تشخص القلوب والأبصار، في شرق العالم وغربه، إلى قرار “الاحتياطي الفيدرالي” الأميركي المتعلق بتحديد أسعار الفائدة على الدولار، لكن اللحظة بقدر ما فيها من عجز وآلام، فيها أيضًا فرصة للعقل ووخزة للوعي. على إنسان المنطقة العربية أن يعرف أن هذا الاهتمام لا يأتي من جانب شركات العقارات أو سماسرة البضائع أو أسعار الوقود وتكاليف النقل. هو أمر لا يتوقف على البنوك ومسؤولي الحكم، إنه يخص مباشرة وفي الصميم مستوى معيشته وقدرته على استكمال هذه الدورة الجهنمية من التبعية –كفرد أو بلد- في المنظومة الأميركية، إنها “أم الخبائث” أميركا التي تحدد سعر رغيف “العيش” والمواصلات ومصروفات الدراسة والأدوية في كل الكوكب.
وكما كان طوفان الأقصى فرصة قدم فيها “جزء من الأمة” أثمان الرفض والإباء والكرامة، لكسر الهيمنة العسكرية للأميركي، فإنه يتعين على أجزاء أخرى أن تعي درسها، ولو بدون حروب، تتعلم من مرارات السنوات السوداء التي أعقبت جائحة “كورونا”، وكيف استغل الشيطان الأميركي الفرصة لاستدراج ثروات العالم إلى بلاده، عبر إصدار التريليونات من الأوراق الملونة “الدولار”، والاستيلاء قسرًا على ما يعبر به أزمته المالية، ثم اتخذ قرارات متتالية بزيادة الفائدة على الدولار بداية من 2022، ليسحب الاستثمارت من الاقتصاديات النامية والضعيفة خصوصًا إلى أسواقه.
لفهم أزمة الدولار، أو هيمنته الشنيعة على أية دولة في العالم، لا بد من العودة سنوات طويلة للوراء، لقراءة أول سطر من المؤامرة الشيطانية، بداية صعود الدولار كعملة عالمية ووحيدة للتبادل التجاري، وكعملة احتياط دولية للبنوك المركزية حول العالم، جاءت قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية بشهور قليلة، عبر رسم أميركا لإنشاء النظام المالي العالمي القائم حتى يومنا هذا، والذي تم في أشهر وأخطر اجتماع في التاريخ المعاصر، مؤتمر النقد الدولي بغابات ولاية نيوهامبشير، خلال الشهور الأخيرة في عام 1944، والمعروف أكثر باسمه المختصر “بريتون وودز”.
في هذا المؤتمر تعهدت حكومة الولايات المتحدة باعتماد قاعدة الذهب مقابل الدولار، حيث التزمت بأن كل من يقدم 35 دولارًا يحصل على أوقية من الذهب الخالص، لتضع عنوانًا لعملتها هو “الثقة”، وبالثقة أصبح الدولار الأميركي مقبولًا لدى كل طرف متعامل على وجه الكوكب، فهو يظن أنه –وفي أي وقت- يستطيع ببساطة استبدال هذه الأوراق مقابل الذهب.
ثمة حقائق أخرى ساهمت في تمرير أن تكون العملة الدولية للتسوية هي الدولار، إذ خرجت الولايات المتحدة وهي المنتصرة الحقيقية والكبرى من هذه الحرب الكونية، حيث دفعت أقل التكاليف وحصدت كل المكاسب، وكان سلاحها النووي عنوانًا وإلهًا متجسدًا للقوة الفتية الجديدة، قوة قاهرة فوق أية قوة، لا يجرؤ أحد -ولا يريد- مواجهتها أو مضاهاتها، وكانت مصانعها البعيدة عن مدى طائرات دول المحور تعمل على مدار الساعة وطوال الوقت، لتوفر الإنتاج اللازم للمجهود الحربي للحلفاء، وفي نهاية الحرب كانت نتيجة طبيعية أن تستحوذ واشنطن على 45% من حجم الإنتاج العالمي كله، بشكل لم يسبق لقوة منفردة أن قامت به عبر التاريخ.
في الحقيقة كانت الخدعة الأميركية هي أن كل الدول التي حضرت ووقعت على الاتفاقية كانت تتوهم أنها تتجه إلى نظام نقد يقوم على الذهب، اعتمادًا على التعهد الأميركي باستبدال الدولار بالذهب، لكن التخطيط الشيطاني الأميركي كان يرسم خطواته بمكر إبليس، ويحكم الخناق على ضحاياه بخيوط وحبال، وضعوها هم حول رقابهم، ومع ظرف تاريخي نادر، وهو أن كل القوى الكبرى خرجت من الحرب منهكة مدمرة وعاجزة، عدا أميركا البعيدة خلف المحيطات الشاسعة، فقد كان الأمان يضاف إلى عاملي الثقة والقبول من العالم كله، مجبرًا أو مضطرًا.
لكن كل هذه العوامل التي استغلها التسويق الأميركي الغادر لم تلبث أن تلاشت وانتهت، واحدة وراء الأخرى، في عام 1961، ومع ارتفاع سعر الذهب في العالم إلى 40 دولارًا للأوقية الواحدة، ومع انزلاق الأميركي إلى فخ حرب فيتنام، وقيام الاحتياطي الفيدرالي بعملية طباعة هائلة للدولار لتوفير نفقات الحرب الطويلة، عصفت أزمة اقتصادية عاتية من التضخم المنفلت، بالولايات المتحدة أولًا، ثم انتقلت إلى الغرب كله.
في هذا الوقت قامت الولايات المتحدة بأضخم عملية “سرقة” في التاريخ، يوم 15 آب/ أغسطس 1971، أعلن الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون وقف العمل بنظام تحويل الدولار إلى الذهب، ما سيعرف تاريخيًا باسم “صدمة نيكسون”، وبهذا التصرف حصلت الولايات المتحدة على ذهب العالم وسرقت موارده واستولت على احتياطياته وثرواته، مقابل أوراق خضراء لا تساوي شيئاً على الإطلاق، وكان من الطبيعي أن ترتفع أوقية الذهب لتصل إلى 850 دولارًا في 1980 من 35 دولارًا فقط طبقًا للتعهد الأميركي، وهذا الفارق المروع كله هو قيمة عملية السطو الأميركية الأكبر.
“عبد الهادي”: نهاية هيمنة الدولار
قال الباحث الاقتصادي الدكتور مجدي عبد الهادي، في تصريحات خاصة لموقع “العهد الإخباري”، إن التاريخ هو أدق تفسير للواقع، وهو أيضًا معمل العلوم الاجتماعية الأول، وعليه فإن وضع هيمنة الدولار كعملة دولية وحيدة على وشك الانهيار، بدافع أساسي من المديونية الأميركية الهائلة، والتي تجاوزت 35 تريليون دولار، تساوي ربع إلى ثلث الناتج المحلي العالمي، بالضبط كما انهار وضع الجنيه الإسترليني في مطلع القرن العشرين بسبب المديونية، وبالنسبة للتاريخ القريب، فإن الاتجاه الواضح بتراجع حصة الدولار في احتياطيات العملات الأجنبية لدى دول العالم من نحو 72% عام 2000 إلى 58% منها تقريبًا عام 2020؛ تماشياً مع حدثين بارزين خلال هذه الفترة، هما أولاً ظهور اليورو كعملة مُوحدة حسمت من رصيد الدولار، وثانيًا، والأهم، النمو المتسارع لحصة الصين في الاقتصاد العالمي وانعكاسات ذلك على جزء من تعاملاتها الثنائية بعملتها الخاصة.
وأضاف “عبد الهادي” إن الولايات المتحدة فاقمت من التناقضات المكتومة في الاقتصاد العالمي، بالإفراط في طباعة الدولار طوال العقد الماضي، وخلال أزمة تفشي “كورونا” تحديدًا، ثم إنها بددت الثقة في عملتها حين استعملت دولارها سلاحًا للعقوبات ضد قوة معتبرة كروسيا، بعد الحرب الأوكرانية، وفي أسوأ وقت ممكن من جهة التبعات السلبية لسياسات التشديد النقدي على اقتصادات الدول المرتبطة بالدولار، لتذكر دول العالم كافة بأزمات الاعتماد المفرط على عملة دولية لا تقدم لهم ضمانات بعدم استخدامها سياسيًا واقتصاديًا ضد أي طرف في أي وقت، يُفتح الباب مُجدداً للجدل الجديد القديم حول ضرورة عدم استمرار الهيمنة الأميركية المطلقة غير الآمنة من جهة، والتي بدأت تتراكم روافع نهايتها بالفعل من جهة أخرى.
“جنينة”: خفض واستقرار
قال الدكتور هاني جنينة، الخبير الاقتصادي، والمحاضر بكلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية، في تصريحات خاصة لموقع “العهد الإخباري”، إن توقعات الأسواق تشير إلى أن قرار الاحتياطي الفيدرالي سيكون خفض الفائدة، في الغالب ستكون بنسبة 25 نقطة أساس، وربما يخفضها 50 نقطة أساس، وهذا يعود إلى وضع الدولار عالميًا والذي فقد مؤشره جزءًا من قيمته (يتراوح بين 3-4%)، وبالتالي سيدفع الاحتياطي الفيدرالي باتجاه استقرار وتهدئة الأسواق.
وعن الأثر المنتظر للقرار، أضاف “جنينة” أن الأثر في دول الخليج لن يكون كبيرًا، إذ تتبع قرارات الاحتياطي الفيدرالي بقرارات خفض مماثلة، ولن يكون للقرار تأثير كبير، إذ تعتمد تلك الدول اقتصاديًا على مداخيل البترول والإنفاق العام، أما بالنسبة للدول العربية الأخرى مثل مصر، فإن القرار سيحقق هدوءًا في الأسواق، ومن الممكن أن يخفض المركزي المصري الفائدة في اجتماعه خلال أكتوبر المقبل، وهذا سيعني تقليل تكلفة الاقتراض وبداية موجة من التشغيل، بعكس ما يجري في حالة رفع الفائدة الأميركية.
البحث عن “نموذج”
تلخص قصة هيمنة الدولار على العالم، على كل دولة وكل إنسان، قضية الذراع الطويلة لإمبراطورية امتلكت من أسباب النفوذ ما لم تحلم به أية إمبراطورية سبقتها في التاريخ من تأثير وقدرة ونفوذ، ثم إن هذه الورقة الخضراء –الدولار- صارت عنوان قوتها والتعبير الأمثل عن هيمنتها وأخطر أسلحتها وأمضاها، ويكمن فيها مفتاح استمرارها أو مبتدأ سقوطها، في آن.
خلال السنوات التي أعقبت أزمة “كورونا”، فإن الولايات المتحدة المأزومة أمام صعود الصين وعناد روسيا، وصلابة “نموذج” إيران في تبني اقتصاد مقاومة بمعنى الكلمة، قد قررت أن تصدّر أزمة التضخم فيها إلى العالم، وأن تحل مشكلتها من جيوب الآخرين، رفع سعر الفائدة على الدولار يحقق حزمة من النتائج المروعة على الدول النامية، فرفع الفائدة على الدولار يضغط على عملات الأسواق الناشئة بشكل مخيف، إذ سيكون الحصول على الدولار أصعب وأكثر كلفة، وبالتالي تتراجع مدفوعات التجارة الخارجية لهذه الأسواق، وترفع تكلفة الديون الخارجية وفوائدها، وبالتالي ستترجم إلى ارتفاع التضخم وانفلات الأسعار، بفعل ضعف القوة الشرائية للعملة المحلية أمام الدولار، ويمثل الدولار 58.3% من احتياطات الدول لدى صندوق النقد الدولي، كما تجري به أغلب عمليات التجارة الدولية، وهو الأمر الذي يدفع إلى الوقوع في أزمات مالية متتالية ستدفع بالاقتصاد العالمي إلى الركود، آجلًا أو عاجلًا.