الإمامة الإلهية (بحوث الشيخ محمد السند) – ج 1 / الصفحات: ١ – ٢٠
مقدمة بقلم الاستاذ الشيخ محمد سند
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيد الخلق محمد المبعوث للرسالة وعلى آله الأئمة الهداة. وبعد فإن البحوث العقائدية والمعرفة الدينية بمكان من الأهمية، حيث انها الراسمة لطريق الانسان والمجتمع في هذه النشأة في مختلف شؤونها وجهاتها والنشآت اللاحقة، فمن ثم احتلت موقعاً في الصدارة وأولوها عناية خاصة، فالإيمان والهداية قد شدّد على صدارتهما القرآن والسنّة فى قائمة أعمال الإنسان، فقد قال تعالى:
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}(١).
والواجب الاعتقادي المعرفي، هو فعل تقوم به النفس وجوانحها في الدرجة الأولى، فالادراك والإذعان أو المعرفة والايمان، أو التعقل والاخبات أو الاهنداء والتسليم فعلان تقوم بهما طوية القوى للنفس. ومن ثمّ يستعقبها أفعال أخرى لواجبات اخرى، وهذا يوازي التعبير المقرر في العلوم الانسانية الاكاديمية أن رؤية الانسان اتجاه الكون يتفرع ليها كل الامور الاخرى من الحقوق والآداب والقوانين والاعمال.
ولا يخفى أن الاصول الاعتقادية الخمسة من التوحيد والعدل والنبوة والامامة والمعاد، مآلها هو التوحيد في المقامات الخمسة فالاول هو التوحيد في الذات الازلية
وقد أخذ عنان الحديث في الأوساط المختلفة في الآونة الاخيرة، عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية، التساؤل عن الخلفية القانونية للحكومة وإقامتها فى عصر غيبة الإمام المهدي المنتظر، وكون مشروعيتها ممتدة من امامته عجل الله تعالى فرجه الشريف أو أن الصلاحية مستمدة من الأمة والانتخاب وما يطلق عليه بالشورى، وتسليط الضوء عن المذهب الرسمي لعلماء الإمامية في ذلك مع قراءة قانونية للإمامة في سيرة الأئمة
ويستتبع ذلك شرح عدّة من العناوين المتفرعة عن البحوث السابقة كالتولي والتبري ونحوهما والتي هي بمثابة وظائف للمأموم نحو الإمام، مع لمحة فهرسية لمناهج
قم / عش آل محمّد (عليهم السلام) / بجوار كريمة أهل البيت (عليهم السلام)
محمد سند
الخامس من شوّال ١٤٢١هـ. ق
المدخل
ان البحث حول الإمامة ليس بالبحث الهيّن وذلك لغور معناها وتعدد جهاتها، كيف لا وأدنى معرفتها أنها عِدل النبوة إلا أنها ليست بنبوة، ويصعب أكثر إذا أراد الباحث التعرض إلى كل الشبهات والاشكالات التي طرحت منذ عشرات السنين وما زالت تطرح وتتداول في الأوساط المختلفة شأن بقية الأصول الاعتقادية، وقد اتخذنا في هذا البحث طريقةً واسلوباً مختلفاً عما سبق وتناوله السلف الصالح جزاهم الله خير الجزاء.
ونتعرض في هذا المدخل لعدد من النقاط المهمة التي لابد من العلم بها قبل الولوج في صلب البحث:
النقطة الاُولى:
ان البحث حول الإمامة قد يكون اشق من البحث حول التوحيد وذلك لأن التوحيد يعني اثبات الالوهية ونفي الشرك في مقام الذات، وهذا يرتضيه كثير من الناس حتى غير المسلمين، اما الإمامة فإنها تمثل جانب آخر من الايمان بالله وهو جانب الانصياع والطاعة لمن أمر الله بطاعتهم، ويعتبر ممارسة اعتقادية وعملية للإيمان، لذا كان من المهم الاهتمام به واعطاؤه الاولوية في البحث لإثبات ان الحق تعالى ابقى هذا الاتصال بين الأرض والسماء.
النقطة الثانية:
من المسلّمات التي لا يختلف فيها اثنان، ان ابن آدم يتكون من بدن وروح، ومنذ بداية نشأة الإنسان على هذه الأرض تتنازعه هاتان الجنبتان. فنرى أفرادا يتغلب عندهم الجانب البدني فتسيطر عليهم المادة ويتخيل الفرد أن كمالاته تتحقق في اتباع كمالات وشهوات بدنه، وفي الجانب المقابل نرى افرادا يتغلب الجانب الروحي لديهم فيوغلون في الرياضات الروحية ويُميتون حاجة أبدانهم ليرتقوا بأرواحهم في سُلّم السعادات وهم أصحاب النزعات الباطنية.
وباستعراض سريع لتاريخ البشرية يتضح لنا أن الأغلب والأكثر هم اتباع القسم الأول، الذي سيطر الجانب المادي والبدني عليهم، فعانت البشرية من مشاكل كثيرة وذلك لأن تغلب هذا الجانب سوف يواجه صعوبات في ايجاد واثبات الاتصال بين السماء والأرض، حيث يفقد المقاييس والضوابط التي في الجانب الروحي، ويحكم ضوابط ومقاييس الجانب البدني عليها مما يولد مشكلات عدة.
والإسلام والديانات بشكل عام تسعى إلى ايجاد التوازن بين هذين الجانبين في الإنسان وعدم طغيان احدهما على الاخر. فالدهريون منذ زمن الرسالة المحمدية إلى المدارس العصرية في زماننا هذا يحملون نفس الهاجس وهو سيطرة الجانب البدني وعدم الاعتراف بالضوابط والمقاييس الروحية.
ومن خلال الايات القرانية نستطيع ان نتلمس بعض المظاهر لسيطرة هذا الجانب.
{قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمنُ مِن شَيْء إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ}(١):
وهذا مثال آخر لقوم آخرين ينكرون الرسالة ولا يتصورون وجود قوة غير بشرية بل كلها داخل قدرة البشر وقواة المختلفة الادراكية والعمّالة.
وتتدخل لانكار الرسالة دوافع الحسد والجاه {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُل مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم}(٢): ويرى كل فرد منهم ان يكون له اتصال مع الله بنفسه وان يكون هو رسول من عند الله لا غيره. بل {يُرِيدُ كُلُّ امْرِئ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً}(٣).
وعندما يطلب المنكرون اثبات اتصال الرسول بالله يطلبون الرؤية {قَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً}(٤) فهم يؤمنون بالله وبالتوحيد لكن ميزان الارتباط هو امر مادي وهو رؤية الله البصرية.
والقرآن في قبال كل هذه الانكارات يركز على أن الرسول بشر وهو رجل منهم ولا يمكن ان يرسل غير البشر ويتميز الرسول عن غيره بعدم سيطرة النزعة البدنية والمادية عليه بل هو في الجانب الروحي متصل بالله ومرتبط بالوحي ووزان
٣- المدثر ٧٤: ٥٢.
٤- البقرة ٢: ٧٤.
منها: ان وجود اتصال دائم بين البشرية وبين الجانب الربوبي يؤدي إلى الضمور وعدم الانطلاق في الحياة والكسل والاعتماد على المنح الغيبية.
ومنها: ان قوة الفكر البشري كافية في ارشاد الإنسان نحو الكمال.
او القول بان الركون إلى وجود مثل هذا الاتصال ولو على شكل امامة افراط في النزعة الباطنية.
أو القول ان معنى النبوة الخاتمة هو اكتمال القوى العقلية لدى بني البشر، فلا تحتاج البشرية في مسيرتها إلى تسديد سماوي، أو دعوى تساوي أفراد البشر في الكمالات الروحية.
والجامع بين هذه الدعوات والاساليب السابقة هو سيطرة الجانب المادي على نفوس أصحابها فحرموا من نعمة الاحساس واستطعام حلاوة الروح.
النقطة الثالثة:
من الأمور التي يعيبها أهل الفكر من المتأخرين على أهل التدين هو انّ الاخيرين يضفون على عقائدهم هالة من القدسية تكون سورا أمام التفكير فيها وعائقاً يمنع عن البحث حول مدى صحتها.
وفي الواقع هذا غير تام وان القدسية مع الاعتراف بها – لا تمنع من البحث والتشكيك الذي يهدف إلى الوصول إلى الحقيقة أو إلى مزيد من اليقين.
اما المذموم فهو التشكيك الذي يؤدي إلى زعزعة الحقيقة الحاصلة في النفس، من دون أن يدفع نحو الفحص، بل تبقى حالة الشك والاضطراب والتحير وعدم القدرة على الاذعان بالبرهان السليم. مستولية على هذا الفرد. وهذه حالة مرضية مستعصية يفقد بها الإنسان قدرته على التعايش حيث تكون الادراكات الصحيحة غير قادرة على توليد الاذعان بها لديه.
فالشك ليس إلا جسر يُعبر عن طريقه إلى الحقيقة سواء جهة النفي أو الاثبات، اما بقاء حالة الشك فهذا مرفوض ومذموم.
النقطة الرابعة:
من الدعائم الفكرية التي يقوم عليها المذهب الوهابي، والتي بنوا عليها نتائج كثيرة لها أهمية اجتماعية وسياسية، هي ان القرآن الكريم في ايات كثيرة يركز على
وذلك لانّ هذا الاستقراء ناقص، إذ أن الآيات التي تركز على ذلك الجانب واردة في العهد المكي. اما الآيات الواردة في العهد المدني وهو عصر تكوين الدولة الإسلامية فلا تركيز لها في هذا الجانب، بل ركزت على جانب اخر مهم، وهو التوحيد ونفي الشرك في الطاعة.
وبعبارة أخرى بعد بناء المجتمع الإسلامي واصبح مَن في المدينة موحداً في العبادة ولا يشرك بالله أحدا في الوجود الإلهي وبطلت اصنام الجاهلية، وجّه القرآن المسلمين إلى مفهوم آخر يعتبر استكمالا للتوحيد في العبادة وذلك ان العبادة الرسمية وحدها لا تكفي بل يجب ان تقترن بالطاعة، وهذه الطاعة تكون لِمَن نصبه الله فطاعته تكون طاعة لله ومعصيته تكون معصية لله، بل ان طاعة مَن لم ينصبه الله هي شرك. فليس لأحد حق الطاعة إلا من خلال أمر الله جل وعلا.
فإذن الايات المكية ركزت على التوحيد ونفي الشرك في الوجود الإلهي والعبادة، والايات المدنية ركزت على التوحيد ونفي الشركة في الطاعة، والوهابية
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِدُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبَّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوْا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا}(١)…
فان النّد هو المماثل ويكاد يجمع المفسرون على ان المراد ليس اتخاذ إله آخر مع الله فهم موحدون في العبادة الاصطلاحية الرسمية، بل يقصد بالانداد هنا الرؤساء الذين خضع لهم بعض الناس وأطاعوهم من غير أنْ يأذن الله في اطاعتهم كما تشهد ذيل الاية ” اذ تبرأ، واتبعوا “.
وفي الكافي والعياشي عن الباقر (عليه السلام): في قوله ومن يتخذ من دون الله اندادا.. قال هم والله يا جابر ائمة الظلم واشياعهم.
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَة سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ}.
والاية بعد ان تقرر وحدانية الالوهية وعبادة الله وحده لا شريك له تؤكد على وحدانية الربوبية وهي ربوبية الطاعة اذ ان الرب هو السيد المربي الذي يطاع فيما يأمر وينهى اي المشرع والمطاع من دون ارشاد الله اليه. فالطاعة لا يجوز ان تكون لاي فرد بل هي مختصة لمن يرشد اليه الله سبحانه.
ـ {قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}(٢)…
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوْا لآِدَمَ.. إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}(٢) فرتب الكفر الاصطلاحي على عدم خضوع الطاعة.
{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(٣) فنفى الايمان مع عدم تسليم الطاعة قلباً وعملا.
ونكتفي بهذا المقدار من الشواهد مع وجود شواهد أخرى عديدة تؤكد على ان الايات المدنية وردت في اكثر من موطن لتحذر المسلمين من مغبة الوقوع في انحرافات اليهود والنصارى باتباع من لم يأمر الحق باتباعه. فالتوحيد من الطاعة من الأمور المهمة التي ركز عليها القرآن وطاعة الأئمة تدخل في هذا النطاق.
٣- النساء ٤: ٦٥.
النقطة الخامسة:
ان البعض يتصور ان البحث حول الإمامة يؤدي إلى تفكيك المجتمع الإسلامي، وبتعبير آخر ان هذا البحث هو في خط مقابل لبحوث الوحدة الاسلامية. وهذا الاعتقاد خاطئ وذلك لإننا عندما ننظر إلى الوحدة الاسلامية يجب ان نحلل هذا المصطلح طبقا للمعايير الفقهية التي أسسها الفقة الإمامي لا أن نعبر تعبيرا عصرياً فننظر إليه بمنظار ما يسمى بالثقافة الإسلامية ونحيطه بطائفة الشعارات التي لا تمس الشريعة بصلة.
فمن وجهة نظر فقهية وبقراءة سريعة لما حبرته يراع الفقهاء السابقون رضوان الله عليهم نرى انهم ينصّون على ان من تشهد الشهادتين فقد دخل في الإسلام وتصبح له حرمة يجب الحفاظ عليها ومراعاتها ولا يجوز ان تهتك، وهذه الحرمة تشمل جميع جوانب الحياة اليومية من اجتماعية واقتصادية وسياسية وجنائية، فلا يجوز تحميله عبئاً اقتصاديا غير ما فرضه الله على كافة المسلمين ولا يجوز معاقبته على جناية ارتكبها بعقوبة اكثر مما فرضه الله على الجميع، لمجرد عدم دخوله في المذهب الحق. وهكذا فإنا نرى ان الفقهاء قد عملوا وأفتوا عملا بما تستلزمه وحدة المسلمين وبقاؤهم كالبنيان المرصوص.
اما الآية الكريمة {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}(١).
فإنها تخاطب المسلمين بشكل عام وهم من تشهد بالشهادتين وتوجه لهم خطابان: احدهما وجوب الاعتصام، والآخر: عدم التفرقه، وهذا قد يكون أمرا