم أكنة، وفي آذانهم وقراً، وبينهم وبين رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حجاب لا يسمح لهم إدراك ما يقول والتسليم له، فاعمل على شاكلتك ونحن عاملون على شاكلتنا.
إن هذه التعابيرات تبين بوضوح مـا هـو العـامل الاساسي لهذه الحجب وما هو السبب الرئيسي للوقر الذي يجعل في الاذن؟ إنهـا عبارات تمطـرُ تعصباً
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – وقد جاء في سورة النمل الآية 11 مضمون يشبه مضمون هذه الآية.
[308]
وعناداً وتبين سبب شقائهم وتعاستهم.
كما ان «التعصب» مشتقة من مادة «عصب» وهـو فـي البدن خلايا تسبب اتصال العضلات احداها بالاخرى أو بالعظام، كما هو وسيلة لنقل الايعاز الى المخ، وبما أن لها بنياناً قوياً ومحكماً استعملت هذه المفردة بمعنى الشدة والاستحكام، ويوم عصيب يعني يوم شـديد وصعب، ولهـذا يطـلق «العصب» على حالة الارتباط الشديد بشيء، كما أن «العُصْبة» تعني جماعة من الرجال (المقتدرين) الذين لا يقلون عن عشرة، وأمّا «عَصَبة» فتعني أقارب الرجل من جهة الأب(1).
إن «اللجاجة» هو التمادي في العناد، وملازمة أمر ما وعدم الانصراف عنه، و«اللجّة» تعني حركة أمواج البحر، أو التباس ظلمات الليل، و«البحر اللُجي» هو البحر الواسع والمتلاطم، والتلجلج في الكلام هو التردد فيه، أو اختلاط الاصوات(2).
* * *
النتيجة:
إن التعصب واللجاجة والعناد تلازم أحدها الآخر، لأن الارتباط الشـديد بشيء يدعو الانسان الى الالحاح والعناد والدفاع عنه بلا حدود.
بالطبع قـد يستـعمل التعصب بـمعنى الارتباط بالحق، إلاّ ان الاستعمـال الغالب له هو الارتباط بالباطل.
إن منشأ الـتعصب واللجاجة والعنـاد ـ بجميع أشـكالها ـ هو الجهل والقصور في الافكار، لأن صاحب التعصب واللجاجة يظن انه اذا تخلى عن عقيدته ورأيه فهذا يعني تخليه عن كلِّ شيء، أو أن هذا إهانة لشخصيته.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – كتاب العين، والمفردات، ومجمع البيان، ولسان العرب.
2 – كتاب العين، ومفردات، ومجمع البحرين، ولسان العرب.
[309]
وقد يـكون منشأه هو التـكبر والغرور اللذين يمنعانه من الخضوع أمام الحق والتسليم له، وقد يكون منشأه عوامل أخرى.
إن التعصب واللجاجة يجعلان ستـاراً على العقل لا يسمح للانسان أن يرى الحقائق، فإنّا نرى أشخاصاً غير مستعدين للتخلي عن عقائدهم بأي شكل كان رغم اقامة الأدلة القطعية على بـطلانها، وإن أشخـاصاً كهؤلاء لو أقمنا لهم ألف دليل ودليل على أن للدجاج رجلان، قالوا: كلا، بل رجل واحدة! وأخذناهم بأيدينا تحت نور الشمس الساطعة وقلنا لهم: إنه نهار. قالوا: لا بل ليل!
لقد عكست الآيـات التي ذكرت في بداية البحث هذه الحقيقة بوضوح، واعتبرت هولاء صُمّاً وعمياً وأمواتاً، ومطبوع على قلوبـهم، أو ان قلوبهم فـي ملغقة فلا يفقهون شيئاً.
وقد جاء في الروايات الاسلامية مضـامين تستنـد الى نفس المضمون الذي جاء في الآيات المذكورة، وفيها توبيخ اللجوجين والمعاندين.
منها قول امير المؤمنين(عليه السلام): «اللجوج لا رأيَ له»(1).
ومنها قوله كذلك: «الَلاّزجُ يُفسد الرأي»(2).
وكذا قوله: «ليس للجوجِ تدبير»(3).
وقال الامام (عليه السلام) نفسه في خطبة القاصعة:
«فـالله الله فـي كِبْر الحَمية وفخر الجاهلية فإنّه ملاقح الشنان، ومنافخ الشيطان، التي خـدع بها الامـم الماضية والقرون الخالية حتى أعنقوا في حنادس جهالته ومهاوي ضلالته»(4).
ننهي حديثنا بكلام آخر لنفس الامام العظيم، في جواب لـه علـى رسائل
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – غرر الحكم.
2 – غرر الحكم.
3 – غرر الحكم.
4 – نهج البلاغة الخطبة 192.
[310]
أهالي مـدن مختلفة حول حوادث صغيرة: «مَنْ لَـجّ وتمادى فهو الراكسُ الذي رانَ اللهُ عَلى قلبه وصارت دائرة السوء على رأسه»(1).
بالطبع ـ وكما قلنا سابقاً ـ إن الاصرار والالحاح في الحق ليس تعصباً، وإذا أطلقنا عليه تعصباً فهو «تعصب ممدوح»، ولهذا جاء في حديث للامام علي بن الحسين(عليه السلام) عندما سُئِل عن مفهوم التعصب: «العصبية التي يأثم عليهـا صاحبهـا أن يرى الرجلُ شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يُحب الرجلُ قومه ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم»(2).
* * *
7 ـ حجاب التقليد الأعمى
نصغي خاشعين أولا للآيات التالية:
1 ـ ( قـالُوا سَـواءٌ عَلَيْنـا أَوَعَـظْتَ أَمْ لَمْ تَـكُنْ مِـنَ الْواعِظِيْنَ اِنْ هـذا اِلاَّ خُلُقُ الاْوَّلِـيْنَ » وَمـا نَحْنُ بِمُعَذَّبِيْنَ)
(الشعراء / 136 ـ 138)
2 ـ ( وَاِذا قِيـلَ لَهُـمْ تَعـالَوا اِلى مـا أَنْـزَلَ اللهُ وَاِلَـى الـرَّسُولِ قـالُوا حَسْبُنـا ما وَجَـدْنا عَلَيْـهِ آبائَنـا أَوَلَوْ كـانَ آبـائُهُمْ لا يَعْلَمُـونَ شَيْئـاً وَلا
يَهْتَـدُونَ)
(المائدة / 104)
3 ـ ( وَاِذا فَعَـلُوا فاحِشَةً قـالُوا وَجَـدْنا عَلَيْهـا آبـائَنـا وَاللهُ أَمَـرَنـا بِهـا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – المصدر السابق الرسالة 85.
2 – بحار الأنوار الجزء 73 الصفحة 288.
[311]
قُـلْ اِنَّ اللهَ لا يَأْمُـرُ بِالْفَحْشـاءِ أَتَـقُولُـونَ عَلَـى اللهِ مـا لا
تَعْـلَمُـونَ)
(الأعراف / 28)
4 ـ ( وَاِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُؤا ما أَنْزَلَ الله قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آبائَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطـانُ يَـدْعُوهُمْ اِلى عَذابِ السَّعِيْر)
(لقمان / 21)
5 ـ ( وَكَـذلِكَ مـا اَرْسَلْنا مِنْ قَبـلِكَ فِـي قَـرْيَة مِنْ نَـذِيْر اِلاّ قـالَ مُتْرَفُوهـا اِنّا وَجَـدْنا آبـائَنـا عَلـى أُمَّـة وَاِنّـا عَلـى آثـارِهِمْ
مُقْتَدُونَ)
(الزخرف / 23)
* * *
شرح المفردات:
رغم انه لم ترد مفردة «التقليد» عيناً في الآيات السابقة بل جاءت مفردة الاقتداء أو الاهتداء أو اتباع ما كان عليه الآباء والاسلاف وامثال هذه المفردات، إلاّ أنه من المستحسن ايضاح مفهوم هذه المفردة جيداً.

 

شاهد أيضاً

في رحاب الملحمة الحسينية 9  عبد الستار الجابري

في رحاب الملحمة الحسينية 9  عبد الستار الجابري اثار ثورة الامام الحسين (عليه السلام) ثورة ...