الناس على أنهم عبيد ليزيد ومن امتنع قتل، ولما بلغ يزيد خبر تلك الجرائم والمآسي التي يندى لها الجبين ولم يشهد لها التاريخ مثيلا حتى عند المغول والتتار وحتى عند الإسرائيليين فرح بذلك وأظهر الشماتة بنبي الإسلام وتمثل بقول ابن الزبعري الذي أنشده بعد موقعة أحد قائلا:
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل لأهلوا واستهلوا فرحا * ثم قالوا: يا يزيد لا تشل قد قتلنا القرم من ساداتهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل لست من خندف إن لم أنتقم * ومن بني أحمد ما كان فعل لعبت هاشم الملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل فإذا كان الجد أبو سفيان العدو الأول لله ورسوله يقول صراحة:
تلقفوها يا بني أمية تلقف الكرة فوالذي يحلف به أبو سفيان فما من جنة ولا نار.
وإذا كان الأب معاوية العدو الثاني لله رسوله يقول صراحة: (عندما يسمع المؤذن يشهد أن محمدا رسول الله) أي عمل وأي ذكر يبقى مع هذا لا أم لك؟ والله إلا دفنا دفنا.
وإذا كان الابن يزيد العدو الثالث لله ورسوله يقول صراحة:
لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل وإذا ما نحن عرفنا عقيدة هؤلاء في الله ورسوله وفي الإسلام وإذا ما نحن عرفنا أعمالهم الشنيعة التي أرادوا بها هدم أركان الإسلام والإساءة إلى نبي الإسلام والتي لم نذكر منها إلا النزر اليسير روما للاختصار ولو أردنا التوسع لملأنا مجلدا ضخما في أعمال معاوية وحده التي بقيت عليه عارا وشنارا وفضيحة مدى الدهر ولو تجند لتغطيتها وسترها بعض علماء السوء الذين كان لبني أمية عليهم أيادي وعطايا أعمت عيونهم فباعوا آخرتهم بدنياهم وألبسوا الحق بالباطل وهم يعلمون، وبقي أغلب المسلمين ضحية
(٤٦)
هذا الدس. والتزوير، ولو علم هؤلاء الضحايا الحقيقة، لما ذكروا أبا سفيان ومعاوية ويزيد إلا باللعن والبراءة.
ولكن الذي يهمنا في هذا البحث الوجيز هو التوصل إلى مدى تأثير هؤلاء وأشياعهم وأتباعهم الذين حكموا المسلمين طيلة مائة عام ولما يزل في خطواته الأولى.
ولا شك في أن تأثير هؤلاء المنافقين كان كبيرا على المسلمين فغير عقيدتهم وغير سلوكهم وأخلاقهم ومعاملاتهم وحتى عباداتهم وإلا كيف يمكن لنا تفسير قعود الأمة عن نصرة الحق وخذلان أولياء الله والوقوف مع أعداء الله ورسوله.
وكيف يمكن لنا أن نفسر وصول معاوية الطليق ابن الطليق واللعين ابن اللعين إلى الخلافة التي تمثل مرتبة وخلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الوقت الذي يموه علينا المؤرخون بأن الناس كانوا يقولون لعمر بن الخطاب لو رأينا فيك إعوجاجا لقومناك بسيوفنا. نراهم يتحدثون عن معاوية وهو يعتلي منصة الخلافة بالقهر والقوة وأول خطبة يقولها في جميع الصحابة: إني ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولكن لأتأمر عليكم وها أنا ذا أمير عليكم فلا يحرك منهم أحد ساكنا ولا يعارضوه بل يجروا في ركابه حتى يسموا ذلك العام الذي استولى فيه معاوية على الخلافة بعام الجماعة في حين أنه كان بحق عام الفرقة.
ثم نراهم بعد ذلك يقبلون منه أن يولي عليهم ابنه الفاسق يزيد المعروف لديهم جميعا فلا يثورون ولا يتحركون إلا ما كان من بعض الصلحاء الذين قتلهم يزيد في وقعة الحرة وأخذ ممن بقي منهم البيعة على أنهم له عبيد. فكيف لنا تفسير كل ذلك.
على أننا نجد بعد ذلك أنه وصل للخلافة باسم إمارة المؤمنين الفساق من بني أمية كالوزغ مروان بن الحكم والوليد بن عقبة وغيرهم.
(٤٧)
ووصل الأمر بأمراء المؤمنين أن يستبيحوا مدينة رسول الله ويفعلوا فيها الأفاعيل وتهتك فيها الحرمات، بل ويحرقوا بيت الله الحرام ويقتلوا في الحرم خيار الصحابة. ووصل الأمر بأمر المؤمنين أن يسفكوا دماء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك بقتلهم ريحانة رسول الله وذريته ويستبيحوا سبي بناته، فلا يحرك أحد من الأمة ساكنا ولا يجد سيد شباب أهل الجنة ناصرا.
ووصل الأمر بأمراء المؤمنين أن يمزقوا كتاب الله ويقولون له إذا لقيت ربك يوم حشر فقل يا رب مزقني الوليد. كما فعل الوليد الأموي.
ووصل الأمر بأمراء المؤمنين أن يلعنوا على المنار علي بن أبي طالب ويأمروا الناس بلعنه في كل الأقطار وهم لا يقصدون بذلك غير لعن رسول الله فلا يحرك منهم أحد ساكنا ومن امتنع قتل وصلب ومثل به.
ووصل الأمر بأمراء المؤمنين أن يتجاهروا بشرب الخمر والزنا واللهو بالطرب والغناء والرقص و و وحدث ولا حرج!
فإذا كان أمر الأمة الإسلامية قد وصل إلى هذا الحد من الانحطاط في الأخلاق والذل والاستكانة فلا بد أن هناك عوامل أثرت في عقيدتها وهذا ما يهمنا في هذا البحث لأنه يتعلق بموضوع العصمة وشخصية الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
وأول ما يلفت انتباهنا هنا هو أن الخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان منعوا كتابة حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل وحتى التحدث به.
فهذا أبو بكر يجمع الناس في خلافته ويقول لهم: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدم أشد اختلافا فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه (1).
(1) تذكرة الحفاظ للذهبي: ج 1 ص 2 و 3.
(٤٨)
كما أن عمر بن الخطاب هو الآخر منع أن يتحدث الناس بحديث الرسول. قال قرظة بن كعب: لما سيرنا عمر بن الخطاب إلى العراق مشى معنا وقال أتدرون لما شيعتكم؟
قالوا: تكرمة لنا، قال: ومع ذلك إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم جودوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله وأنا شريككم.
يقول هذا الراوي: فلم أنقل حديثا قط بعد كلام عمر، ولما قدم العراق هرع الناس إليه يسألونه عن الحديث فقال لهم قرظة: نهانا عن ذلك عمر (1).
كما أن عبد الرحمن بن عوف قال بأن عمر بن الخطاب جمع الصحابة من الآفاق لمنعهم من التحدث بأحاديث رسول الله في الناس وقال لهم: أقيموا عندي ولا تفارقوني ما عشت، فما فارقوه حتى مات (2).
كما يذكر الخطيب البغدادي والذهبي في تذكرة الحفاظ بأن عمر بن الخطاب حبس في المدينة ثلاثة من الصحابة وهم أبو الدرداء وابن مسعود وأبو مسعود الأنصاري بذنب الإكثار من نقل الحديث – كما أن عمر أمر الصحابة أن يحضروا ما في أيديهم من كتب الحديث فظنوا أنه يريد أن يقومها على أمر لا يكون فيه اختلاف فأتوه بكتبهم فأحرقها كلها في النار (3).
ثم أتى بعده عثمان فواصل المشوار وأعلن للناس كافة أنه لا يحل لأحد أن يروي حديثا لم يسمع به على عهد أبي بكر ولا عهد عمر (4).
ثم بعد هؤلاء جاء دور معاوية بن أبي سفيان لما اعتلى منصة الخلافة
١) سنن ابن ماجة: ١ / ١٢. وسنن الدارمي: ١ / ٨٥. والذهبي في تذكرة الحفاظ: ١ /.
(٢) مستدرك الحاكم: ١ / ١١٠. كنز العمال: ٥ / 239.
(3) الطبقات الكبرى لابن سعد: 5 / 140. الخطيب البغدادي في تقييد العلم.
(4) منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد: ج 4 ص 64.
(٤٩)
صعد على المنبر وقال: أيها الناس إياكم والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلا حديثا يذكر على عهد عمر (1).
فلا بد أن هناك سرا لمنع الأحاديث التي قالها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتي لا تتماشى وما جرت عليه المقادير في ذلك العصر وإلا لماذا يبقى حديث الرسول ممنوعا طوال هذه المدة الطويلة ولا يسمح بكتابته إلا في زمن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
ولنا أن نستنتج طبقا لما سبق من الأبحاث بخصوص النصوص الصريحة في الخلافة والتي أعلنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رؤوس الأشهاد بأن أبا بكر وعمر منعا من الراوية والحديث عن النبي خوفا أن تسري تلك النصوص في الأقطار أو حتى في القرى المجاورة فتكشف للناس بأن خلافته وخلافة صاحبه ليست شرعية وإنما هي اغتصاب من صاحبها الشرعي علي بن أبي طالب. وقد تكلمنا في هذا الموضوع وكشفنا عن هذه الحقيقة في كتابنا لأكون مع الصادقين فليراجع لمزيد الاطمئنان.
والعجيب في أمر عمر بن الخطاب هو مواقفه المتناقضة بالخصوص في كل ما يتعلق بأمر الخلافة.
ففي حين نجده هو الذي ثبت بيعة أبي بكر وحمل الناس عليها قهرا يحكم عليها بأنها فلتة وقى الله شرها – وفي حين يختار هو ستة للخلافة نراه يقول: لو ولوها الأجلح (يقصد علي بن أبي طالب) لحملهم على الجادة فما دام يعترف بأن علي هو الشخص الوحيد الذي يحمل الناس على الجادة فلماذا لم يعينه وينتهي الأمر ويكون بذلك قد بذل النصح لأمة محمد. ولكنا نراه بعد ذلك يتناقض فيرجح كفة عبد الرحمن بن عوف ثم يتناقض
1) الخطيب البغدادي شرف أصحاب الحديث: 91.
(٥٠)