الأذان بين الأصالة والتحريف / الصفحات: ١٨١ – ٢٠٠
القسم الأوّل
اتّفاق الفريقين على أصل شرعيّتها
من الثابت المسلّم الذي لا يقبل الشكّ هو ثبوت جزئيّة “حيَّ على خير العمل” في الأذان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ; لأنّها مضافاً إلى وجودها في روايات الإمامية الاثني عشرية وفي روايات الزيّدية والإسماعيليّة، رواها أهل السنة والجماعة بطرقهم، وأنّ بلالاً كان يؤذّن بها في الصبح خاصّة، بل كان جمّ غفير من الصحابة يؤذّنون بها.
وحكي عن بعض أئمّة المذاهب الأربعة أنّهم قالوا بالتأذين بها، لكنّ عامّتهم ادّعوا أنّ رسول الله أمر بلالاً بحذفها من الأذان ووضع مكانها جملة «الصلاة خير من النوم».
من هذا يتبيّن أنّهم لا ينكرون شرعيّتها في مبدأ الأمر، لكنّهم يقولون بنسخها، فما هو الناسخ إذاً؟ ولِمَ تُنسخُ هذه الجملة بالخُصوص من الأذان؟
للإجابة عن هذا السؤال لابدّ من ملاحظة أنّ أهل السنّة والجماعة انقسموا ـ في هذه المسألة ـ إلى فريقين ; فمنهم من قال إنّ الناسخ هو قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) لبلال: “اجعل مكانها الصلاة خير من النوم”(١)، في حين لم يَرَ الفريقُ الآخر منهم
قال السيّد المرتضى في الانتصار: وقد روت العامّة أنّ ذلك [أي «حيّ على خير العمل»] مما كان يقال في بعض أيام النبيّ، وإنّما ادّعي أن ذلك نُسخ ورُفع، وعلى مَن ادّعى النسخ الدلالة له، وما يجدها(١).
وقال ابن عربي في الفتوحات المكية:… وأمّا من زاد في الأذان حيَّ على خير العمل فإن كان فُعل في زمان رسول الله ـ كما روي أنّ ذلك دعا به في غزوة الخندق ; إذ كان الناس يحفرون، فجاء وقت الصلاة وهي خير موضوع كما ورد في الحديث، فنادى المنادي أهل الخندق “حيَّ على خير العمل” ـ فما أخطأ مَن جعلها في الأذان، بل اقتدى إن صحّ الخبر، أو سنّ سنّة حسنة(٢). وجاء في الروض النضير عن كتاب السنام ما لفظه: الصحيح أنّ الأذان شرّع بحيّ على خير العمل، لأنّه اتُّفِق على الأذان به يوم الخندق، ولأنّه دعاءٌ إلى الصَّلاة، وقد قال (صلى الله عليه وآله) “خير أعمالكم الصلاة”(٣). كما وردت روايات |
٣- هذا ما حكاه عزّان محقّق كتاب (الأذان بحيّ على خير العمل):١٢ عن الروض النضير ١: ٥٤٢.
أخرى تفيد أنّ مؤذّني رسول الله (صلى الله عليه وآله) وغيرهم من الصحابة استمرّوا على التأذين بها حتّى ماتوا(١). |
وعليه فالفريقان شيعةً وسنةً متّفقان على ثبوت حكمها في الصدر الأوّل وعلى كونها جزء الأذان في بدء التشريع، لكنّ أهل السنة والجماعة انفردوا بدعوى النسخ، وهو كلام قُرِّر في العهود اللاحقة لأسباب تقف عليها لاحقاً.
فهذا الأمر يشير إلى أنّ شرعيتها وجزئيتها كانت ثابتة عند الفريقين من لدن عهد الرسول الأكرم، ويضاف إلى ذلك أنّ الشيعة الإمامية والزيدية والإسماعيلية لهم طرقهم الخاصَّة والصَّحيحة وكُلُّها تُؤكّد ثبوتها على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعدم نَسْخها في حياته (صلى الله عليه وآله)، “وأنّ رسول الله أمَرَ بلالاً أنْ يُؤذّن بها فلم يَزَلْ يُؤَذِّنُ بها حتّى قَبَضَ اللهُ رَسولَهُ”(٢).
وهذا نص صريح يدل على عدم نسخ “حَيّ على خير العمل” وعلى كونها جُزء الأذان حتّى قَبَضَ الله رسوله.
ويؤيِّد هذا المروي عندنا عن بلال ما رواه الحافظ العلوي الزيدي(٣) مسنداً
٣- وهو أبو عبدالله محمد بن علي بن الحسن العلوي الشجري الكوفي (الإمام المحدّث الثقة العالم الفقيه مسند الكوفة) كما نصّ عليه الذهبي في العبر ٣: ٢١٢ وسير أعلام النبلاء ١٧: ٦٣٦ وابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب ٣: ٢٧٤. مات بالكوفة في ربيع الأول سنة ٤٤٥ هـ، ومولده في رجب سنة ٣٦٧ هـ.
قال ابن النرسي: ما رأيت من كان يفهم فقه الحديث مثلَه. وقال: كان حافظاً خرّج عنه الحافظ الصوري وأفاد عنه وكان يفتخر به (سير اعلام النبلاء ١٧: ٦٣٦). وفي (طبقات الزيدية ٢: ٢٩٢): الثقة العابد مسند أهل الكوفة، وقد ترجم له الطهراني في طبقات أعلام الشيعة (أعلام القرن الخامس ١٧٠ ـ ١٧٢).
له كتاب ” فضل الكوفة ” و” فضل زيارة الحسين ” و” تسمية من روى عن الإمام زيد من التابعين “، و” التاريخ “، و” التعازي ” وكتاب ” الجامع الكافي ” وقد جمعه من بضع وثلاثين كتاباً من كتب الإمام محمد بن المنصور المرادي الزيدي، وهو من أجلّ ما كتب في الفقه ونصوص الأئمّة الزيديّة، وفيه بحث الأذان. وله كتاب على انفراد باسم ” الأذان بحيَّ على خير العمل ” له طرق متعدّدة عند الزيديّة، وقد أشار محمد يحيى سالم عزّان إلى بعض طرقه إلى هذا الكتاب في مقدّمة تحقيقه ص (٣٢)، وكذا العلاّمة السيّد محمّد بن حسين بن عبدالله الجلال، حيث قال في آخر نسخته: يقول الفقير إلى الله المعترف بالذنب والتقصير محمد بن حسين بن عبدالله الجلال:
أروي كتاب ” الأذان بحيَّ على خير العمل ” من عدّة طرق عن مشايخي رحمهم الله بطر يق الإجازة العامّة، وأرو يه عن سيّدي العلاّمة قاسم بن حسين أبو طالب بالسماع من فاتحته إلى خاتمته إلاّ اليسير منه فبالإجازة العامّة، وهو يرو يه عن عدد من مشايخه ذكرتهم في مؤلّفي المسمّى (الأنوار السنيّة في إسناد علوم الأمة المحمديّة) منهم شيخه العلاّمة عليّ بن حسين المغربي عن شيخه السيّد العلاّمة عبدالكريم بن عبدالله أبو طالب عن شيخه العلاّمة بدر الال… إلى آخر مشايخه ـ عن المؤلّف أبي عبدالله محمد بن عليّ بن الحسن بن عليّ بن الحسين بن عبدالرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليهم جميعاً.
وقد طبع هذا الكتاب في اليمن في شهر صفر عام ١٣٩٩ هـ، السيّد يحيى عبدالكر يم الفضل عن نسخة العلاّمة الجلال. قال المحقق في مقدّمته للكتاب: وقد روى التأذين بـ ” حي على خير العمل “، أكثر من عشرة من الصحابة، وجاءت رواية الأذان من أكثر من مائة طريق، وكلّ منها بإسناد متصل (انظر: المقدمة ٥ ـ ٦).
وقد نقل عن هذا الكتاب كثير من الأعلام أمثال الإمام القاسم بن محمّد في كتاب الاعتصام، والشوكاني في نيل الأوطار، وأخرج مسنده في كتابه (إتحاف الأكابر)، ورواه وأخرج مسنده العلاّمة عبدالواسع الواسعي في كتابه (درر الأسانيد)، وكذا العلاّمة مجد الدين المؤيّد والعلاّمة الجلال وغيرهم.
ومن المؤسف أنّ النسخة المطبوعة التي بأيدينا مغلوطة، ولم تُعرض وتقابَل مع نسخ خطية أخرى للكتاب، وإن كتب على المطبوع حقّقه السيّد يحيى عبدالكر يم الفضيل. ولأجله استعنت في بعض الأحيان بنسخة أخرى من تحقيق محمّد يحيى سالم عزّان، وفي أحيان أخرى بكتاب الاعتصام بحبل الله المطبوع فيه كتاب الأذان بكامله. وقد أراني المحقّق الحجة السيّد محمد رضا الجلالي نسخة من كتاب (الأذان بحيّ على خير العمل) بخط العلاّمة المحدّث السيّد محمد بن الحسين الجلال مجيزاً له رواية هذا الكتاب، وقد أخبرني بأنه يعزم على تحقيقه وطبعه فسرّني عزمه آملين له التوفيق والسداد.
ويضاف إلى ذلك أنَّ رواية الحافظ العَلوي عن بلال تنفي الزيادة التي جاء بها الطـبراني والبيهـقي عنـه رضـوان الله تعالى عليه ; لأنَّ الحافظ العَلـوي كان قـد قال:
حدّثنا عليّ بن محمّد بن إسحاق المقري الخزّاز، أخبرنا أبو زرعة أحمد بن الحسين الرازي، حدّثنا أبو بكر بن تومردا، أخبرنا مسلم بن الحجّاج، حدّثنا إبراهيم بن محمّد بن عرعرة، حدّثنا معن بن عيسى، حدّثنا عبدالرحمن بن سعد المؤذِّن، عن محمّد بن عمّار بن حفص بن عمر، عن جدّه حفص بن عمر بن سعد، قال: كان بلال يؤذِّن في أذان الصبح بحيَّ على خير العمل(٣).
|
٣- الأذان بحيّ على خير العمل ٢٨. وبتحقيق عزّان ٥٦. والاعتصام بحبل الله ١: ٢٩٠.
فأمره النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يجعل مكانها «الصلاة خير من النوم» وترك “حيَّ على خير العمل”.
|
والمتأمِّل في رواية معن بن عيسى عن عبدالرحمن بن سعد التي أوردها الحافظ العلـوي يراهـا أوثـق من روايـة يعقـوب بن حمـيد التي أوردها الطـبراني والبيهـقي باتفاق الجمـيع ; لأنَّ معن بن عيسـى ثقـة ثبـت وكذا غـيره من رجال السـند.
وممّا يحبذ هنا هو أنّ نقوم بتحقيق بسيط عن رجال الإسنادين وما رَوَوه عن بلال وأبي محذورة، واختلاف النقل عنهما، كي نتعرف على ملابسات مثل هذه الأمور في الشريعة والأحكام:
وقفه مع الحديثَين(١)
ذكرت كتب الحديث والتاريخ أسماء أربعة من الذين أذنوا على عهد رسول الله، وهم:
١ ـ بلال بن رباح الحبشي ٢ ـ أبو محذورة القرشي ٣ ـ عبدالله بن أمّ مكتوم ٤ ـ سعد القرظ وقد أذّن أبو محذورة بعد السنة الثامنة من الهجرة(٢)، وقيل بعد فتح مكّة(٣)، ونقل عن سعد القرظ أنّه كان يؤذّن بِقُبا(٤).
وربّما تكون روايات الأذان عند المذاهب الأربعة والاختلافات في فصوله وأعداده، راجعـة إلى اختـلاف عمل هـؤلاء الصـحابة في الأذان أو اختلاف النـقل عنهـم، مضـافـاً إلى ما جـاء عن عبد الله بن زيـد بن ثعلـبة بن عبد ربـه فيه.
فالاختلاف أمر ملحوظ في الأحاديث، وقد يُنقَل عن الصحابي الواحد نقلان متخالفان ; فالتكبيرتان والأربع في أوّل الأذان مثلاً ورد كلّ منهما عن عبدالله بن
٢- سبل السلام ١: ١٢٠، كتاب المسند للشافعي ٣١، مسند أحمد٣: ٤٠٨، سنن النسائي ٢: ٥.
٣- الطبقات الكبرى لابن سعد ٥: ٤٥٠.
٤- تلخيص الحبير ٣: ١٩٩، تهذيب الأسماء للنووي ١: ٥٥.
لكن مالكاً وأصحابه ذهبا إلى تثنية التكبير، وقد رووا ذلك من وجوه صحاح من أذان أبي محذورة ومن أذان عبدالله بن زيد وعليه عمل أهل المدينة من آل سعد القرظ”(٢).
واتفق مالك(٣) والشافعي(٤) على الترجيع في الأذان، لكن الحنابلة(٥)والأحناف(٦) قالوا: لا ترجيع في الأذان، وكلٌ استند فيما ذهب إليه إلى نقله عن بعض الصحابة!!
قال الأثرم: سمعت أبا عبدالله [يعني أحمد بن حنبل] يُسأَلُ: إلى أيّ الأذان يذهب؟ قال: إلى أذان بلال…
قيل لأبي عبدالله: أليس حديث أبي محذورة بعد حديث عبدالله بن زيد ; لأنّ
٣- فتح المالك ١: ٨.
٤- المجموع للنووي ٣: ٩٠.
٥- المغني لابن قدامة ١: ٤١٦. فتح الباري لابن رجب ٣: ٤١٤.
٦- المبسوط للسرخسي ١: ١٢٨، الهداية شرح البداية ١: ٤١ باب الأذان.
بلى، إنّ فِعل الصحابي كان هو الحجة رغم الاختلافات، لكن لنا أنّ نتساءل عن هذا الاختلاف هل أنّه حصل بالفعل في زمن الصحابي، أم أنّه من صنع المتأخرين، وما هي ملابسات هذه الأحاديث المختلفة؟ بل ما هي قيمة رجال إسنادها؟!
ونحن إيماناً بضرورة دراسة مثل هذه الأمور سلّطنا بعض الضوء على رجال خبري بلال وأبي محذورة.
فقد ادّعي في طريق الطبراني والبيهقي أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لبلال: “اجعل مكانها الصلاة خير من النوم”، مع أنّ هذه الزيادة غير موجودة في طريق الحافظ العلوي.
وفي رواية أبي محذورة “فاجعل في آخرها: الصلاة خير من النوم”، وهي أيضاً غير موجودة في طريق الحافظ العلوي.
فأيّ النقلين هو الصواب إذن؟!
مع ما رواه الطبراني والبيهقي عن بلال
قد مر عليك قبل قليل(١) ما رواه الطبراني عن شيخه محمّد بن عليّ الصائغ، والبيهقي بإسناده عن أبي الشيخ الإصفهانيّ ـ في كتاب الأذان ـ عن محمّد بن عبدالله بن رسته، كلاهما عن يعقوب بن حميد بن كاسب:
حدّثنا عبدالرحمن بن سعد بن عمّار بن سعد القرظ، عن عبدالله بن محمّد، وعمر وعمّار ابنَي حفص، عن آبائهم، عن أجدادهم، عن بلال…
|
وفي هذا الإسناد: يعقوب بن حميد بن كاسب، فهو أبو يوسف، مدنيّ الأصل، مكيّ الدار ; هذا ما قاله ابن أبي حاتم الرازي، ثمّ قال: سألت يحيى بن معين عن يعقوب بن كاسب، فقال: ليس بشيء.
وقال أبو بكر بن خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول وذكر ابن كاسب، فقال: ليس بثقه، قلت: من أين قلت ذلك؟ قال: لأنّه محدود(٢).
قلت: أليس في سماعه ثقة؟ قال: بلى.
أخبرنا عبدالرحمن، قال: سمعت أبي يقول: ضعيف الحديث.
أخبرنا عبدالرحمن قال: سألت أبا زرعة عن يعقوب بن كاسب، فحرّك رأسه، قلت: كان صدوقاً في الحديث، قال: لهذا شروط. وقال في حديث رواه يعقوب: قلبي لا يسكن إلى ابن كاسب(٣).
وقال أبو بكر: سمعت يحيى بن معين وذكر ابن كاسب يقول: ليس بثقة، فقلت له: من أين قلت ذاك؟ قال: لأنّه محدود، قلت: أليس هو في سماعه ثقة؟ فقال: بلى، فقلت له: أنا أعطيك رجلاً تزعم أنّه وجب عليه حدٌّ وتزعم أنّه ثقة، قال: من
٣- الجرح والتعديل ٩: ٢٠٦.
وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ: تفرّد بأشياء وله مناكير، حدّث عنه البخاري وابن ماجة وعبدالله بن أحمد وإسماعيل القاضي، وأبو بكر بن أبي عاصم وطائفة، ذكره البخاري فقال: لم نرَ إلاّ خيراً، وقال أبو حاتم: ضعيف(٢).
وفي ميزان الاعتدال: قال البخاري: لم نرَ إلاّ خيراً، هو في الأصل صدوق وشذّ مضر بن محمّد الاسدي فروى عن ابن معين: ثقة، وروى عبّاس عن يحيى: ليس بثقه(٣)، فقلت: لم؟
قال: لأنّه محدود…
والنسائي: ليس بشيء.
وأبو حاتم: ضعيف.
قال الذهبي: كان من علماء الحديث لكن له مناكير وغرائب، وحديثه في صحيح البخاري في موضعين: في الصلح، وفيمن شهد بدراً…
قال الحلواني: رأيت أبا داود السجستاني قد جعل حديث يعقوب بن كاسب وقايات على ظهور كتبه، فسألته عنه، فقال: رأينا في مسنده أحاديث أنكرناها،
٣- في تهذيب الكمال ٣٢: ٣٢٢ عن عباس الدوري عن ابن معين: ليس بشيء.
فقد قال ابن أبي حاتم عنه: سئل يحيى بن معين عن عبدالرحمن المؤذّن، فقال: مديني ضعيف ; روى عن أبي الزناد(١).
وقال ابن حجر في تقريب التهذيب: ضعيف من السابعة(٢).
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: وعبدالرحمن ضعيف(٣).
وقال ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني: ضعيف(٤).
وقال البخاري في تار يخه الكبير: عبدالرحمن بن سعد فيه نظر، مولى بني مخزوم(٥).
وقال المارديني الشهير بابن التركماني في الجوهر النقي: منكر الحديث(٦).
وضعّفه ابن أبي حاتم، وقال ابن القطان: هو وأبوه وجدّه مجهولو الحال(٧).
وقال الألباني في إرواء الغليل: عبدالرحمن بن سعد ضعيف وأبوه وجده لا يعرف حالهم(٨).
وأمّا عبدالله بن محمد فقد ضعفه ابن معين(٩).
٣- نيل الاوطار ٣: ٣٤٦.
٤- الآحاد والمثاني ١: ٦٥.
٥- تاريخ البخاري الكبير ٥: ٢٨٧.
٦- الجوهر النقي ٣: ٢٨٦.
٧- الجوهر النقي ١: ٣٩٤.
٨- إرواء الغليل ٣: ١٢٠.
٩- الجوهر النقي ١: ٣٩٤، ٣: ٢٨٧.
فقد قال ابن معين: ليس بشيء(٢).
وقال ابن حجر في تقريب التهذيب: عمر بن حفص بن عمر بن سعد القرظ المدني المؤذن فيه لين، من السابعة(٣).
وأمّا عمار بن حفص بن عمر بن سعد القرظ، فهو أخو عمر، وهو والد محمّد، روى عنه عبدالرحمن بن سعد(٤).
قال البخاري: لم يصحّ حديثه(٥).
وقال يحيى بن معين: ليس بشيء(٦).
وأمّا حفص بن عمر بن سعد القرظ، فلم يسمع من جدّه ولا غيره من الصحابة، وربما نسب إلى جدّه فيتوهّمه الواهم أنّه تابعي(٧).
وقد علّق ابن التركماني على أحد أحاديث حفص بن عمر في كتاب صلاة العيدين بقوله: إنّ حفصاً والد عمر المذكور في هذا السند إن كان حفص بن عمر
٣- تحرير تقريب التهذيب ٣: ٦٨.
٤- التاريخ الكبير ٥: ٢٨٧.
٥- ميزان الاعتدال ٥: ٢١١.
٦- لسان الميزان ٤: ٢٧١، الجرح والتعديل ٦: ٣٩٢.
٧- معرفة علوم الحديث: ٧٠ النوع الخامس عشر.
كان هذا حال رجال هذا الإسناد.
مع ما رواه الحافظ العلوي عن بلال
أمّا طريق الحافظ العلوي فهو أحسن من هذا بكثير، وإن كان فيه بعض الملابسات ; لأنّ الحافظ خرّج حديثه من طريق مسلم بن الحجّاج، وإن لم يكن في صحيحه:
حدثنا إبراهيم بن محمّد بن عرعرة، حدثنا معن بن عيسى، حدثنا عبدالرحمن بن سعد المؤذّن، عن محمّد بن عمّار بن حفص بن عمر.
|
وهم خير من أولئك.
فمسلم بن الحجّاج، صاحب الصحيح، فهو إمام عند القوم.
وأمّا إبراهيم بن محمّد بن عرعرة بن البرند بن النعمان أبو إسحاق البصري فقال عنه ابن أبي حاتم الرازي: سئل أبي عن إبراهيم بن أبي عرعره فقال: صدوق(٣).
٣- الجرح والتعديل ٢: ١٣٠.
وأمّا معن بن عيسى بن يحيى بن دينار الأشجعي مولاهم القزّاز أبو يحيى المدني ; فهو في طبقة يعقوب بن حميد بن كاسب، فقد ترجم له المزّي في التهذيب(٢)، قال أبو حاتم: أثبتُ أصحاب مالك وأوثقهُم معن بن عيسى، وهو أحب اليَّ من عبدالله بن نافع الصائغ ومن ابن وهب(٣).
أمّا عبدالرحمن بن سعد المؤذن فضعيف حسبما عرفت.
وأمّا محمّد بن عمّار بن حفص بن عمر، فهو أبو عبدالله المدني مؤذّن مسجد الرسول، ويقال له: كشاكش، وهو مولى الانصار ويقال: مولى عمّار بن ياسر(٤).
قال عبدالله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: ما أرى به بأس(٥)، وقال الدوري عن يحيى بن معين: لم يكن به باس(٦).
وقال عليّ بن المديني: ثقة(٧).
٣- الجرح والتعديل ٨: ٢٧٧ ـ ٢٧٨ الترجمة ١٢٧١.
٤- تهذيب الكمال ٢٦: ١٦٣، تهذيب التهذيب ٩: ٣٥٨، التاريخ الصغير ٢: ١٨٣.
٥- العلل لأحمد ٢: ٤٨٥، بحر الدم فيمن مدحه أحمد أو ذمّ ١٤١.
٦- تاريخ بن معين برواية الدوري ١: ١٤٧.
٧- لسان الميزان ٧: ٣٦٩ ـ ٣٧٠، تهذيب الكمال ٢٦: ١٦٣.
وحفص بن عمر بن سعد القرظ قد عرفت حاله وهو مُتكلَّم فيه، والخبر موقوف عليه وليس بحجة.
ومع كلّ هذه الملابسات نرى هذا الإسناد أنظف ممّا رواه الطبراني في الكبير والبيهقي عن أبي الشيخ الإصفهاني عن محمّد بن عبدالله بن رُسته في السنن.
مع ما رواه السري عن أبي محذورة
ويعضد ثبوت الحيعلة الثالثة عن رسول الله ما رواه الحافظ العلوي بطرق متعددة ـ سيأتيك ذكرها تحت عنوان “تأذين الصحابة وأهل البيت” ـ عن أبي محذورة وأنّها اتفقت جميعاً على ثبوتها.
وأمّا رواية الحافظ العلوي بإسناده الذي فيه أحمد بن محمّد بن السري فإليك نصّها:
حدّثنا أبو القاسم عليّ بن الحسين العرزمي إملاءً من حفظه، قال: حدّثنا أبو بكر أحمد بن محمّد بن السري التميمي، حدّثنا أبو عمران موسى بن هارون بن عبدالله الجمال، حدّثنا يحيى ابن عبدالحميد الحماني، حدّثنا أبو بكر بن عياش، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي محذورة، قال: كنتُ غلاماً |
صيّتاً، فأذّنت بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) لصلاة الفجر، فلما انتهيت إلى “حيَّ على الفلاح” قال النبيّ (صلى الله عليه وآله): ألحق فيها “حيَّ على خير العمل”(١). |
وهذا النص ـ كما تـراه ـ واضـح لا مغمز في لفظه ولا معناه، لكنّ المتأخّرين من علماء العامّة حرفوا النص عن وجهته فنقلوا الرواية بشكل آخر، قالوا:
زعم أحمد بن محمد بن السري أنّه سمع موسى بن هارون عن الحماني عن أبي بكر بن عياش عن عبدالعزيز بن رفيع عن أبي محذورة، قال: كنت غلاماً فقال النبيّ: اجعل في آخر أذانك «حيّ على خير العمل»(٢).
|
وبناء على هذا التلاعب قال الحافظ ابن حجر في خبر السري:
“وهذا حدثنا به جماعة عن الحضرمي عن يحيى الحماني وإنما هو: اجعل في آخر أذانك الصلاة خير من النوم”(٣).
|
لكن كلامه باطل من عدة جهات:
الأولى: أنّ مكان «حيّ على خير العمل» عند من يقول بها هي وسط الأذان لا في آخره، وأنّها من أصل الأذان لا زيادة فيه كالصلاة خير من النوم، وإنّما سوغ لهم هذا التلاعب تحريفهم نص السري عن وجهته، حيث جعلوا الحيعلة الثالثة في آخر الأذان، ليتسنى لهم ادعاء أنّ الرواية وردت بجعل «الصلاة خير من النوم» في آخره لا الحيعلة الثالثة.
الثانية: أنّ زيادة «الصلاة خير من النوم» جاءت متأخّرة، وقد قال مالك عنها
٣- لسان الميزان ١: ٢٦٨.
إذ لا شاهد له على ذلك إلاّ استعظامه واستكباره أن يرد مثل هذا الحديث في فضل آل محمّد، ولو أنصف لعلم أنّ مبغضي آل محمّد في النار وأنّه لا استكبار ولا استعظام. وهناك روايات كثيرة تشير إلى هذا المعنى، فقد يكون أحمد بن محمّد بن السري نقل الحديث بالمعنى، وهو جائز عند الفريقين، ومحض الانفراد ـ لو صحّ ـ لا يدلّ على الوضع، خصوصاً مع أنّ لحديثه هذا شواهد ومتابعات كثيرة، وأحمد هذا ثقة بإجماعهم، ولم يعيبوا عليه إلاّ شيئاً لا يصح به قدح.
فأحمد بن محمّد بن السري المعروف بابن أبي دارم المتوفّى ٣٥١ هـ قال عنه الحافظ محمّد بن أحمد بن حمّاد الكوفي، بعد أنّ أرّخ وفاته: كان مستقيم الامر عامّة دهره، ثمّ في آخر أيّامه كان أكثر ما يُقرأ عليه المثالب، حضرته ورجل يقرأ
٣- مصنّف ابن أبي شيبة ١: ١٨٩.
وعليه فالخدشة في ابن أبي دارم جاءت لروايته المثالب لا لسوء حفظه واختلاطه بأخَرَة و..، بل لروايته أشياء لا ترضي الآخرين من القول برفس فاطمة، وشرعيّة حيّ على خير العمل، وأنّ النار تلتقط مبغضي آل محمّد وغيرها.
وقد تلحض مما سبق: إمكان الخدش في خبرَي أبي محذورة وبلال المُدَّعِيَيْنِ لنسخ الحيعلة الثالثة، والمُعَارَضَيْنِ بما رواه العلوي. ونلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ هذين الخبرين بمجردهما قد لا يصلحان لإثبات شرعية حيّ على خير العمل، بل إن ثبوتها عندنا يرجع إلى ما عندنا من طرق صحيحة في ذلك، ويؤيده تأذين أهل البيت والصحابة بذلك، وهو ما ستعرفه بعد قليل، الأمر الذي يتفق مع سيرة بلال وحياته الفكرية التي ستقف عليها في الفصل الثاني “حذف الحيعلة وامتناع بلال عن التأذين” من هذا الباب.
مشيرين إلى أنّ الملابسات العلمية التي تعرضنا لها آنفاً ينبغي أن تحدّ من إسراف من يدّعي النسخ ويلهج بوجود الناسخ بلا دليل مُرْض، وهذا هو الذي أشار إليه الشريف المرتضى (ت ٤٣٦ هـ) بقوله:
وقد روت العامة أنّ ذلك مما كان يقال من بعض أيّام النبيّ وإنّما ادُّعي أنّ ذلك نُسِخَ ورُفِعَ، وعلى من ادّعى النسخ |