الأذان بين الأصالة والتحريف / الصفحات: ٣٠١ – ٣٢٠
فالأذان وإن كان من شعائر الدين، لكنّ فصوله تنطوي على أهم أصول
قال: الولاية أفضل ; لأنّها مفتاحهنّ، والوالي هو الدليل عليهنّ ـ إلى أن قال ـ إنّ أفضل الأشياء ما أنت عليه إذا فاتَكَ لم يكن منه توبة دون أن ترجع إليه فتؤدّيه…
|
وعليه فمبحث الإمامة والولاية من المسائل المهمة والمختلف فيها بين المسلمين، بل من المسائل المتجذرة في تاريخ الإسلام، وقد كتب فيها الأعلام مصنفات كثيرة ولا يسع هذه الدراسة الإحاطة بجوانبها، لكننا نكتفي بالإشارة إلى قليل من مجموع مئات الأدلّة المستدلّ بها على الإمامة، نأتي بها كي نوضّح معنى ومقصود الإمام الكاظم، وكيف: أنّ الولاية خير من الجهاد والصلاة وسواهما.
بعض أدلّة الولاية
وليكن الكلام أولاً عن آية المودّة ; مفهومها ومعطياتها، وهل تعني المحبة كما يقولون أم تعني شيئاً أكثر من مجرّد المحبة؟
بل هل هناك اختلاف بين قوله {لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} وقوله {قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}؟
وعلى أيّ شيء تدل هذه الآية الأخيرة بالتحديد؟
وهل يعقل أن يحصر شخصٌ رساليٌّ عظيم كرسول الله (صلى الله عليه وآله) أجرَ رسالته ـ الّتي ما أوذي نبي مثل ما أوذي (صلى الله عليه وآله) هو عليها ـ بحبّ أقربائه وعشيرته؟
وهل إنّ قرار الرسول هذا جاء لتحكيم أسرته وعشيرته وتقوية الروح القبلية
ثمّ مَن هم أقرباؤه المعنيّون في هذه الآية؟
المعلوم أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) أوجب مودّة قرباه لا لتعظيم الجانب القبلي والعشائري، إذ الثابت عن رسالة السماء أنّها تخالف هذه النزعة الجاهلية الضيّقة ; حيث ذمّ الباري عمَّ النبيّ وزوجة عمّه في سورة نزلت في عمّ رسول الله، أبي لهب، دون اعتبار لنسبه منه (صلى الله عليه وآله): {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَب * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِن مَسَد}.
إذاً لا يكون المعنيُّ بالقربى عشيرته وأقرباءَه بما هم أقرباؤه وعشيرته، بل المعنيّ بذلك فئة خاصة منهم، لهم سمات وخصائص تجعلهم أمناء على دين الله وواسطة للفيض الإلهي، وهؤلاء هم الصادقون والمطهرون الذين أذهب الله عنهم الرجس، وقد نوّهنا بطرف من منزلتهم فيما مضى.
إذ لا يعقل أن يأمر اللهُ ورسولُه المؤمنين بالتودّد إلى مَن ليس بأهل للمودّة، وإلى من هو منحرف عن الجادة ـ والعياذ بالله ـ بل إنّ أمره بالتودد إليهم يشير إلى أنّ لهؤلاء القربى خصائص يتميّزون بها ليست للآخر ين، كالعلم والفضل والتقوى والصبر و… وهذه المقوّمات هي التي جعلت من هؤلاء قدوة، وقد عرّفهم سبحانه في آية التطهير وحصرهم بمن تحت الكساء وهم بعد النبيّ محمَّد (صلى الله عليه وآله): عليّ وفاطمة والحسن والحسين.
من يعرف الدين الإسلامي يعلم بأنّ الإسلام يهتم بالقيم والمثل لا العلائق والاتجاهات القبلية والعشائرية، فقد جعل رسولُ الله سلمانَ الفارسي من أهل بيته لما امتلكه من مؤهّلات وخصائص ذاتية ومعنوية مع عدم امتلاكه أي علائق مع
كانت مودّةُ سلمان لَهُ رحماً | ولم يكن بَينَ نوح وابنِهِ رَحِمُ |
المسألة إذاً أعظم مما تُصوِّره مدرسة الخلفاء ونهج الاجتهاد والرأي من أن الآية تعني المحبّة بما هي محبة مجرّدة، وأنّ رسول الله أراد الاهتمام بعشيرته وأقربائه وذويه، بل إنّ آية المودّة تشير إلى مبدأ آخر واضح للمفكّر اللّبيب، لأنّ الشارع لا يأمر بمحبة من هو ليس بأهل أو بمحبة الفاسق والفاجر ـ والعياذ بالله ـ بل سبحانه يأمر بمودّة من له خصوصية أن يكون واسطة للفيض الإلهي وصيانة الأحكام، وإجراء الحدود على وجهاتها الصحيحة، وحفظ الثغور، وتقسيم الفيء، وردّ الشبهات، وغيرها من مستلزمات صيانة الدين الحنيف وحفظه، وهو دليل على سلامة القربى المعنيين في الآية من العيب والنقص، إذ جعلهم عِدلاً للقرآن الذي لا يأتيه ريب، وعلّق أجر رسالته ـ التي لاقى الصعاب من أجلها ـ على مودتهم.
قال الزمخشري في الكشاف بعد طرحه سؤالاً وجوابه: وروي أنّها لمّا نزلت، [قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ] قيل: يا رسول الله، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: عليّ وفاطمة وابناهما. ويدل عليه ما روي عن عليّ رضي الله عنه: شكوت إلى رسول الله حسد الناس لي، فقال: أما ترضى أن تكون رابع أربعة: أوّل من يدخل الجنَّة، أنا وأنت والحسن والحسين، وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا، وذريّتنا خلف أزواجنا(١).
وعن النبيّ(صلى الله عليه وآله): حرمت الجنَّة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي.
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: ألم تكونوا ضُلاّلاً فهداكم الله بي؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: أفلا تجيبوني؟
قالوا: ما نقول يا رسول الله؟
قال: ألا تقولون: ألم يخرجك قومك فآويناك؟ أو لم يكذّبوك فصدّقناك؟ أو لم يخذلوك فنصرناك؟
قال: فما زال يقول حتّى جَثَوا على الرُّكَب، وقالوا: أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله، فنزلت الآية وقال رسول الله:
من مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفوراً له، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات تائباً، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمناً مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة ثمّ منكر ونكير، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد يُزَفّ إلى الجنَّة كما تُزَف العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد
وروى صاحب الكشّاف أنّه لما نزلت هذه الآية قيل: يا رسول الله، مَن قرابَتُك هؤلاء الذين وَجَبت علينا مودّتُهم؟
فقال: علي وفاطمة وابناهما. فثبت أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النبي، وإذا ثَبَت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيدِ التعظيم، ويدل عليه وجوه: الأوّل: قوله تعالى: {إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ووجه الاستدلال به ما سبق. الثاني: لا شكّ أنّ النبي كان يحبّ فاطمة، قال(صلى الله عليه وآله): فاطمةُ بضعةُ مِنّي يُؤذيني ما يُؤذيها، وثبَت بالنقل المتواتر أنّه كان يحبّ عليّاً والحسن والحسين. وإذا ثبت ذلك وجب على كل الأمة مثله ; لقوله {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ولقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} ولقوله {قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ |
وعليه، فالأجر على الرسالة لابدّ أن يرتبط بأصل الرسالة، ولا معنى لما يقال من إرادة التودّد العاطفي البحت لذوي القربى، بل المعنيّ به هو أنّ هذه النخبة الصالحة هي التجسيد الواقعي للدين وصمّام الأمان للرسالة، وأنّ التودّد إليهم سيعود بالنفع على الناس قبل النفع على القربى، لأنّها لا تز يد القربى مقاماً ومنزلة إذ منزلتهم محفوظة من عند الله، فهم مستودع العلم وظرف الرسالة، وهذا ما صرّح به الذكر الحكيم بقوله {إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} لا (المودة للقربى)، وفي هذا إيماء لطيف إلى أنّهم غير محتاجين إلى مودة الناس، بل إنّ مودّتهم تؤدّي بالناس إلى الخير والصلاح، لأنّ التودّد الذي تكون القربى ظرفاً له سيربطهم بالرسالة وصاحبها ارتباطاً وثيقاً ترجع خيراته إلى الناس، وهو لطف من الله للبشر، إذ جعل مودّة أهل بيتِ رسولِهِ سبباً لنجاتهم من الهلكة، وهي من قبيل جعل حب الإمام عليّ وبغضه مقياساً لمعرفة المؤمن من المنافق، وقد كان المنافقون من الصحابة يُعرَفُون ببغضهم لعليّ بن أبي طالب، فقد ثبت عن أبي سعيد الخدري قوله:
” إنّا كنّا نعرف المنافقين ـ نحن معاشَر الأنصار ـ ببغضهم عليّ بن أبي طالب “(٢).
إذاً كان عليّ بن أبي طالب محكًّا للأنصار ولغيرهم(٣)، وهذا بخلاف قوله (صلى الله عليه وآله) في الأنصار (لا يحبّهم إلاّ مؤمن ولا يبغضهم إلاّ منافق)(٤).
ففي النص الأوّل كان شخص عليّ بن أبي طالب هو المعيار لمعرفـة المؤمـن مـن المنافق، بخلاف الأنصار الذين يرجع حبّهم إلى ما فعلوه من نصـرتهم لنشـر الديـن الإسـلامي والسـعي في إيواء المسـلمين وقيامهـم في مهـمات الديـن.
قال النووي في شرح مسلم (إنّ من عرف مرتبة الأنصار…. وعرف من عليّ ابن أبي طالب قربه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحبّ النبيّ له، وما كان منه في نصرة الإسلام وسوابقه ثمّ أحب الأنصار وعليّاً لهذا، كان ذلك من دلائل صحّة إيمانه وصدقه في إسلامه، لسروره بظهور الإسلام والقيام بما يرضي الله سبحانه وتعالى
٣- ومن هنا أنشأت عائشة تقول في حق علي(عليه السلام):
إذا ما التِّبر حُكّ على محكٍّ | تبيّن غشّه من غير شكِّ |
وفينا التبر والذهب المصفّى | عليّ بيننا شبه المَحكِّ |
الكنز المدفون للسيوطي: ٦٨.
٤- صحيح مسلم ١: ٨٥ ح ١٢٩ كتاب الايمان.
ومثل الإمام عليّ كانت الصدّيقة فاطمة الزهراء، إذ علّق الباري عزّ وجلّ رضاه وغضبه على رضاها وغضبها ; لقوله (صلى الله عليه وآله): ” إنَّ الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك “(٢)، فصار رضى فاطمة معياراً لرضى الله، وهو دليل على نزاهتها المطلقة وعصمتها وطهارتها التامّة من كلّ ما يشين، إذ لا يعقل تعلق رضى الله برضى إنسان غير معصوم.
ولا يفوتنك ما أخرجه الحاكم في المستدرك عن أبي ذر الغفاري، قال: قال رسول الله: ” من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع علياً فقد أطاعني، ومن عصى علياً فقد عصاني “.
وقال: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه(٣).
وفي هذا الحديث دلالة على كمال الإمام عليّ وعصمته، لأنا نعلم أن رسول الله لا يداهن ولا يجامل ولا يبالغ، وبذلك يكون معنى الحديث أن إرادة الإمام
٣- المستدرك على الصحيحين ٣: ١٢١.
وعلى هذا فالدعوة إلى المودّة في القربى ونقل فضائلهم هي مقدِّمة إلى لزوم الأخذ بنهجهم والاهتداء بهداهم ; لتعلّق أجر الرسالة بها، بل هو تعبير آخر عمّا جاء في حديث الثقلين ” ما إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً ” لانّ مفهوم السنّة لغة: هو الطريق، والصراط، والجادّة، واصطلاحاً: هو اتّباع الرسول قولاً وفعلاً وتقريراً.
وقد أرشَدَنا الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى لزوم اتّباع العترة، فيكون الابتعادُ عن هؤلاء ابتعاداً عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) والإسلام، وهو عين الضلالة والهلكة، لأنّه لا هدى إلاّ بالقرآن والنبيّ والعترة، فعلي مع القرآن، والقرآن مع عليّ ” لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض “(٢).
ولو تأمّلت في هذه العبارة لعرفت مكانة الإمام عليّ ولرأيته في رتبة المعيّة مع القرآن، وهي نسبة تقوم بطرفين، ويستحيل أن تقوم بطرف واحد، وعندما قال
وربّما كان فيها إشارة إلى أنّ المَقْرون أقلّ رتبةً من المقرون به، لهذا أعاد النبيّ (صلى الله عليه وآله) صياغة هذه المعية، ليقول للمفكّرين: لا ينبغي أن تفهموا من قولي: ” عليّ مع القرآن ” أن عليّاً أقلّ رتبة من القرآن، بل القرآن مع عليّ أيضاً، فهما وجودان متعادلان “(١).
ويؤيّد هذا الاستنتاج ما جاء عن النبيّ: ” عليّ مني وأنا من عليّ “(٢)، وقوله (صلى الله عليه وآله) لعليّ: ” أنت مني وأنا منك “(٣).
ولو جمعنا آية المودة، مع آية التطهير، مع حديث الثقلين، وما جاء في أهل الكساء، وقوله: لا يزال الدين عزيزاً حتّى يكون منهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش(٤)، وقوله: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية(٥)، وغيرها
٣- صحيح البخاري ٣ ـ ٤: ٣٦٣ ـ ٣٦٤ كتاب الصلح / باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان…
٤- صحيح مسلم ٦: ٤ كتاب الامارة، سنن بي داود ٤: ١٠٦ ح ٤٢٨٠.
٥- وسائل الشيعة ١٦: ٢٤٦ كتاب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكذا لا يصحّ ما قاله البعض الآخر: من أنّ الآية تشير إلى معنى تودّد المسلمين في التقرّب إلى الله، ومعنى كلامهم هذا أنّ القربى استعملت بمعنى مطلق التقرّب، وهذا باطل لغو ياً حيث لم يرد هذا المعنى في المعاجم.
ويضاف إليه: كيف يمكن للرسول أن يوقف أجر رسالته على نفسها، لأنّ المسلم وباتّباعه الرسالة يحصل له القرب إلى الله، فلا معنى للتودّد والإلحاح في القرب إليه ; لأنّه توقيف الشيء على نفسه، وإن كان كذلك فلا يكون أجر الرسالة بل هو نتيجة الرسالة.
هذا، وإنّك لو طالعت التاريخ الإسلامي لعرفت أنّ مفهـوم القـربى كان في الصدر الأوّل يطلق على عليّ وفاطمة والحسـنين، ثمّ أطلقت على أبنائهم المعصومين لاحقاً.
روى الحاكم النيسابوري في المستدرك عن الإمام الحسن قوله: وأنا من أهل البيت الذين افترض الله مودتهم على كلّ مسلم فقال تبارك وتعالى {قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} فاقتراف
وعن ابن عبّاس أنّه قال: لما نزلت هذه الآية {قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين أمر الله بمودّتهم؟ قال: فاطمة وولدها:(٣).
وثبت عن عليّ بن الحسين أنّه قال للشامي رداً على تنكيل الشامي به: أما قرأت كتاب الله عزّوجلّ؟
قال الشامي: نعم.
فقال عليّ بن الحسين: أما قرأتَ هذه الآية {قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}.
قال: بلى.
فقال له عليّ بن الحسين (عليه السلام): فنحن أولئك، فهل تجد لنا في سورة بني إسرائيل حقاً خاصّة دون المسلمين؟
فقال: لا.
فقال عليّ بن الحسين: أما قرات هذه الآية {وآت ذا القُربى حقَّه}؟
قال: نعم.
قال عليّ بن الحسين: فنحن أولئك الذين أمر الله عزّ وجلّ نبيه أن يؤتيهم
٣- تفسير ابن أبي حاكم ١٠ ص ٣٢٧٧.
فقال عليّ بن الحسين: نعم، فهل قرأت هذه الآية {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْء فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى}.
فقال الشامي: بلى.
فقال عليّ بن الحسين: فنحن ذوو القربى، فهل تجد لنا في سورة الأحزاب حقّاً خاصّة دون المسلمين؟
فقال: لا.
قال عليّ بن الحسين: أما قرأت هذه الآية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.
قال: فرفع الشامي يده إلى السماء ثمّ قال: اللّهمّ إنيّ أتوب إليك ـ ثلاث مرات ـ اللّهمّ إني أتوب إليك من عداوة آل محمّد، وأبرأ إليك ممن قتل أهل بيت محمّد، ولقد قرأت القرآن منذ دهر فما شعرتُ بها قبل اليوم(١).
وهذا النص يؤكّد لنا وضوح دلالة هذه الآيات المباركة، حيث إن الشيخ الشامي فهم معانيها بأدنى تأمّل، وبمجرّد إيضاح الإمام السجّاد (عليه السلام) له المراد من هذه الآيات. هذا من جهة، ومن جهة ثانية يبين هذا النص مدى التعتيم الإعلامي الأموي على أهل البيت، وتحريفات السلطة لمعاني هذه الآيات المباركة، ولذلك كأنّ الشيخ الشامي من قبل لم يشعر بها وبمعانيها. ولم يعرف المصداق الأكمل لها في زمانه.
ومثله روى حكيم بن جبير، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: كنت أجالس
وبعد هذا فلنا أن نحتمل أنّ الله تعالى قد ألمح في قوله {قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (٣)، إلى ما تُلاقيه هذه المجموعة الصالحة من قربى الرسول من أمّته بعده.
فعن خالد بن عرفطة، قال: قال رسول الله: إنكم ستُبتَلَون في أهل بيتي من بعدي(٤).
وقال الإمام الباقر: بَليةُ الناس علينا عظيمة ; إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا(٥).
٣- سورة الشورى الآية: ٢٣.
٤- كنز العمال ١١: ١٢٤/٣٠٨٧٧.
٥- الارشاد ٢: ١٦٧، مناقب آل أبي طالب ٤: ٢٠٦، بحار الأنوار ٤٦: ٢٨٨ ح ١١ عن الارشاد.
واشتهر عن محمّد بن إدريس الشافعي قوله: ماذا أقول في رجل أخفت أصدقاؤه فضائله خوفاً، وأخفت أعداؤه فضائله حسداً، وشاع له من بين ذَين ما ملأ الخافقين(٣).
من هذا يتبيّن لنا أنّ آية المودة هي معنىً آخر لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (٤) والأخيرة صر يحة في نزولها في حجة الوداع ويوم غدير خُمّ.
ولا يصحّ ما قالوه من أنّها نزلت في أوّل البعثة لمّا خاف رسول الله (صلى الله عليه وآله) من التبليغ، فهدّده الله وطمأنه.
أو ما قالوه من أنّها نزلت في مكّة قبل الهجرة فاستغنى بها النبيّ عن حراسة عمّه أبي طالب.
أو ما قـالـوه من نـزولهـا في المديـنة في السـنة الثانية للهـجرة بعد غـزوة
٣- حلية الابرار ٢: ١٣٦ (للبحراني)، مشارق أنوار اليقين للبرسي: ١٧١، وقيل هي للخليل بن أحمد اللغوي الشهير كما جاء في ملحقات السيّد المرعشي على إحقاق الحق ٣: ٤٠٦، ٤: ٢. وقد نسب العلاّمة الحلي هذه المقولة لأحد الفضلاء دون ذكر اسمه انظر: كشف اليقين: ٤.
٤- المائدة: ٦٧.
وأكثر من ذلك، هو أنّ الرسول لو كان قد حُمِيَ هذه الحماية في بدء الدعوة واسـتغنى عن حماية أبي طالب، فما معنى تلك النصوص الصـادرة عنه (صلى الله عليه وآله) إلى القـبائل والتي يطـلـب منهـم أن يحمـوه؟ بل ما معنى هجرته من مكّة إلى المـدينة المـنوّرة؟
فالآية صر يحة في نزولها في آخر حياته الشر يفة، وبعد حجة الوداع، إذ لو كانت في بدء الدعوة فلا معنى لعبارة {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} إذ لم ينزل إليه إلاّ الشيء اليسير، وهذه الجملة تدلّ على الماضي الحقيقي وهو يتطابق مع نزولها في آخر حياته (صلى الله عليه وآله)، وخصوصاً حينما نرى توقّف أمر الرسالة عليه {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}!
وعليه فالآيتان ـ آية التبليغ وآية المودّة ـ دالتان على شيء واحد مرتبط بأجر الرسالة وتبليغها، وهما أمران مَولَويّان من الباري جل شانه {قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} و {وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، وكلاهما يرتبط بأمر الولاية والخلافة الإلهية، لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يخاف من رجوع أمّته القهقرى ـ وهي كائنة لا محالة ـ وذلك لاجتماع قريش على العصبية والقبلية وسعيهم لإبعاد الإمام عليّ عن الخلافـة وإمـرة المؤمنين ; لأنّـه وَتَر قر يشاً وكَسَر شـوكتها وعظمتها.
وقوله {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلاَّ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا اسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} (٣).
وقوله {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} (٤).
وقوله {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمينَ} (٥).
وهكذا نجد أنّ كلمات هؤلاء الأنبياء الكرام: كانت واحدة متطابقة تعبّر عن معنىً واحد محدّد معلوم، هو أنّهم لم يطلبوا من الناس أجراً على الرسالة، وإنّما أجرهم ” على ربّ العالمين “.
أما الرسول المصطفى فيقول {قُل لاَأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} (٦)
٣- الشعراء: ١٤٥.
٤- الشعراء: ١٦٤.
٥- الشعراء: ١٨٠.
٦- الانعام: ٩٠.
إن المقدمة السابقة قد تكون وضحت جواب هذا الأمر، خصوصاً بعدما عرفت أنّ رسالة المصطفى هي الرسالة الخاتمة، فلا يمكن إبقاء هذه الرسالة إِلاَّ بـ {ذِكْرٌ لِلْعَالَمِين} و {مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} وهما القرآن والعترة، وذلك لوجود نصوص كثيرة تشير إلى أنّ أهل البيت هم (الذكر) و(السبيل) إلى الله، وهو ما اصطلح عليه في كلام النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالثقلين، فيصير معنى الآية وكلام النبيّ لزوم اتّخاذ السبيل إلى الله وهم القربى، وأنّ اتّخاذ هذا السبيل سيعود نفعه على الناس، (عليكم). أمّا أجر رسول الله فهو على الله لقوله سبحانه في سورة سبا {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْر فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ} (٣). ومعنى الآية: أني قمت بواجبي، وأدّيت ما علَيَّ، ولا أسألكم عليه من أجر بعد المودّة إن أجري إلاّ على الله، لكن لو أردتم الانتفاع من هذه الرسالة والنجاة فاتصلوا بالسبب الممدود بين الأرض والسماء وهو القرآن والعترة.
وبهذا فلا تناف بين قوله {لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} وبين قوله {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْر فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} (٤).
إنّ هذا لَيقترب بنا من فهم المعنى العميق لـ ” حيّ على خير العمل ” الذي نصّ
٣- سبأ: ٤٧.
٤- للإمام الباقر توضح بهذا الصدد انظر: روضة الكافي ٨: ٣٧٩.