اعتمد اعلامه في البداية على ذكر شرفه العائلي ونسبه، وقال: «أنا خير من هذا المهين مشيراً الى موسى» (أي أعلى من هذا الذي ينتسب الى طبقة الرعاة من بني اسرائيل).
كما انه «لا يكاد يبين» أي أنا أوضح منه كلاماً.
وفضلا عن ذلك «فلو لا القي عليه اسورة من ذهب» أي لِمَ لم يكن له سوار من ذهب الذي كان يُعد علامة وبيان لشخصية صاحبه.
ثم انّه اذا كـان صادقاً لِمَ لـم يأتِ بملائـكة معه كـي تكون شهـوداً علـى صدق كلامه؟
وبهذه الحجج الاربع ادعى بطلان نبوة موسى(عليه السلام).
يقول القرآن في هذا المجال: (اِسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فأطاعُوه).
إن «استخف» من مادة «خفيف» والمراد منه هنا هو ان فرعون سعى لأن يستخف عقول قومه، جاء في تفسير مجمع البيان: ان فرعـون استخف عقـول قومه فأطاعوه فيما دعاهم اليه لأنه احتج عليهم بما ليس بدليل وهو قوله: أليس لي ملك مصر … الخ(1) (واستخفاف الطفاة للجماهير الله لا غرابة فيه; فـهم يـعزلون الجماهير أولا عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها ولا يعودون يبحثون عنها; ويلقون في روعهم ما يشاؤون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة، ومن ثم يسهل استخفافهم بعـد
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير مجمع البيان المجلد 9، الصفحة 51.
[378]
ذلك، ويلين قيادتهم، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين)(1).
والجدير بالذكر ان القرآن يقول في نهاية الآية: انـهم أطاعوه واستسلموا لأعلامه، وذلك لأنهم مذنبون وفاسقون، وهو يشير بذلك الى أن المؤمن الهادف والواعي لا يكون عرضة لظاهرة غسل الأدمغة، بل الفسق والذنوب هي التي تهييء الأرضية لتقبل إعلام باطل كهذا.
وبتعبير آخر: فان «النفس الامارة» من الداخل، و«الوساوس الشيطانية» من الخارج يتعاضدان فيكتمان المعرفة عن الانسان.
* * *
ايضاحات:
الجوانب المتعددة للأعلام المضلل:
إن هذه القضية في عصرنا الحاضر أوضح من أن تبحث أو تُناقش، كما انه لم تخفَ على التاس في العهود الغابرة.
إن الجـبابرة الذين أرادوا فرض حكومتهم على الناس، توسلوا بوسائل إعلامية مختلفة لغسل أدمغة الناس، بدء بالمكاتيب القديمة وانتهاء بالمحاريب والمنابر، وأخذاً برواة القصص والأساطيـر في المـقاهي، وانتـهاء بالكتب العلمية.
والخلاصة : إنـهم استعانوا بـجميع الـوسائل المظلة للـوصول الـى مآربـهم، من تحريف التاريخ، وأشعار الشعراء، وثناء المداحين، ومراكز التقديس والاحترام عند الناس، واختلاق الاساطير والكرامات والقيم غير الواقعية،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – في ظلال القرآن المجلد 7، الصفحة 340.
[379]
وغيرها من الوسائل، فانهم يستطيعون بوسائل الاعلام هذه ان يصوروا الشيطان ملكاً أو انساناً محترماً، وذلك كله للوصول الى مآربهم.
وقد جاء في بعض التواريخ الاسلامية المعروفة أن طاعة اهل الشام لمعاوية بلغت درجة عجيبة، وننقل هنا عبارة المسعودي في هذا المجال:
«لقد بلغ من أمرهم في إطاعتـهم له أنه صلى بهم عند مسيرهم الى صفين الجمعة في يوم الأربعاء»(1).
والقصة التالية قصة معـروفة (وَلَوْ لَـمْ تكن مرويّةً فـي كتب التاريخ لكان قبولها صعباً)، حيث ان رجلا من أهل الكوفة قدم دمشق راكباً جملا في وقت كان أهل الشام يرجعون من صفين، فرآه رجل دمشقي فقال له: إن هذه الناقة لي وأنت أخذتها مني في صفين، فتنازعا فاشتكى الشامي عند معاوية (وكأنّها اتخذت صبغة سياسية) وجاء بخمسين شاهد على أن هذه الناقة له، فقضى له معاوية على أساس الشهود.
فصرخ الكوفي قائلا لمعاوية: إن هذا جمل وليس ناقة (انثى الجمل)، وطلب منه أن يلاحظها بنفسه، فأدرك معاوية صدق الكوفي فيما يقوله، لكن رغم ذلك قال له: إن حكم صدر وانقضى، وبعد ما تفرّق الناس أرسل معاوية رجلا الى الكوفي، فأتاه وأعطاه ضعف قيمة جمله، وقال له: «ابلغ علياً اني اُقابله بِمِائةِ ألف ما فيهم من يُفرق بين الناقة والجمل»(2).
وخلاصة القول: إن في التاريخ شواهد ونماذج كثيرة تكشف عن كيفية إغواء الطغاة والساسة لأُمم عظيمة وغسل أدمغتهم بحيث ظلوا حَيارى في متاهات الدروب، وابتلوا بمصائب كثيرة، وعند استتباب الاوضاع ورجوعها الى حالتها الطبيعية، وعند سقوط الجبار المضل، وارتفاع حجب الاعلام، يستيقظ بعض
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – مروج الذهب الجزء 2 الصفحة 72 طبعة مصر 1346.
2 – مروج الذهب الجزء 2 الصفحة 72، الامام علي صوت العدالة الانسانية الجزء 4 الصفحة 956.
[380]
الناس واينتبهوا لماضيهم فيتأسفوا ويندموا كثيراً.
وفي العصر الحاضر اكتسب الاعلام قدرة عظيمة بدرجة انَّ في بعض الدول المتقدمة ـ اصطلاحاً ـ تأخذ وسائل الاعلام بأيدِ الشخصيات العلمية والمفكرين الواعين نسبياً الى صناديق الاقتراع ليصوتوا للشخصيات التي تدعو اليها وسائل الاعلام تلك، وقد يتصور انهم احرار على الاطلاق، بينما لا خيار لهم من جراء وسائل الاعلام تلك.
إن اتساع وسائل الاعلام المسموعة والمرئية واستعانتها بفنون علم النفس يزيد في تأثير الاعلام على النفوس بدرجة يَحارُ فيها الخارجون عن دائرة الاعلام والمتكّنون من متابعة الامور من دون رأي مسبق فيها.
إن هذا الأمر لم ينحصر في الامور السياسية فحسب، بل في الامور الاقتصادية كذلك، فان وسائل الاعلام يمكنها بحملة إعلامية أن تسوق المجتمع نحو استهلاك سلعة قد تكون اعتباطية أو مضرة أحياناً، وبهذا يُفرض على المجتمع اقتصادٌ سقيم.
إن الاستعانة بعناوين وقيم كاذبة مثل الاستعانة بعنوان «موديل» أحد أوسع وأعقد الطرق للوصول الى هذه الأهداف غير المشروعة.
كما انه يستعان بالاعلام الثقافي الغامض لفرض المذاهب الفكرية المختلفة على الشعوب، فتارة يُفرض مذهب باطل وعار عن الاسس المنطقية، وكأنه مذهب فلسفي منطقي انساني.
وعلى أي حال، فمما لا شك فيه انه ينبغي رفع هذه الحجب عن المجتمع وتصحيح اتجاه المعرفة فيه، كما ينبغي عدم ترك وسائل الاعلام أن تفكر وتقرر بدلا عن المجتمع، بل يحدد عملها في توعية الناس، وتهيئة الأرضية لهم لاتخاذ القرارات الصحيحة.
ينبغي ان لا يكون هدف وسائل الاعلام الجماعية هو وضع الحجب على عقول
[381]
الناس والتعتيم عليهم، بل ينبغي ان يكون الهدف هو رفع حجب التعصب والجهل والغفلة والتقليد العشوائي عن العقول، وهذا هو البرنامج الراقي لوسائل الاعلام في مجتمع رشيد ونموذجي، والمؤسف في عصرنا الحاضر هو قلة مثل هذه المجتمعات.
إن النقص في وسائل الاعلام هو انها بيد الساسة، والأسوء من ذلك انها بيد العمالقة الاقتصاديين الذين يوجهون الناس أين ما شاءوا.
حجاب وساوس الشياطين
في البداية نصغي خاشعين للآيات التالية:
1 ـ ( فَلَوْلا اِذْ جـائَهُمْ بِأْسُنـا تَضَرَّعُوا وَلـكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّـنَ لَهُمُ الشَّيْطـانُ مـا كانُوا يَعْمَلُونَ)
(الانعام / 43).
2 ـ ( وَجَدْتُهـا وَقَوْمَهـا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّـنَ لَهُمُ الشَّيْطـانُ أَعْمـالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ)
(النمل / 42).
3 ـ ( وَعـاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسـاكِنِهِمْ وَزَيَّـنَ لَهُمُ الشَّيْطـانُ اَعْمـالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكـانُوا مُسْتَبْصِرِينَ)
(العنكبوت / 38).
4 ـ ( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمـنِ نُقَيّضْ لَـهُ شَيْطـاناً فَهُوَ لَـهُ قَرِيـنٌ * وَاِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ)
(الزخرف / 36 ـ 37).
5 ـ ( وَكَذلِكَ جَعَلْنـا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواً شَيـاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ اِلى
[382]
بَعْض زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً)
(الانعام / 112).
6 ـ ( اِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى اَدْبـارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مـا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُـدى الشَّيْطـانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ)
(محمد / 25).
7 ـ (يـا اَيُّهـا النّـاسُ اِنَّ وَعَدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيـاةُ الدُّنْيـا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ)
(فاطر / 5).
* * *
شرح المفردات:
إن «الشيطان» خلافاً لما يظنّ البعض ـ ليس اسماً خاصاً بابليس وعلماً له، بل له مفهوم عام، وعلى ما يُصطلح عليه فهو «اسم جنس» يشمل كل موجود متمرد وباغ ومخرّب، سواء كان من الجن أو الانس او شيئاً آخر.
وهنالك قولان في اصل هذه المفردة:
القول الاول هو القائل بأنه من مفردة «شُطُون» أي البُعد، ولهذا قيل للبئر العميق والبعيد قعره عن متناول الأيدي «شَطون»، ويقول «خليل بن أحمد»: إن شَطَن تعني الحبل الطيول، وبما أن الشيطان بعيد عن الحق وعن رحمة الله استعملت هذه المفردة فيه.
والقول الثاني هو القائل بأنه من مادة «شَيْط» ويعني الالتهاب والاحتراق غضباً، وبما ان الشيطان خلق من نار واشتعل غضباً عندما أُمر بالسجود الى
[383]
آدم(عليه السلام) أطلقت هذه المفردة عليه وعلى الموجودات الاخرى من أمثاله(1).
«الغَرور» من مادة «غُرور» أي الخدعة والحيـلة والغفـلة عنـد اليقظة، وقد اطلقت هذه المفردة على الشيطان لأنه يغرّ الناس بخدَعِه وحِيَله ويخرجهم عن الطريق الصواب، ويغيّر رؤيتهم للحق والباطل.
«الغَرور» كل شيء يغـرّ ويخدع، وهو أعمّ من المال والمقام والشهوة والشيطان، واذا فسّر أحياناً بالشيطان فقط فذلك لأنه أخبث الخـادعين والماكرين.
أما «التسويل» فمن مادة «سُؤْلَ» وفي الأصل يعني الحاجة والامنية التي ترغب النفس فيها، والتسويل يعني تزيين الشيء بشكل حيث تشتاق إليه النفس، كما جاء بمعنى تزيين الاشياء القبيحة.
هذا التفسير ذكره الراغب في مفرداته، إلاَّ أنه يستفاد من صِحاح اللغة وكتاب العين، أن معناها في الأصل هو الاسترخاء المتزامن مع الغرور والغفلة، ولهذا اطلقت هذه المفردة على تزيين الامور غير السائغة واظهار عكس ما هي عليه وبشكل سائغ، بحيث يُخدع الانسان من جراءها ويسترخي.
وعلى أي حال، فان المراد من تسويلات الشيطان في الايات هو إظهار القبح حسناً بكشل يخدع الانسان ويحرفه.
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
كيف يُزيّن الباطل؟ وكيف تُسحر العيون؟
تحدثت الآية الاولى عن فريق من الأقوام السالفة الذين أُرسل إليهم رسلٌ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – التحقيق في كلمات القرآن الحكيم ـ مفردات الراغب ـ لسان العرب ومجمع البحرين (مادة شيطان).
[384]
ليؤمنـوا ويسلموا أنفسهم للحق، إلاّ انهم اعرضوا عن ذلك، فأنـزل الله عليهـم بأسه، فابتلاهم بمختلف المشـاكل والمصائب والحـوادث الصعبة، والفقر والمـرض والقـحط وغير ذلك، كي يوقظـهم من غفلتهـم، ولكـي يخضعوا للحق، إلاّ انهم اتخذوا السبيل المنحرف بدل سبيل الرشاد والرجوع الى الحق والتوبة.
يقول القـرآن في هذا المجال: لماذا لم يتضرعوا بالرغم من مجيء بأسنا لهم؟ ثم يعدُّ أسـباب هذا المر ويقول: الاول هو (قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) فما كادت تخضع للحق.
والثـاني هو: (وَزَيَّنَ لَهُـمُ الشَّيْطـانُ ما كـانُوا يَعْمَـلُونَ)، بـحيث أصبـحوا يرون المعـاصي صواباً والقبـح جمالا، وقد نفذ الشيـطان هنا من طريق عبادة لهوى.
وبتعبير آخر: لم تؤثر فيهم لا مواعظ الانبياء اللفظية، ولا مواعظ الله العملية والتكوينية، وعامل هذا الحجاب هو قسوة القلوب من جهة، ومن جهة اخرى تزيين الشيطان لهم، بحيث سلب منهم روح التضرع والخضوع.
هناك بحث بين المفسرين في المراد من «تزيين الشيطان»، فيقول البعض: انه الوساوس الشيطانية التي تبدو المحاسن فيها قبائحاً والقبائح فيها محاسناً، أو العوامل الخارجية التي تزين للانسان سوءَ أعماله، كما تُجعل المواد السامة في غلاف مُغر وجميل، وكما يُدعى للانحرافات الكبيرة تحت غطاء التمدن والافكار النيرة والحرة.
وتـحدثت الآيـة الثانيـة عن هدد سليمان عندما قدم من رحلته الى بلاد الملكة سبأ، فبعد حكايته لقصة سبأ وحضارة بلادها العظيمـة قال: (وَجَدْتُهـا وَقَوْمَهـا يَسْجُدُونَ لِلَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطـانُ أَعْمـالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ).
إن هذه الآيـة تكشف عن ان الهدهد بالرغم من محدودية عقله وذهنيته
[385]
الخاصة به وبعالمه يدرك بالاجمال حجب المعرفة، ويعرف ان الشيطان يجعل ستاراً على فكر الانسان يحول دون تمكنه من إدراك الحقائق ويغلق أبواب المعرفة عنه ويحول دون وصول الانسان الى مراده المنشود.
وقد بحثنا امكانية اطلاع الحيوانات على عالم الانسان، كما بحثنا مدى معرفتها لهذا العالم في تفسير الأمثل الجزء (15) ذيل الآية (18) من سورة النمل، وفي الجزء (5) ذيل الآية (38) من سورة الأنعام.
كما تحدثنا في الجزء (19) ذيل الآية نفسها عن كيفية طي الهدهد المسافة الطيولة بين الشام واليمن ووصوله الى بلاد سبأ.
* * *
وقد تحدثت الآية الثالثة عن قوم عاد وثمود وطغيانهم وعصيـانهم ثـم هلاكهم، كما عرضت على عرب الحجاز مدنهم الخربة التي يمرون بها عند رحلاتهم الى الشام واليمن كعبرة لهم، ثم أشارت الى السبب الأساسي في إهلاكهم وهو تزيين الشيطان لأعمالهم بحيث ما كادوا يبصرون شيئاً ولا يعقلون رغم امتلاكهم للابصار والعقول، وقد قالت الآية: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطـانُ اَعْمـالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكـانُوا مُسْتَبْصِرِينَ).
إن عبارة (وَكـانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) ـ كما يقول كثير من المفسرين ـ تعني غفلتهم وعدم تدبرهم في الحقائق بالرغم من امتلاكهم للعقول والحواس واقتدارهم على الاستدلال والتمييز بين الحق والباطل(1).
وقد جاء في تفسير الميزان: إنهم كانوا يعرفون طريق الحق بفطرتهم إلاّ ان
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – مجمع البيان الجزء 7 الصفحة 283، روح البيان الجزء 6 الصفحة 468، كما نقل هذا عن بعض المفسرين في تفسير القرطبي.
[386]
الشيطان زيَّن لهم أعمالهم فمنعهم عنه(1).
ويقول البعض: إن المراد من العبارة هو معرفتهم للحق بواسطة دعوة الأنبياء وتعاليمهم(2).
إن الآية بجميع تفاسيرها (سواء قبلنا أحـدها أو قبلنا الجميع لعدم المنافاة بينها) شاهد على ما قلناه من أن تزيين الشيطان يجعل حجاباً على عقل الانسان وفكره.
* * *
وقد بينت الآية الرابعة بصورة عامـة مصير الـذي يعشو عن ذكر الله ويغفـل عنه وقالت: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ … وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ).
ذَكر المفسرون وائمـة اللغة معنيين لفعل « يَعْشُ »، فقـال بعض: إنه ظـلام خاص يحلُّ في ا لعين يفقد الانسان من جراءه بصره ويكون أعمى أو أعشى (أي لا يرى في الليل) وهو من مادة «عَشَى»، كما يقال «عشواء» للجمل الذي لا يرى أمامه ويخطأ عند المشي، وعبارة «خبط عشواء» إشارة الى هذا المعنى.
وعلى هذا فيكون معنى الآية الشريفة هو: إنَّ الذي لا يـرى آيات الله في الكون بعينه، ولا يسمعها عن أَلْسِنَةِ أنبياءه، فانه سيقع في فـخّ الشيـطان وتسويلاته.
وقال بعض آخر: إنّها من مادة «عَشْو»، وعندما تستعمل مع «الى» فتعني الهداية ببصر ضعيف، وعندما تستعمل مع «عن» فتعني الاعراض(3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الميزان الجزء 16 الصفحة 131.
2 – تفسير الفخر الرازي الجزء 25 الصفحة 66.
3 – يقول بعض المفسرين: إن هذه المفردة إن كانت من مادة (عَشَا، يَعْشو)، فتعني التعامي من دون أن تكون علة في بصره، أما اذا كانت من مادة (عَشَى: يَعْشا)، فتعني حصول علة في بصره، روح البيان الجزء 8 الصفحة 368، وينبغي الالتفات هنا الى انها في الآية من باب (عَشَا، يَعْشو).
[387]
وعلى هذا فيكون المراد من الآية هو: إن الذين يعرضون عن ذكر الله فَنُقَيِّضُ ونسلط الشيطان عليهم(1).
إن «نُقَيّضُ» من مادة «قَيْض» وتعني قشر البيض ثم استعملت بمعنى الاستيلاء، واستعمال هذه المفردة في الآية أمرٌ مثير، حيث يكشف عن ان الشيطان عندما يَنْقَضُّ على الانسان يحيط به من جميع الجهات، ويقطع اتصاله بالخارج بالكامل كما تفعل قشرة البيض بالبيض، وهذا أسوء أنواع حجب المعرفة التي يُبتَلى بها الانسان، كما ان هناك مثلا عند العرب يقرب معنى الآية للأذهان «استيلاء القيض على البيض».
والأسوء من هذا هو ان احاطة الشيطان بالانسان واستيلاءه عليه ومقارنته له تستمر الى درجة تجعله يفتخر بضلالته ويحسب ان طريقه هو طريق الحق والهداية (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ).
* * *
وقد تحدثت الآية الخامسة عن شياطين الانس والجن الذين نصبوا العداء للانبياء والذين أعدوا أنفسهم لابطال فاعلية تعليم الأنبياء، ويوحي بعضهم الى بعض أقاويل مزخرفةً باطلةً لا أساس لها من الصحة، كما يعلّم بعضهم الـبعض طرق المكر والخداع، وذلك لاغفال الناس وكتم الحقائق وجعل الحجب عليها، وإبعاد الناس عن تعاليم الأنبياء.
وينبغي ذكر هذه النقطة هنا وهي: إن العدو ذكر بصيغة المفرد، بينما الشيطاين بصيغة الجمع، وهذا قد يكون من حيث ان الشياطين متحدون ومتفقون في سبيل إغفال الناس وخداعهم وكأنهم عدو واحد.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – راجع لسان العرب ومفردات الراغب وتفسير القرطبي وروح البيان والميزان.
[388]
ويقول البعض: إن «عدو» هنا بمعنى أعداء أي بمعنى الجمع(1).
كما صرح بعض آخر: إن «العدو» تطلق على المفرد والمثنى والجمع(2).
* * *
والآية السادسة هي من آيات سورة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) التي أُشير فيها الى حجب متعددة من حجب المعرفة، فتارة تعدّ الفساد في الارض وقطع صلة الرحم سبباً للعمى الباطني لهم (الآية 23)، وتارة اخرى تعد ترك التدبر في القرآن بمثابة الاِقفال على القلوب.
والآية المذكورة تعدُّ تزيين الشيطان وتسويلاته سبباً لارتداد الضالين، حيث يتبين لهم الحق ويؤمنون به أولا، ثم ينحرفون عنه من جراء تسويلاته وتزيينِهِ لهم الى درجة يفتخرون فيها بضلالتهم الاخيرة.
من هم المشار إليهم في الآية؟
هذا ما بحثه المفسـرون وانقسمـوا مـن جراءه الى فـريقين، فبعض يقـول: إنهم اليهود، حيث كانوا مؤمنين بالرسول قبل ظهوره لما توحيه إليهم كتبهم عن ذلك الرسول، ثم سلكوا سبيل العناد والمخالفة له بعد ظهوره، ويُعدُّ هذا ارتداداً نوعاً ما. وبعض يقول: إنها تشير الى المنافقين الذين آمنوا في البداية ثم ارتدوا بعد ذلك، أو أنهم آمنوا ظاهراً وهم كافرون باطناً، لكن مع الالتفات الى كون الآيات التي سبقت هذه الآية والتي تليها ناظرة الى المنافقين، لا يبعد أن تكون هذه الآية تشير إليهم كذلك فالمراد من الآية ـ إذن ـ المنافقون الذين آمنوا في البداية ثم ارتدوا بعد ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – روح العاني الجزء 8 الصفحة 4.
2 – المنار الجزء 8 الصفحة 5.
[389]
إن «أملى لهم» من مادة «املأ» أي الإِمهال(1)، والمراد منها هو الآمال البعيدة التي يوحيها الشيطان للانسان، الآمال التي تشغل فكر الانسان وتزين له الباطل وتبعده عن الحق.
* * *
إن سابَع وآخر آية أنذرت الناس ـ بتعبير واف ـ بأن وعد الله حق، ثم ذكر عاملين للضلالة والانحراف عن الحق، الاول الدنيا (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا)، والثاني الشيطان (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) فتارة يؤملكم بكرمه وينسيكم غضبه، وتارة اخرى يغويكم بشكل بحيث تنسون الله وتعاليمه، أو تبدو تعاليمه مقلوبة لديكم.
إن «غرور» ـ كما أشرنا سابقاً ـ هو كل ما خدع الانسان، سواء كان مالا أو جاهاً أو شهوات أو غير ذلك، وبما أن الشيطان أوضح مصداق للخداع، أطلق عليه ذلك كثيراً، وفُسِّر به(2).
يعتقد كثير من المفسرين ان عبارة (لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) تلميح الى أنَّ الشيطان غَرَّ الانسان بَعفو الله وكرمه بدرجة يمكّنه من ارتكاب أي معصية أراد، ويبلغ به الأمر أن يعتقد بأن هذا ناشيء عن كمال معرفته لصفات الله! وهذا أمر عجيب.
وحالة كحاله من يتصور أن جسمه قوي وذو مناعة تمكنه من مقاومة جميع السموم المهلكة، فيخدعه تصوره ويتناول السم فيموت.
وهذا هو أحد حجب المعرفة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ينبغي الالتفات هنا الى ان أصل هذه المادة هو «مَلْو» لا «مَلأَ» ـ بالهمزة ـ .
2 – إن «الغرور» صيغة مبالغة.
[390]
* * *
إيضاحات:
1 ـ من هو الشيطان؟
إن «الشيطان» ـ وكما قلنا سابقاً ـ ليس اسماً خاصاً أو علماً لإبليس، بل إن إبليس الذي امتنع عن السجود لآدم هو أحد الشياطين.
إن لإبليس جنوداً كثيرة من جنسه ومن الناس، وتطلق مفردة الشيطان على الجميع، وعلى هذا فقادة الكفر والشرك والظلم والفساد في الارض، والعاملون في الاجهزة الظالمة كلهم من جنود الشيطان، ولقد جاء في رواية أن هناك شياطينَ من الانس أسوء من شياطين الجن، حيث سأل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أبا ذر يوماً: «هل تعوّذت بالله من شر شياطين الجن والإنس»؟
فقال أبو ذر: وهل من الناس شياطين؟
فاجابه الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم): «نعم هم شرٌ من شياطين الجن»(1).
كما ان المستشفَّ من القرآن هو أن للشيطان جنوداً فرساناً وراجلين كما جاء ذلك في سورة الاسراء الآية (64»: (وَاَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ).
إن «اجلب» من مادة «إجلاب» ويعني التجمع السريع أو الضجيج والصياح لحثّ مجموعة ما على الحركة.
أما المراد من «خيلك ورَجِلك»، فيقول الكثير من المفسرين: إنه الراجل أو الفارس الذي يخطو في معصية الله، أو قاتل في هذا السبيل(2).
ويقول البعض: إن للشيطان أعواناً وأنصاراً راجلين وفرساناً حقاً.
وحمل البعض العبارة على الكناية، وقال: المراد من الآية هو ان الشيطان أعدَّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير الفخر الرازي الجزء 13 الصفحة 154.
2 – نقل القرطبي هذا التفسير عن أكثر المفسرين.
[391]
العِدَّة ووفّر جميع الوسائل لصراع ومجابهة الناس(1).
كما يحتمل ان يكون المراد من الخيل هو قادة الكفر والظلم والفساد، ومن الرجل، الشخصيات المتوسطة الأضعف من الشخصيات السابقة.
كما يحتمل ان يكون المراد من الخيل هو الشهوات والصفات الذميمة التي تتغلب على روح الانسان وتمتطيها، والمراد من الراجلين هو العوامل الخارجية التي تسعى لانحراف الانسان عن الصراط المستقيم.
* * *
2 ـ الإجابة على سؤال:
هناك سؤال يرتبط بحثنا وهو: كيف أمكن أن يتركنا الله لوحدنا نواجه جنود الشيطان القوية والقاسية؟ وهل يتفق هذا مع حكمة الله وعدله؟
يمكننا الاجابة على هذا السؤال بالالتفات الى نقطة، وهي: إن الله ـ وكما جاء في القرآن الكريم ـ يجهز المؤمنين بجنود رحمانية، أي الملائكة، ويوظف القوى الغيبية التي في العالم لأن تتماشى معهم في طريق جهاد النفس والعدو:
(اِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاِكَةُ اَلاّ تَخافِوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوْعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيائُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الآخِرَةِ)
(فصلت / 30 ـ 31)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ذكر الفخر الرازي هذا التفسير كاحتمال في تفسيره الجزء 21 الصفحة 6، وقد جاء ما يشبه هذا الاحتمال في تفسيره (في ظلال القرآن) الجزء 5 الصفحة 343.