منهج في الإنتماء المذهبي – صائب عبد الحميد
4 أيام مضت
الاسلام والحياة
29 زيارة
ما الذي يحملني على الإعتقاد – إلى حد التسليم – بأن مذهبي الذي ورثته عن آبائي ومجتمعي الصغير هو الحق الأوحد والأمثل، وأنه الصورة الأكثر كمالا للدين الإسلامي الحنيف، بحيث لا يشاركه مذهب آخر في حظه هذا من الكمال؟
ما الذي حملني على هذا الإعتقاد، أهو القرآن الكريم؟ أم السنة المطهرة أم العقل السليم؟
أم هي العصبية التي لا تستند إلى شئ؟!
ولماذا لا يمكنني أن أعتقد بأن المذاهب الأخرى هي مثل مذهبي على الأقل؟
ومن يدري! فلعلها تكون جميعا أكثر سلامة وكمالا مما تعلمته أنا!
وما العجب من هذا الافتراض، أليس هكذا يعتقد أبناء المذاهب الأخرى؟
إذن، ما الذي يمنعني من أن أكون أبعد نظرا، لأتقبل فكرة: أن المذاهب الأخرى هي أيضا تحتمل الصحة، على الأقل؟
ثم، ألست مسؤولا غدا عن سبب اعتقادي، وتبعيتي الدينية؟
وهذا هو السؤال الخطير الذي يجب أن أقف عنده موقف الجد..
سيبرز هنا سؤال آخر، وهو: ألا تقودني هذه الفكرة إلى الطائفية مرة أخرى؟
أعني أنني عندما أدخل طريق الدرس والمتابعة، فإن دراستي ستقودني حتما إلى قناعة ما، وعلى أساس هذه القناعة سوف أنتخب المذهب عن وعي وإدراك هذه المرة، كما تقتضي المسؤولية الشرعية، وأصول الدراسة العلمية، أفلا يفهم من هذا أنني سوف أطعن بالمذاهب الأخرى، وسوف أصرح بالفعل وإن لم أصرح بالقول، بأن المذهب الذي انتخبته هو الأكثر كمالا ودقة وعمقا؟
نعم، قد تكون هذه الطريقة مصدرا للإثارة، ولكن إلى أي شئ تعود تلك
(٢٢)
الإثارة وعلى أية أرضية تقوم؟
هل انبثقت من موقف علمي ورؤية موضوعية، أم أنها نشأت عن غير ذلك؟
وبتعبير آخر، هل هي رؤية تصمد أمام قوله تعالى: ﴿قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين﴾ (١).
أم هي واقعة تحت ظلال قوله تعالى: ﴿إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس﴾ (2)؟
فهذا هو ميزان السماء لكل دعوى.
إن شيئا من ردود الفعل هذه، ما هو إلا جزء من إفرازات تلك العقد النفسية المتجذرة فينا، وإلا فمن أين جاء زعمنا: أن الفرد المسلم الذي انطلق من وعيه بمسؤوليته الشرعية، ملتزما قواعد البحث العلمي، والدراسة الموضوعية المجردة، متسلحا بالشجاعة الكافية في اتباع الحق الذي يستقر عليه، ثم انتهى إلى اختيار آخر، خالف فيه أصحابه، أنه سيكون بالضرورة قد ناصبهم العداء، أو حكم عليهم بالضلال والجحيم؟
أليس العكس هو الصحيح، ما دمنا نقر جميعا بأن هذا المنهج هو مسؤولية شرعية في أعناق الجميع دون استثناء؟
نعم لنا أن نقول: إن مثل هذا الفرد لكي يكون متوازنا في، مواقفه، ملتزما علميته، عليه:
أولا: ألا يكون منفعلا بتأثير نشوة الاكتشاف الجديد، فيندفع متحمسا تجاه المذاهب الأخرى، ليشن عليها حملاته بمناسبة أو بلا مناسبة، وكأنه
(١) النمل: ٦٤.
(٢) النجم: ٢٣.
(٢٣)
يتحدث مع فرقة ضالة قد مرقت من الدين.
وثانيا: ألا يذوب كليا في المجتمع الجديد بكل ما فيه، حتى التقاليد الموروثة التي لم يكن مصدرها الإسلام، وحتى العقد النفسية المتراكمة فيهم تجاه كل من يخالفهم بشئ.
إن منهجا كهذا لو التزمه الواعون منا، لوصلنا إلى أفضل مما نحن عليه الآن بكثير.
وحتى لو لم نصل جميعا إلى نتيجة واحدة، وحتى لو عاد كل واحد منا فانتخب مذهبه الذي نشأ عليه من جديد، فلن يؤدي ذلك إلى خلاف جديد بيننا بالمرة، بل على العكس تماما، سيؤدي إلى احترام كل منا للآخر، لأنه سيعرف عنه الكثير مما كان مخفيا عليه، أو كان مشوها في ذهنه، نتيجة ما ورثه في ذلك الواقع الممزق المخيف.
هذا عن أصل المشكل المثار، وأما عن مضمونه الذي مفاده: (أن مجرد البحث أو التفكير في مثل هذا الموضوع، هو بمثابة نواة للفرقة والتمزق وإثارة الخلافات المذهبية من جديد) فجوابه:
إن قضية الوحدة بين المسلمين هي مسؤولية شرعية لا يمكن التعامي عنها وإغفالها، فقد أمر القرآن الكريم بحفظها أمرا صريحا، فقال: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا﴾ (١).
وحذر من تضييعها، وتوعد على ذلك بأشد الوعيد، فقال: ﴿ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم﴾ (2).
(١) آل عمران: ١٠٣.
(٢) آل عمران: ١٠٥.
(٢٤)
فالوحدة بهذا المستوى من الأهمية، قضية يجب حمايتها والحرص عليها في كل قول وفعل، ولا شك في أن من تغافل عن ذلك فقد وقع في التقصير.
فمن المسلم به إذن: أن الشارع المقدس لن يرتضي لأحد أي عمل من شأنه أن يقدح بهذه المسؤولية الشرعية.
ولكن، من المسلم أيضا بين المسلمين، أنه جل جلاله لن يرتضي لعبده المكلف أن تكون حجته في تدينه وانتمائه المذهبي: ما وجد عليه آباءه!
إذن ليس أمام هذا العبد المكلف المسؤول إلا أن يتعاهد مسؤوليته بالبحث والدرس والتحقيق، على قدر استطاعته، ليكون قد اتخذ موقفه، وحدد التزاماته عن وعي وإدراك حقيقيين.
وإذا كان كذلك، فثمة مسألة أخرى لا بد من الإشارة إليها:
ففي منهج البحث العلمي، هل سيكون الباحث ملزما تأييد وموافقة كل ما تتبناه المذاهب الإسلامية، على اختلافها؟
فينبغي له أن يكون – تحت عنوان حفظ الوحدة الإسلامية – مؤيدا لكل الفروع والتفاصيل التي تعترض طريق البحث؟
إن شيئا من هذا الإلزام سوف لا يبقي على أي معنى للبحث والنظر، بل سيبطلهما من الأساس. فالبحث العلمي إنما يتوخى الحقائق المجردة عن أية مواقف مسبقة، وأية اعتبارات أخرى تصرفه عن مساره، وهذا محال مع وجود ذلك الإلزام.
فليس من الصحيح إذن أن نطالبه بموافقة الجميع، حتى فيما اختلفوا فيه، بحجة تجنب الخلاف والفرقة، بل إن فكرة كهذه ستكون مصدر أخطار على الوحدة بين المسلمين قد لا يوازيها خطر يأتي من عمل عدائي مقصود!
لأن هذا الفهم يعني بالنتيجة: أن علينا أن نحتفظ بكل تلك الخلافات وبأسبابها ودواعيها أيضا إلى الأبد، لأنها كلها كانت آراء رجال السلف
(٢٥)
ومواقفهم وحتى تلك التي أدت إلى إثارة الحروب، وسفك الدماء، لأن كل أطرافها كانوا على الحق!
ألا يعني هذا أن من حقنا اليوم، وفي كل عصر، أن نجدد تلك النزاعات، وأن يقتل بعضنا بعضا، ولا بأس علينا، لأن كل طرف منا قد تمسك بما نقل إليه عن بعض رجال السلف؟
وفي أحسن الأحوال، فإننا سنبقي على تلك الخلافات، وعلى جذورها حية فينا ما حيينا، وليس هذا مجرد فرض نفترضه، أو دعوى ندعيها، بل هو الواقع الحاصل في هذه الأمة.
فهل تمدد الخلاف فينا، وتوالت الانقسامات، إلا بسبب التمسك بتلك الفكرة التي جعلت من نقاط الخلاف القديم محاور لتجمعنا، وعناوين لانقساماتنا؟
وما زال الكثير منا يدافع عن ذلك المبدأ، معتقدا بأن الدفاع عن الجميع هو السبيل الوحيد لتحقيق التقارب بين المسلمين!
وإنه لأمر غريب حقا، فمتى كان التمسك بأسباب الانشقاق هو الشرط الذي يضمن تحقيق الانسجام؟!
ولنتذكر ثانية أن هذا هو واحد من إيحاءات (الخوف من الهزيمة) الذي نعاني منه، وإلا أفلا يكون من دواعي الاستغراب أن تضيق صدورنا عن تتبع النص الإسلامي الشرعي، والتمسك به؟!
ذلك ونحن نعتقد جميعا إن مسؤوليتنا تتلخص في حفظ هذا الدين الحنيف كما أراده الله ورسوله، بالتزام الموقف الحق الثابت الذي لا غبار عليه، وحمايته سواء وافق ميول الأشخاص، أو خالفها!
هكذا يتبين إذن أنه لا يجوز استغلال شعار ” الوحدة الإسلامية ” للتخلي عن مسؤوليتنا الشرعية في التفكير الحر، وانتخاب الموقف عن وعي وبصيرة.
(٢٦)
رابط الدعوة ايتا :الولاية الاخبارية
سايت اخباري متنوع يختص بأخبار المسلمين حول العالم .
https://eitaa.com/wilayah
2024-12-14