وَيصرح القرآن: ان الأمر ليس كما يتوهم هؤلاء، وقولهم هذا سببه الصدأ الذي أحاط قلوبهم وحال دون أن يعقلوا شيئاً.
لقد استخـدمت مفـردة « رَيْن » في هذه الآيـة الكريمة، وقـد قلنا سـابقاً: ان لها معاني ثلاثة ( على ما يدعيه أئمة اللغة ) الاول: الصدأ الذي يعـلو الأشياء القيّمة، الثاني: الصدأ الذي يعـلو الفلزات وهو علامة تَأكل وفساد ذلك الفلز، الثالث: كل شيء غـلب علـى شيء آخر، ولهذا تستعمل هذه المفردة في مجال غلبة الشراب المسكر على العقل وغلبة الموت على الأحياء، وغـلبة النوم على العيون(1).
والطبع يمكن جمع هذه المعاني الثالث في مفهوم واحد وهو الصدأ الذي يستحوذ على الأشياء ويعلوها، ثم اطلقت هذه المفردة على غلبة كل شيء على شيء آخر.
ونستشف من هذه الآية أن الاثم يعكر صفاء القلب بحيث يمنع انعكاس
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير الفخر الرازي الجزء 31 الصفحة 94، وروح المعاني الجزء 3 الصفحة 72.
[331]
الحقائق في هذه المرآة الالهية، وإلاّ فان آيات الله خصوصاً في مسألة المبدأ والمعاد واضحة ولا تقبل للانكار.
ولهذا فقـد قال بعض المفسرين : يظهر مـن هذه الآية أولا : ان الأعمـال القبيحة تُوجِد نقوشاً وصوراً في نفس الانسان، وثانياً: ان هذه الصور والنقوش تحول دون إدراك الحق. وثالثاً : إن روح الانسان ـ وحسب طبيعتها الأولية ـ صافية وشفافة، وتدرك الحقائق كما هي، وتميز بين الحق والباطل وبين التقوى والفجور، كما جاء ذلك في الآيات (7 و 8) من سورة الشمس (وَنَفْس وَما سَوّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها)(1).
وقد حلل المفسرون آخرون المسألة بشكل ملخص آخر.
عندما يكرر الانسـان عملا مـا فان ملكة نفسانية لـذلك الـعمل ستحصل عنده تدريجياً، كالقراءة والكتابة، ففي البداية يشق عليه الأمر، وبعد الـممارسة يتمكن منهما بدرجة لا يحتاج فيهما الى فكر ودراسة.
وكذلك الأمر بالنسبة للذنوب، فبالاصرار عليها وارتكابها مرات عديدة تحصل هذه الملكةُ عند الانسان، ونعلم أنه لا حـقيقة للذنب غـير إشغال القلب بغير الله، والتوجه لغير الله ظلمة، وعندما تتراكم الظلمات على القلب تسـلبه صفائه وشفافيته، وإن لهذه الظلمات درجات ومراحل، المرحلة الاولى هي مرحلة «الرَيْن» أو الصدأ، والمرحلة الثانية هي مرحلة «الطبع» والمرحلة الثالثة هي مرحلة «الأقفال» وهي أشد المراحل.
* * *
والآية الثانية ناظرة الى المنافقين الذين يَدّعون الايمان، فاذا مـا نزلت آيـة فـي الجهاد تمارضوا وتذرّعوا بذريعة من هو على وشك الموت، فيخاطبهم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الميزان الجزء 20 الصفحة 349.
[332]
القـرآن قائلا، إن استمـراركم في مخالفتكم هذه وإعراضـكم عن العمل بكتاب الله، سيؤدي بكم الى أن تفسدوا في الارض، وأن تقطعوا أرحامكم، ولا يأمن شركم حتى أرحامـكم، ثم يضيف: (أولئِكَ الَّذينَ لَعنهُم الله ( بذنوبهم ) فأصمّهم وأعمى أبصارهم) فما كادوا يسمعون الحق ولا يرونه.
وقد كشفت هذه الآيات عن ان النفاق حجاب للقب والروح من جهة، ومن جهة اخرى عن علاقة الذنوب خصوصاً (الفساد في الارض) و(قطع الرحم) و(الظلم والجور) بادراك الانسان وتمييزه بين الحق والباطل.
فسّـر البـعض عبارة «إن توليتم» بالاعراض، وفسرها بعض آخر بالولاية والحكومة، أي أنَّ مقاليد الامور إذا أصبـحت بأيديكم فستفسدون وتريقون الدماء وتقطعون الارحام(1)، ولهذا جاء عن أميرالمؤمنين(عليه السلام): ان الآية نزلت في بني امية(2)، وهذا تلميح الى أنهم عند استلام زمام الامـور والحكومة الاسلامية سـوف لا يـرحمون صغيراً ولا كبيراً، ولم يسلم من ظلمهم أحد حتى أقاربهم وذووهم.
وسواء كان معنى « التولي » هنا هو الاعراض عن الجهاد أو استلام مقاليد الامور في الحكومة والفساد في الأرض، فان ذلك لا يضر ببحثنا، لأن الآية على أي حال تبين ان الذنوب حجاب للقلوب.
* * *
وقد أشارت الآية الثالثة الى اولئك الذين ورثوا الاسلاف من دون أن يعتبروا بمصيرهم الذي ابتلوا به، فخاطبتهم: (لو نَشاءُ أَصَبْناهُم بِذُنوبهم وتطبعُ على قُلُوبِهِمْ فَهُم لا يَسْمَعُونْ).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ورد كلا التفسيرين في تفسير روح المعاني ومجمع البيان والميزان في ذيل الآيات المذكورة في البحث.
2 – تفسير نور الثقلين الجزء 5 الصفحة 40 الجزء 59.
[333]
عطف العقاب على الذنوب مع الطبع على القلوب والآذان، تلميح الى العلاقة بين هذين الاثنين.
ويقول البعض: إن الله إذا شاء عذّبهم بأحد العذابين: إِمّا إهلاكهم بسبب ذنوبهم، وإمّا إبقاءهم أحياء مع سلب قدرة تمييز الحق عن الباطل منهم، وهذا عذاب أتعس من عذاب الهلاك الالهي.
إلاّ أنه بالالتفات الى مجيء «أصبناهم» بصيغة الماضي و«نطبع على قلوبهم» بصيغة المضارع، نفهم أن الجملة الثانية مستقلة وليست عطفاً على ما قبلها، فيكون معنى الآية هكذا: (سواء عجلنا بعذابهم أم لم نعجل فَنحن نطبع على قلوب هؤلاء ونلقي حُجباً عليها)(1).
* * *
أشـارت رابع وآخر آية الى عاقبة الذين يرتكبون الأعمال السيئة فقالت: (ثُمَّ كـانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ أسـاؤا السـوآى أنْ كَـذَّبُوا بآياتِنـا) لِمَ لا يـكون مصيـرهم هذا والذنب كالمرض الذي ينقض على ورح الانسان فيتآكل الايمان من جرائه؟ ولِمَ لا يكون هكذا وهو كالحجاب الذي يغطي القلب ويعميه؟ والأسوأ أنّه لا يكفر فحسب، بل يفتخر بكفره، وقد شهد التاريخ الكثير من هؤلاء.
وخلاصة الحديث، إن القرآن يعدُّ الذنوب والمعاصي من موانع المعرفة، وهذه حقيقة ملموسة ومجربة عند كثير من الناس، فبمجرد صدور ذنب أو معصية منهم يشعرون بظلمات خاصة في قلوبهم، وإذا ما مالوا الى الطهارة والتقوى يشعرون بأنوار ترتاح لها قلوبهم.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – جاء هذا كاحتمال في تفسير الفخر الرازي، في ذيل نفس الآية، إلاّ ان صاحب تفسير الميزان عَدَّ الجملة الثانية معطوفة على «أصبناهم» التي تفيد الاستقبال، لكن الظاهر أن التفسير الاول أنسب.
[334]
إيضاحات:
إن الذنب حجاب في الروايات الاسلامية:
لقـد انعـكست هذه الحقيقة في الروايـات الاسلاميـة بشـكل واسع نـذكر هنا نماذج منها:
1 ـ جاء في حديث للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيه:
«إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء فاذا هو نزع واستغفر الله وتاب صَقُل قلبه فان عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه، وهو الرّان (الرين) الذي ذكر الله في كتابه (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)(1).
2 ـ ونقرأ في حديث الامام الصادق(عليه السلام): أنه قال فيه:
«كـان أبي يقـول مـا مـن شـيء أفسـدُ للقـلب مـن خطيئـة انّ القلب لَيُواقع الخطيئة فما تزال به حتى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله»(2).
بـديهي ان المراد من ( أعلاه أسفله ) تغير قـدرة الانسـان علـى التمييـز ـ بسبب الانس بالذنوب ـ حيث يرى الحسن قبحاً والقبح حسناً، وهي أخطر مرحلة.
3 ـ وقد جاء في حديث آخر للامام الصادق(عليه السلام) أيضاً يقول فيه:
«إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء فان تاب انمحت، وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يُفلحُ بعدها أبداً»(3).
واضح، ان الشرط الاول للفلاح هو إدراك الحقائق، فالذي تعطّل قلبه (عقله) عن العمل كيف يمكنه الوصول الى السعادة والفلاح؟!
وقد جاء نفس المضمون في رواية اخرى عن الامام الباقر(عليه السلام) في تفسير الآية
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير القرطبي الجزء 10 الصفحة 7050، روح المعاني الجزء 3 الصفحة 73، وتفسير الفخر الرازي الجزء 31 الصفحة 94.
2 – اصول الكافي الجزء 2 باب الذنوب الحديث 13.
3 – اصول الكافي الجزء 2 باب الذنوب الحديث 13.
[335]
(كَلاّ بَلْ رانْ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُؤا يَكْسِبُونَ)، وتم التعبير فيه بالنقطة السوداء والنقطة البيضاء حيث تتغلب السوداء نتيجة تراكم الذنوب على البيضاء النورانية وتغطيها(1).
4 ـ وفي حديث آخر للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيه:
(كَثْرَةُ الذُنُوبِ مُفْسِدةٌ لِلْقَلْبِ)(2).
5 ـ وقد نقل في كتاب الخصال حديث عن الرسول جاء فيه:
«أربع خصال يُمتن القلب: الذنب على الذنب …»(3).
ولهذا، فإنّا أُمرنا ـ لمحو آثار الذنوب ـ قراءة ودراسة أحاديث الائمّة إضافة الى التوبة، كما نقل ذلك في نور الثقلين عن الرسول الاكرم(صلى الله عليه وآله وسلم):
«تذاكروا وتلاقوا وتحدثوا فان الحديث جلاء للقلوب وَإن القلوب لترين كما يرين السيف، وجلاءه الحديث»(4).
6 ـ وقـد أشار أمير المؤمنين(عليه السلام) لهذه الحقيقة في خطبة له محاطباً بها بعض عمي القلوب:
« قد خـرقتِ الشهـوات عقله وأماتت الدنيا قلبه وولهت عليها نفسه فهو عبد لها»(5).
7 ـ وقد نقل الامام الصادق(عليه السلام) عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
«إذا ظهر العلم واحترز العمل وائتلفت الألسن واختلفت القلوب وتقاطعت الأرحام هنا لك لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم»(6).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – نفس المصدر الحديث 20، وقد نقل نفس المضمون في مجمع البحرين في مادة «ارين» أيضاً.
2 – الدر المنثور الجزء 6 الصفحة 326.
3 – الخصال الجزء 1 الصفحة 252 الحديث 65، وقد جاء مضمون يشبه هذا في الدر المنثور الجزء 6 الصفحة 326.
4 – نور الثقلين الجزء 5 الصفحة 531 الحديث 23.
5 – نهج البلاغة الخطبة 103.
6 – نور الثقلين الجزء 5 الصفحة 41 الحديث 63.
[336]
8 ـ وقد صُـرّح بهذا الأمر بالنسبة لبعض الذنوب كما جاء ذلك في حديث لأمير المؤمنين(عليه السلام) مخاطباً به اولئك الذين تركوا الجهاد:
«ألبسه الله ثوبَ الذل … وضُرب على قلبه بالأسهاب وأُديل الحق منه بتضييع الجهاد»(1).
* * *
11 ـ حجاب الكفر والأعراض
في البداية نصغي خاشعين الى الآيات التالية:
1 ـ ( تِلْكَ الْقُـرَى نَقُصُّ عَلَيْـكَ مِنْ أَنْبـائِهـا وَلَقَدْ جـائَتْهُـمْ رُسُلُهُـمْ بِالْبَيِّنـاتِ فَمـا كـانُـوا لِيُؤْمِنـوا بِما كَذَّبُـوا مِنْ قَبْلُ كَذلِـكَ يَطْبَـعُ اللهُ عَلَـى قُلُوبِ الْكـافِرِينَ )
(الاعراف / 101)
2 ـ (فَبمـا نَقْضِهِـمْ مِيْثـاقَهُـمْ وَكُفْـرِهِـمْ بـآيـاتِ اللهِ وَقَتْلِهِـمُ الأَنْبِـاءَ بِغَيْـرِ حَـقٍّ وَقَـوْلِهِـمْ قُلُوبُنـا غُلْفٌ بَـلْ طَبَـعَ اللهُ عَلَيْهـا بِكُفْـرِهِـمْ فَـلا يُؤْمِنُونَ اِلاّ قَلِيلا)
(النساء / 155)
3 ـ (وَمَنْ أَظْلَـمُ مِمَّنْ ذُكِّـرَ بآيـاتِ اللهِ فَأَعْرَضَ عَنْهـا وَنَسِـيَ مـا قَـدَّمَتْ يَـداهُ اِنّـا جَعَلْنـا عَلَـى قُلُوبِهِـمْ اَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُـوهُ وَفِي آذانِهِـمْ وَقْراً وَاِنْ تَدْعُهُـمْ اِلى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا اذاً أَبدا)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – نهج البلاغة الخطبة 27.
[337]
(الكهف / 57)
4 ـ (وَالَّذِيْنَ لا يُؤْمِنُونَ فِـي آذانِهِم وَقْر وَهُوَ عَلَيْهِـمْ عَمـىً أُوْلـئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكـان بَعِيد)
(فصلت / 44)
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
لِمَ يحجب الذنبُ القلوبَ عن الفقه؟
إِنَّ الآية الاولى بعد إشارتها الى تاريخ وقصص خمسة أقوام من الأقوام السالفة وهم (قوم نوح، وهو، وصالح، ولوط، وشعيب) حيث نزل عيهم العذاب الالهي لتكذيبهم آ ات الله، قالت: (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ …).
إن جملة (وَكَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرينَ) لا تشير الى أي كافر كان، وذلك لأن كثيـراً من المـؤمنين كانوا في صفوف الكفار والتحقوا بصفوف المؤمنين بعد سماعهم لدعوة الأنبياء، فالمراد ـ إذن ـ ذلك الفريق من الكافرين الذين ألحوا وأصروا على كفرهم، فان كفرهم هذا يحول دون معرفتهم ورؤيتهم للحق.
والشاهد على هذا الكلام هو قوله: (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمـا كذّبُوا مِنْ قَبْلُ) أي ان تعصبهم بلغ درجةً لا تسمح لهم بتغيير طريقتهم والرجوع عن الباطل الى الحق، وقد ذكرت خمسة وجوه في تفسير هذه الجملة في تفسير الميزان والفخر الرازي(1)، إلاّ أن أظهرها هو ما تقدم اعلاه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الميزان الجزء 8 الصفحة 215، تفسير الفخر الرازي الجزء 14 الصفحة 186.
[338]
والآية الثانية بعد ما أشارت الى سلوك فريق من اليهود وعدائهم للأنبياء قالت: (فَبما نَقْضِهِمْ مِيْثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ …).
يقـول القرآن: إنهم لا يفقهون شيئاً وذلك لكفرهم فطبع الله على قلوبهم من جراء ذلك.
بـديهي ان المـراد من الكفر هنا هو الكفـر المتزامن مـع العناد، والكفر المتزامن مع العداء للأنبياء، والكفر المتزامن مع نقض المواثيق باستمرار والاستهزاء بآيـات الله، ومسلم أن كفراً كهـذا يجعل حجـاباً على عقـل الانسان لا يسـمح لصاحبه أن يدرك الحقائق، وهـذا شيء صنعته أيـديهم ولا جبـر في البين.
ويظهر ان مرادهم من «قلوبهم غلف» هو الاستهزاء بايات الله وبشخصية موسى بن عمران، لا أنهم يعتقدون أن قلوبهم خُلِقت مغلَّفةً لا تفهم الحقائق (كما جاء ذلك في بعض التفاسير)(1)، إلاّ أنَّ الله أخذ كلامهم بالجد وأجابهم: (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ).
وهناك احتمال آخر وهو ان مرادهم من الجملة هو أن قلوب كلٍّ منهم كالوعاء المليء بالعلم والغمد الذي فيه السيف فلا تحتاج لعلوم الآخرين(2)، إلاّ أن هذا الاحتمال بعيد جداً.
وعلى هذا، فهناك ثلاثة احتمالات في تفسير الآية والأول أنسب من الاخرين، وقد نقل في بعض التفاسير حديث ذا مغزىً عميق عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول فيه: «الطابع مُعَلّق بقائمة العرش فاذا انتهكت الحرمة وعُمِل بالمعاصي واجتُريء على الله تعلى بَعَثَ الله تعـالى الطابع فطبـع على قلبـه فلا يعقـل بعد
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الميزان الجزء 5 الصفحة 38، والقرطبي الجزء 3 الصفحة 2004.
2 – لقد جاء هذا الاحتمال في التفاسير التالية: الفخر الرازي الجزء 11 الصفحة 87، والقرطبي الجزء 3 الصفحة 2004، وروح المعاني الجزء 6 الصفحة 8.
[339]
ذلك شيئاً»(1).
والجدير ذكر هو ان «طابع» اسم فاعل للطبع و«طابَع» اسم آلة الطبع، ويظهر في الحديث ان الكلمة الاولى بالفتح والثانية بالكسر.
وهذا الحـديث يؤكد بوضوح الحقيقة التـالية: أَنْ لا جبر هنا، وانّ حجب القلوب نتيجة لأعمال الانسان نفسه.
* * *
وَطـرحت الآية الثـالثة سؤالا تقـريـرياً حيث قـالت: (وَمَـنْ أَظْلَـمُ مِمَّـنْ ذَكِّرَ …).
إن وجه اعتبار القرآن هؤلاء أظلم الناس واضح لأنهم ظلموا أنفسهم كما ظلموا الاخرين وكما ظلموا الله ودينه، وعليه فالآية لا تدل على عدم الجبر فحسب، بل تدل على الاختيار.
وما يـلفت النظر هنـا هو ان الفخر الرازي بالرغـم من كونه من القـائلين بالجبر، لكنهُ عندما يصل الى هذه الآية يقول: إن آخر الآية دليل لمؤيدي الجبر، بينما صدرها دليل لمؤيدي الاختيار! ثم يضيف: قلّما نجد آية في القرآن تؤيد أحد الفريقين، واذا ما وجدنا آية مؤيدة لفريق وجدنا قبالها اية تؤيد الفريق المقابل، والتجربة شـاهد على ما نقـول، وهذا امتحـان صعب من الله للعبـاد، وذلك لكي يتميـز الراسـخون في العلم عن المقلِّدين(2)! ياله من اعتراف عجيب؟!
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – روح المعاني الجزء 6 الصفحة 8.
2 – تفسير الفخر الرازي الجزء 21 الصفحة 142، والعجيب ان الالوسي في روح المعاني عندما نقل عبارة الفخر الرازي ادعى ان الفخر الرازي قال: إن هذه الآية من أدلة القائلين بالجبر والآية التي قبلها من أدلة القائلين بالاختيار. وقد نقصل صاحب الميزان العبارة من روح المعاني، بينما مراد الفخر الرازي صدر وذيل الآية نفسها (تأمل جيداً).
[340]
ونضيف الى ما قاله الفخر الرازي: ان كلا من آيات القرآن لا يمكن دراستها وملاحظتها لوحدها من دون ملاحظة ودراسة الآيات الاخرى فضلا عن صدر وذيل الآية الواحدة، كما نقول: إن الآية بصدرها وذيـلها دليل على مسألة الاختيار لا شيء آخر، وذلك لأن صدرها يقول: إن الاعراض عن آيات الله واقتراف الذنوب من أفعال الانسان وهو فاعلها باختياره، بينما ذيل الآية يقول: إن الله يعاقب المُصرّين على السير في هذا الطريق، وعقابهم هو جعل الأكنة على
قلوبهم.
وبتعبير آخر: إن الله جعل لهذه الذنوب آثاراً ومردودات، وتلك هي تعكُّر صفاء القلب، وسلب قدرة التمييز عن الانسان، وأي جبر في هذا الحديث؟!
مثله كمثل الخبير الذي يعلم بأن السم قاتل، وبالرغم من ذلك يتناوله. فهل هذا. التأثير القهري للسم جبر؟!
* * *
وقد أشارت الآية الاخيرة الى المعاندين والمتحججين الذين يسألون ـ أحياناً ـ هذا السؤال: لِمَ لَمْ ينزل القرآن أعجمياً كي نعيره أهمية أكبر ولكي لا ينحصر في العرب؟
(قد يكون غرضهم الأساسي من هذا هو عدم فهم الناس عامة له والاقبال عليه إذا ما كان عجمياً).
فأجابهم القرآن في صدر الآية: (وَلَوْ جَعَلْنـاهُ قُرآناً أَعْجَمِيّاً لَقالُوا لَوْ لا فُصَّلَتْ آياتُهُ) أي لأشكلتم اشكالا آخر وهو: ان القرآن مبهم وغامض، ثم يضيف القرآن: (ءَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) أي هل يصحّ لنبي عربي أن يحمل قرآناً أعجمياً؟ وهذا اشكالهم الآخر اذا ما نزل بلسان أعجمي.
ثم أمـر الله الـرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يجيبهـم هـكذا: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً
[341]
وشفـاء والذين لا يؤمِنُؤنَ في آذانِهِم وقرٌ وَهوَ عَلَيهِم عمىً وأُولئِكَ يُنادَؤنَ من مكان بَعيد).
وقد بيّنت الآية بوضوح ان التحجج والعناد والإصرار على الكفر يجعل حجاباً على القلوب يمنعها عن الادراك والفهم(1).
* * *
12 ـ حجاب الاعتداء والعدوان
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلا اِلى قَومِهِمْ فَجـاؤُهُمْ بِالْبِيِّنـاتِ فَمـا كـانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمـا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِيْنَ)
(يونس / 74)
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
بيّنت الآية السابقة لهذه الآية من سورة يونس قصة نوح، حيث كان يدعو قومه لله ويسعى لهدايتهم وانذارهم من عذاب الله، إلاّ أنهم كذبوه، فاغرقهم الله بطوفانه وأهلكهم، وأنقذ المؤمنين منهم بالسفينة فورثوا الأرض.
ثم يضيف الله في الآية: إنا أرسلنا ـ بعد نوح ـ رسلا كلا الى قومه مع معاجز
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – فسر البعض عبارة «وهو عليهم عمىً» بأن القرآن سبب لعمي هذا الفريق، بينما قال ابن منظور في لسان العرب والراغب في المفردات: إن جملة (عمى عليه) تعني اشتبه عليه حتى صار كالأعمى (تأمل جيداً).
[342]
وأدلة واضحة ومنطقية ورسائل يشهد محتواها على أحقيتهم، إلاّ انهم لم يخضعوا للحق واستمروا في تكذيبهم.
ويقول الله في ذيل الآية: (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ)، وهذه اشارة الى ان الاعتداء والعدوان على الرسل يترك حجاباً في القلب يحول دون معرفة القلب لآيات الله وتمييزه بين الحق والباطل.
إن الطبع على القلوب كما يمكنه أن يكون عقاباً إلهيّاً للمعتدين، يمكن أن يكون أثراً من آثار الاستمرار في الاعتداء، والمراد من الاعتداء هنا هو الاعتداء على الساحة الالهية والمعصية واقتراف الذنوب ومعاداة الرسل.
إن جملة: (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) إشارة الى أن بعض الرسل جاءوا إلى أقوامهم فكذبوهم، ثم أرسل الله إليهم رسلا آخرين مع أدلة واضحة فما آمنوا كذلك، وذلك لأن عنادهم نسج حاجباً سميكاً على عقولهم فأصبحوا لا يفهمون شيئاً ولا يعقلون.
ويقو البعض: إن المراد من المكذبين في الآية قوم نوح الذين أُغرقوا بالطفوان، والمراد من القوم الذين لم يؤمنوا الأقوام التي جاءت بعد قوم نوح وقد سلكوا مسلك قوم نوح في الاعتداء على الرسل وتكذيبهم(1).
ويبدو هذا التفسير بعيداً لان لازمه اختلاف مرجع الضميرن في (كذّبوا) و(ليؤمنوا)، ولهذا فالافضل هو التفسير الأول.
ويحتمل ان يكون المراد هو: الاقوام التي جاءت بعـد نوح والتـي قـد نُقِلت لها حقائق عن دعوة الانبياء السالفين فكذبوا تلك الحقائق، ثم جاءتهم رسل فكـذبوهم كذلك، وعلى هذا فالتكذيب الاول يتعلق بما نُقِلَ وحُكِي لهم، والتكذيب الثاني يتعلق بالامور التي شاهدوها من الانبياء بأُم أعينهم(2) ويبدو ان هذا التفسير مناسب، ولا يبعد الجمع بين التفسيرين.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – مجمع البيان الجزء 5 الصفحة 125.
2 – روح المعاني الجزء 11 الصفحة 143.
[343]
* * *
13 ـ حجاب الرؤية السطحية وترك التدبر
1 ـ ( وَيَـدعُ الاِنْسـانُ بِالشَّـرِّ دُعـائَـهُ بِالْخَيْـرِ وَكـانَ الإنْسـانُ
عَجُـولا)
(الاسراء / 11)
2 ـ (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرآنَ أَمْ عَلى قُلُوب أَقْفـالُهـا)
(محمد / 24)
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
اقفال القلوب الثقيلة:
في الآية الاولى يذكر الله احد اسباب الكفر وعدم الايمان بالله وهو عدم دراسة الامور، ويقول: انهم وسبب إضطرابهم وتسرعهم يتجهـون احيـاناً نحو الشر بشكل وكأنهم يتجهون نحو الخير والسعادة، ويتجهون نحو الهاوية بشكل وكأنـهم يتجهون نحو مكان آمن ويتجهون نحو الذل العار وكما لو كانوا يتجهون نحو طريق الفخر والعز.
اي انّ تفكيرهم السطحي وتركهم التدبر يجعل حجاباً على العقول يحول دون ادراكهم الصحيح، فيرون ـ لاجل ذلك ـ الشرّ خيراً والشقاء سعادة، والضلال صراطاً مستقيماً.
وقد جاء في تفسـير الميزان: ان المراد بكـون الانسان عجولا هو : انـه لا
[344]
يأخذ بالاناة اذا اراد شيئاً حتى يتروى ويتفكر في جهات صلاحه وفساده حتى يتبين له وجه الخير فيما يريده من الأمر فيطلبه ويسعى اليه، بل يستعمل هواه في طلبه بمجرد تعلقه به فربما كان شراً فتضرر به، لكن جنس الانسان عجول لا يفرق بين الخير والشر بسبب عجلته، بل يطل كلما ما لاح له ويسأل كل ما بدا له فتعلق به هواه من غير تمييز بين الخير والشر(1).
اما المراد من «يَدْعُ» هنا؟ فيقول البعض: انه الطلب سواء كان في صورة دعاء او طلب من الله او كان بصورة طلب عملي اي، السعي لتحصيل الشيء وبذل اجهود لِنَيْلِهِ(2).
الا ان المستفاد من بعض التفاسير ان المراد هو الدعاء اللفظي والطلب من الله، وهذا قيل في شأن زول الآية: انها نزلت في حق الـ (نضر بن الحارث) من مشركي العرب المعروفين حين قال: (اَللّهُمَّ اِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطَرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ)، فاستجاب الله هذا الدعاء وأهلكه(3).