الوقت_ تسيطر الخلافات الكبيرة في “إسرائيل” حول الإصلاحات القانونية على الوضع العام وعلى المستويين الداخليّ والخارجيّ، لدرجة أنّ”إسحاق هرتسوغ”، رئيس الكيان الإسرائيليّ، أطلق مجدداً صافرة التحذير وكرر تصريحاته بشأن أزمة هذا الكيان في الفترة الأخيرة، بقوله: “يمكن أن يكون لهذه الخلافات عواقب دبلوماسية واقتصادية واجتماعية وأمنية خطيرة على إسرائيل”، وخاصة عقب مصادقة البرلمان (الكنيست) الإسرائيلي، في القراءة الأولى على خطة “الإصلاحات القضائية” التي توصف بالخبيثة، واعتبرتها المعارضة انقلاباً على “ديمقراطية” الاحتلال حسب تعبيرها، في ظل التخوف الكبير من تعديل حكومة نتنياهو المتطرفة النظام القضائيّ في وقت يواجه الأخير تهماً بالفساد في سلسلة من القضايا، وخاصة أن الحقيبة الوزارية المتعلقة بالعدل أُسندت إلى ياريف ليفين المقرّب من رئيس الوزراء، حيث بات الكيان بالفعل يسير في طريق مختصر واحد نحو “الصدام الحاد” وهذا ما تنبأ به كثيرون منذ اليوم الأول لنتائج انتخابات الأول من تشرين الثاني/نوفمبر ووصول الأحزاب الدينية المتشددة واليمينية المتطرفة للحكم، الشيء الذي أدّى لوصول بنيامين نتانياهو وللمرة السادسة للحكومة الأكثر فاشيّة منذ بداية الاحتلال العسكري الصهيوني لفلسطين والأراضي العربية.
صراع يمزق الكيان
“إسرائيل في وضع سيء للغاية، والصراعات الداخلية تمزقنا”، هذا ما جاء على لسان هرتسوغ ويلخص الحالة الصهيونيّة باختصار”، وذلك بالاستناد إلى ان الكيان الغاصب ليس لديه دستور، ويمكن للمحكمة العليا إلغاء قوانين يقرّها البرلمان إذا اعتبرتها تمييزية، لكن حكومة الاحتلال الجديدة أقرت “بند الاستثناء” بما يسمح لها بإعادة وضع قانون رفضه القضاة قيد التطبيق، في وقت تلوح فيه “معركة” كبيرة في الأفق بين المحكمة العليا وأنصار هذا التعديل القانونيّ، ومؤخراً أصدر البرلمان التابع للعدو بشكل مستعجل قانوناً يسمح لأي شخص مدان في جريمة ولم يصدر بحقه حكم بالسجن الفعلي، بأن يكون وزيراً، وهو تشريع استفاد منه في الحكومة الحالية على وجه الخصوص الوزير العنصريّ أرييه درعي من حزب “شاس” والذي أدين سابقا بارتكاب انتهاكات ضريبية، ومن ناحية أُخرى إذا صوّت النواب على إلغاء محاكمة نتنياهو بتهمة الفساد على سبيل المثال، وألغت المحكمة بعد ذلك هذا التصويت، فإن “بند الاستثناء” سيجعل من الممكن تعليق قرار المحكمة بإلغاء المحاكمة.
ولم يخف إسحاق هرتسوغ أن “إسرائيل” تواجه أزمة تاريخية تنذر بالانهيار من الداخل، مؤكّداً أنّ الصهاينة يعيشون في أصعب اللحظات التي مروا بها ويعلمون جميعًا من أعماق قلوبهم أن هذه الأزمة تشكل خطرًا داخليًا على الصهاينة، مضيفاً: “أرى احتجاجًا وقلقًا وخوفًا من الإصلاحات القضائية، هذا يمكن أن يقودنا إلى الهاوية الصعبة أو يمكننا التوصل إلى حل من خلال اتفاق”، وخاصة مع تعميق الأزمة الداخلية وحالة الانقسام بين الإسرائيليين، و تزايد الشروخات بشكل يهدد “المجتمع الإسرائيليّ”، رغم الضغوط الخارجية والداخلية المستمرة على حكومة الاحتلال العنصرية لوقف أو إبطاء عملية التشريعات الإشكالية للغاية، وذلك بالنظر إلى أنّ كيان الاحتلال أصبح مستعبداً بشكل كامل لاحتياجات الجماعات الإسرائيليّة المتطرفة، وبالتالي سيدفع الإسرائيليون أثماناً باهظة، وخاصة أنّ مؤسسات الكيان باتت مسخرة بالمطلق لخدمة الصهاينة المتطرفين.
وإن ما يجري من قبل الائتلاف الحاكم يسعى بالمطلق لتقزيم المحكمة العليا، وهو تعبير عن رغبة المستوطنين بالانتقام من المحكمة العليا التي رفضت التماساتهم لوقف فك الارتباط عن غزة وتفكيك المستوطنات داخل القطاع عام 2005، فيما تتطلع أحزاب المتدينين الأورثوذوكس (الحريديم) بالمقابل، لتقزيم المحكمة العليا كي تبقى الأحزاب المتطرفة حرّة في تمرير برامجها الاجتماعية دون إزعاج أو تشويش أو تدّخل من قبل السلطة القضائية في قضايا تتعلق بالفصل بين الدين والدولة أو قضايا المرأة أو قضية امتناعهم عن العمل والتفرّغ لتعّلم التوراة وغيره، ناهيك عن اتهامات أوساط المعارضة الحكومة بأنها بواسطة “خطة الانقلاب” التشريعية تحول الكيان لـ “دولة شريعة ودولة ظلامية” تداس فيها حريات الفرد وحقوق المواطن والأقليات على أنواعها.
وفي الوقت الذي تسيطر فيه الخلافات الإسرائيلية الداخلية على المشهد، بالأخص في الأيام الأخيرة حول استقلالية الجهاز القضائي، وحماية السلطات الثلاث، والدفاع عن مكانة المحكمة العليا، وحماية “منظومة الديمقراطية”، لكن الأصل في الانشقاقات ضمن بنية الكيان السياسيّة والاجتماعية أنها تعاني في الجوهر من مشكلات أعمق وأكبر بكثير من هذا السجال حول الجهاز القضائي، حيث تعكس هذه الخلافات تغيرات عميقة في صفوف الإسرائيليين واختلافات مستترة في السياسة والمجتمع ومجمل التوجهات، بين شرقيين وبين غربيين، بين متدينين وبين علمانيين، بين مؤيدين ومعارضين لبعض الملفات كالضم وهكذا.
دعوة لوصد الأبواب بوجه نتنياهو
بالاستناد إلى أن الإسرائيليين باتوا يشعرون بأنّ الكيان بأسره يعيش دور العبوديّة الكاملة للمتشددين، وفي ظل التنبؤات بتأثير حكومة نتنياهو –راعي التشدد الأول- على مستقبل الكيان الإسرائيليّ، بات الغضب يلاحق نتنياهو في كل مكان، لدرجة أن 1000 كاتب وأكاديمي إسرائيلي يدعون ألمانيا وبريطانيا لعدم استقبال رئيس وزراء احتلالهم وإلغاء زيارته، مع تأكيدهم على أن الكيان يمر في مرحلة خطيرة، حيث كتبوا عريضة نقلت إلى سفيري هاتين الدولتين المعتمدين في فلسطين المحتلة، أن “الكيان يمر في مرحلة خطيرة من التحول من ديمقراطية مزدهرة إلى حكم استبداديّ”، كما حذر الموقعون على العريضة ومن ضمنهم الكاتب الإسرائيلي الشهير دافيد غروسمان وغيره من الأسماء اللامعة من أن دفع إجراءات التشريع قدما قد يؤدي إلى مساس خطير بحقوق المواطن، والقضاء على الحريات للكتاب والفنانين.
بالإضافة إلى ذلك، أشارت هيئة البث الإسرائيلية، إلى أن محتجين دعوا إلى عرقلة وصول نتنياهو لمطار بن غوريون قرب تل أبيب، وهو في طريقه إلى ألمانيا، وقد أجبرت الاحتجاجات، الأسبوع الفائت، رئيس وزراء العدو على مغادرة العاصمة الفلسطينية القدس إلى مطار بن غوريون، بمروحية في طريقه إلى إيطاليا بعد احتجاجات متظاهرين قرب المطار، فيما تؤكد المعلومات أن الحكومة الفرنسية أعلنت أنها لن تتواصل مع وزير المالية بتسلئيل سموتريتش خلال زيارته العاصمة الفرنسية للمشاركة في أحد المؤتمرات الأسبوع المقبل، كما امتنع مسؤولون أمريكيون عن اللقاء معه إثر تصريحات دعا فيها إلى محو بلدة حوارة الفلسطينية شمال الضفة الغربية، خلال زيارته الولايات المتحدة للمشاركة في مؤتمر تنظمه مؤسسة “إسرائيل بوندز” الصهيونية في واشنطن.
وعلى هذا الأساس، تحول الكيان الصهيونيّ –بكل المقاييس- إلى برميل من الديناميت لا يحتاج سوى لشرارة واحدة للانفجار نتيجة الانقسام غير المسبوق داخل المجتمع الإسرائيليّ، إضافة إلى تمسك نتنياهو الشديد بالسلطة لمرات عدة متجاهلاً ارتفاع الأصوات المطالبة برحيله، رغم إدراكه بما يحل بكيانه نتيجة لذلك، في وقت يعيش الكيان الصهيونيّ مرحلة حاسمة تهدد وجوده بشكل حقيقيّ وباعتراف نخبة الصهاينة في أكثر من مجال، ولذلك يستشعر كثيرون اقتراب الحرب الأهليّة التي ستنهي وجود “الدولة العبرية” الاحتلاليّة العنصريّة.
الكنيست يتحدى الإسرائيليين
بشكل كبير، يتصاعد الرفض داخل الكيان بعد المصادقة على تشريع يمنع عزل رئيس الحكومة، ويتوقع البعض أنّ الأزمة تنذر “بخراب الهيكل الثالث”، وأُقرّ النص قبيل الساعة الثالثة فجراً (1.00 بتوقيت غرينتش) في وقت يبدو أنّه اختير لغايات حكوميّة واضحة، بغالبية 61 صوتاً في مقابل 52، ولا يزال يحتاج إلى إقراره في قراءة ثانية ثمّ ثالثة قبل أن يصبح قانوناً نافذاً، ويقضي بمنع المستشارة القضائية للحكومة، من الإعلان عن تعذر رئيس الحكومة عن القيام بمهامه، وتنحيته من منصبه، ليصبح التعذر فقط في حالة عدم القدرة الجسدية أو النفسية التي ربما تمنع رئيس الحكومة عن القيام بمهامه، أو يتعين على رئيس الحكومة، الإعلان عن تعذره بنفسه أو من خلال تصويت في الحكومة وتأييد 75% من الوزراء للتعذر، كما يشدّد التعديل الذي لقي معارضة كبيرة على الشروط التي تسمح للمحكمة العليا بإبطال قانون عادي، ويسمح للبرلمان بحماية قانون من أي إلغاء وذلك بواسطة عملية تشريعية تتطلب غالبية بسيطة (61 نائباً من 120)، في ما يسمى بند الاستثناء الذي يتيح تجنّب سيطرة المحكمة العليا، وفي حال عارض رئيس الحكومة التصويت حول ذلك في اجتماع الحكومة، يُنقل الحسم إلى الهيئة العامة في البرلمان، ويجب أن يؤيد التعذر 90 عضواً برلمانيّاً.
وبالتالي، فإنّ مشروع التعديلات القضائية أو ما يصفه المعارضون ب “الانقلاب على القضاء والديمقراطيّة” بصيغته الحالية، سيحدّ بشكلٍ كبير من صلاحيات المحكمة العليا، ويمنح تحالف الغالبية السياسية سلطة تعيين القضاة، وتزعم الحكومة أنّ التعديلات تلك ضرورية لاستعادة توازن القوى، بين ممثلي الشعب والمحكمة العليا، التي يتهمها نتنياهو الذي يتعرض لملاحقات قضائية بأنّها مسيسة، وحسب وسائل إعلام عبرية، فإنّه إذا استمرّت عملية تشريع التعديلات القضائية دون حوار، ودون تحقيق تسوية فيها، وتوافقٌ واسع على مبادئ مقترح الرئيس هرتسوغ، “سيصل الإسرائيليون في نهاية الشهر إلى تشريعٍ بالقراءتين الثانية والثالثة”، وعندها كامل السيطرة، ويمكن الافتراض أنّ المحكمة العليا سترفض التشريع، وعندها ستكون “إسرائيل” في أزمة تشريعية عميقة لا مخرج منها.
ومن جهة ثانيّة، يتحدث الإعلام العبري أنّ هدف أجهزة الأمن القومي هو حماية “إسرائيل” من التهديدات الخارجية والداخلية، ولكن بعد إقرار التعديلات القضائية، سيكون على أجهزة الأمن، أن تقرر لمن تنصاع، لأمر القانون من المحكمة العليا أم لأمر الحكومة، ما يعني أنّ “إسرائيل” ستواجه “خراب الهيكل الثالث” إذا لم تعرف إيقاف مبادرة التعديلات القضائية في الأسابيع القريبة والتوصل إلى تسوية، فمنذ تقديم مشروع القانون القضائي، في بداية كانون الثاني/يناير، من جانب الحكومة التي شكّلها نتنياهو في نهاية كانون الأول/ديسمبر الماضي، خرجت مظاهرات واسعة اتسعت رقعتها الجغرافية بصورةٍ كبيرة خلال الأسبوع الفائت ووصلت لمئات الآلاف، وصولاً إلى تنظيم احتجاجات، في ما يقارب 100 موقع وشارع وساحة في فلسطين المحتلة.
المعارضة الإسرائيلية ومطلبها الوحيد
يمكن قراءة موقف قادة المعارضة الإسرائيلية بوضوح، من خلال طرح أفكارهم المرتبطة بأنه لا يمكن الحديث عن الشروع في حوار حول القوانين التي تطرحها الحكومة لإصلاح القضاء “ما دامت العملية التشريعية مستمرة”، وقادة المعارضة هم: وزير الدفاع السابق وزعيم حزب “الوحدة الوطنية” بيني غانتس وزعيم حزب “إسرائيل بيتنا” افيغدور ليبرمان وزعيمة حزب “العمل” ميراف ميخائيلي، إضافة إلى لابيد، وقد أوضح قادة المعارضة أنهم “بانتظار اقتراح حل وسط”، ورأوا أنه: “تبدأ وحدة الإسرائيليين بحوار حقيقي، وطالما أنه لا يوجد توقف للتشريع، فإن المحادثات مجرّد خداع”.
ختاماً، تفقد حكومة نتنياهو شرعيتها يوماً بعد آخر، وتأخذ الكيان إلى طريق لا عودة منه، وذلك بالنظر إلى أنّ كيان الاحتلال أصبح مستعبداً بشكل كامل لاحتياجات الجماعات الإسرائيليّة المتطرفة، وفي ظل تعنت نتنياهو، يردد غالبية الإسرائيليين عبارة “إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة”، وهذا الموضوع يقُضّ مضاجع صنّاع القرار بالكيان اللقيط الذي قام منذ ولادته على مبدأ التطهير العرقيّ والتاريخيّ من خلال المجازر التي ارتكبتها عصابات الصهاينة ضد أصحاب الأرض ومقدساتهم إضافة إلى عمليات بناء المستوطنات على الأراضي الفلسطينية المحتلة كأدلة ثابتة وواضحة على ممارسات الصهيونيّة الاستعماريّة، وإنّ موضوع “تفتت إسرائيل” يطغى بشكل كبير على لسان المواطنين والكثير من المحللين الإسرائيليين، استناداً إلى أدلة كثيرة أهمها الصراع على السلطة والتماسك الداخليّ الذي يباد عن بكرة أبيه.